التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١
-الحجرات

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال العلماء: كان في العرب جَفاءٌ وسوءُ أدب في خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وتلقيب الناس. فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرميّ: «لاَ تَقَدَّمُوا» بفتح التاء والدال من التقدّم. الباقون «تُقَدِّمُوا» بضم التاء وكسر الدال من التقديم؛ ومعناهما ظاهر. أي لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيلُه أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدّم قولَه أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدّمه على الله تعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل.

الثانية ـ واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة:

الأول ـ ما ذكره الواحديّ من حديث ابن جريج قال: حدّثني ٱبن أبي مُليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره: أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمِّر القَعْقاع بن مَعْبد. وقال عمر: أمِّر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردتُ خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما؛ فنزل في ذلك: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ـ إلى قوله ـ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ }. رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح؛ ذكره المهدَوِيّ أيضاً.

الثاني ـ ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلاً إذا مضى إلى خَيْبَر؛ فأشار عليه عمر برجل آخر؛ فنزل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }. ذكره المَهْدَوِيّ أيضاً.

الثالث ـ ما ذكره الماوردِيّ عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم؛ إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفأوا إلى المدينة؛ فلقوا رجلين من بني سُليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما؛ فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن بيننا وبينك عهداً، وقد قتل منا رجلان؛ فوداهما النبيّ صلى الله عليه وسلم بمائة بعير، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين. وقال قتادة: إن ناساً كانوا يقولون لو أنزل فيّ كذا، لو أنزل فيّ كذا؟ فنزلت هذه الآية. ابن عباس: نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. مجاهد: لا تفتاتوا على الله ورسوله حتى يقضي الله على لسان رسوله؛ ذكره البخاري أيضاً. الحسن: نزلت في قوم ذَبحُوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمرهم أن يعيدوا الذبح. ٱبن جريج: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قلت: هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي: وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم؛ فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها، ولعلها نزلت دون سبب؛ والله أعلم. قال القاضي: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح؛ لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج؛ وذلك بيّن. إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنًى مفهوم، وهو سدّ خَلّة الفقير، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر؛ فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغيّر النصاب تبيّن أنها صدقة تطوّع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة؛ وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز؛ لأنه معفوٌّ عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح؛ فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعانٍ تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلّي كما قاله أبو حنيفة والشافعيّ، وإمّا حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب.

الثالثة ـ قوله تعالى: { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ } أصل في ترك التعرّض لأقوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك " قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه:مُرُوا أبا بكر فَلْيُصَلّ بالناس. فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يَقُم مَقامَك لا يُسْمِع الناسَ من البكاء؛ فَمُرْ عمر فلْيصلّ بالناس. فقال صلى الله عليه وسلم:إنكنّ لأنتنّ صواحبُ يوسف. مُرُوا أبا بكر فليصلّ بالناس" . فمعنى قوله «صواحب يوسف» الفتنة بالردّ عن الجائز إلى غير الجائز. وربما احتج بُغَات القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم؛ فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنّة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع؛ فليس إذاً تقدّم بين يديه. { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } يعني في التقدّم المنهي عنه. { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لقولكم { عَلِيمٌ } بفعلكم.