التفاسير

< >
عرض

إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ
١
-النصر

معالم التنزيل

{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ }, أراد فتح مكة.

وكانت قصته - على ما ذكر محمد بن إسحاق وأصحاب الأخبار - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً عام الحديبية، واصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين, يأمن فيهن الناس, ويكف بعضهم عن بعض، وأنه من أحب أن يدخل في عَقْد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عَقْد قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خُزَاعَةُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بينهما شرٌّ قديم.

ثم إن بني بكر عَدَتْ على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة، يقال له "الوَتِير"، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدّئل من بني بكر حتى بيَّت خزاعة، وليس كلُّ بكرٍ تابعه, فأصابوا منهم رجلاً وتحاربوا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح, وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفياً بالليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم, وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين: صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، مع عبيدهم فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر: يا نوفل إنا دخلنا الحرم, إلَهك إلَهك, فقال كلمة عظيمة: إنه لا إله لي اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم فيه.

فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ونقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد بما استحلوا من خزاعة - وكانوا في عقده - خرج عمرو بنُ سالم الخزاعيُّ حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وكان ذلك مما هاج فتح مكَّة، فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظَهْراني الناس، فقال:

لاهم إنِّي ناشِدٌ محمَّدَاحِلْفَ أبينا وأبيهِ الأتْلَدَا
إنَ قريشاً أَخلَفُوكَ المَوْعِدَاونقضُوا مِيثاقَك المؤكَّدا

الأبيات كما ذكرنا في سورة التوبة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم" ، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: "إن هذه السحابةَ لتستهلُّ بِنَصْرِ بني كعبٍ" ، وهم رهط عمرو بن سالم.

ثم خرج بُدَيْلُ بن وَرْقَاء في نفرٍ من خزاعة, حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء لِيَشُدَّ العَقْدَ ويزيد في المدة.

ومضى بديل بن ورقاء فلقي أبا سفيان بعُسْفَان، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لِيَشُدَّ العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا, فلما لقي أبو سفيان بُدَيلاً قال: من أين أقبلت يا بُدَيْل؟ وظنَّ أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سرت إلى خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي، قال: أوَما أتيت محمداً؟ قال: لا، فلما راح بُدَيْل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف ناقته بها النَّوى, فعمد إلى مَبْرك ناقته فأخذ من بعرها ففتَّه فرأى فيه النَّوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بُدَيْلٌ محمداً.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أمِّ حبيبةَ بنتِ أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية أرغبت بي عن هذا الفراش أم أرغبت به عني؟ قالت: بلى هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لقد أصابك يا بُنَيَّة بعدي شيء.

ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئاً غير أنه قال: نقض أهل مكة العهد.

ثم ذهب إلى أبي بكر فكلَّمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل, ثم أتى عمر بن الخطاب فكلَّمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فوالله لو لم أجد إلا الذّرَّ لجاهدتُكم به, ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها الحسن بن علي رضي الله عنهما, غلامٌ يَدِبُّ بين يديها، فقال: يا علي إنك أمسُّ القومِ بي رَحِماً وأقربُهم مني قرابةً، وقد جئت في حاجةٍ فلا أرجعنَّ كما جئتُ خائباً، اشفع لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ويحك يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمرٍ ما نستطيع أن نكلِّمه فيه, فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد, هل لك أن تأمري بُنَيَّكِ هذا فيجير بين الناس فيكون سيِّدَ العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بُنَيّ أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، فقال: يا أبا الحسن - إني أرى الأمور قد اشتدَّت عليّ فانصحني، قال: والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأَجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أوَترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله، ما أظن, ولكن لا أجد لك غير ذلك.

فقام أبو سفيان في المسجد فقال: يا أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته والله ما رد عليّ شيئاً ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيراً، فجئت ابن الخطاب فوجدته أَعْدَى القوم، ثم أتيت عليَّ بن أبي طالب فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليّ بشيءٍ صنعتهُ, فوالله ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا؟ قالوا: وماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قالوا: والله إن زاد عليٌّ على أن لعب بك, فلا يغني عنّا ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.

قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجَهَازِ، وأمر أهله أن يجهِّزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بُنيّة أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تجهِّزوه؟ قالت: نعم فتجهَّزْ، قال: فأين تَرَيْنَهُ يريدُ؟ قالت: ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهمَّ خُذِ العيونَ والأخبار عن قرش حتى نَبْغَتَها في بلادها, فتجهز الناس.

وكتب حاطِبُ بنُ أبي بَلْتَعَةَ كتاباً إلى قريش - وفيه قصة ذكرناها في سورة الممتحنة -.

ثم استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا رُهْم كلثومَ بنَ حُصَيْنٍ بن خلف الغفاري، وخرج عامداً إلى مكة لعشر مَضَيْنَ من رمضان سنة ثمانٍ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد - ما بين عُسْفَان وأمَجّ - أفطر.

ثم مضى حتى نزل بمرِّ الظَّهْران, في عشرة آلاف من المسلمين، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار عنه أحد، فلما نزل بمر الظَّهران, وقد عميت الأخبار عن قرش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدرون ما هو فاعل، فخرج في تلك الليلة: أبو سُفْيان بن حَرْب, وحكيمُ بن حِزَامٍ, وبُدَيْلُ بن ورقاء, يتحسسون الأخبار هل يجدون خبراً؟ وقد قال العباس بن عبد المطلب ليلتئذٍ: وَاْصباحَ قريش، والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلادها فدخل مكة عنوة إنها لهلاك قريش إلى آخر الدهر.

فخرج العباس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطّاباً أو صاحبَ لبنٍ أو داخلاً يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتونه فيستأمنونه قبل أن يدخلها عليهم عنوة.

قال العباس فخرجت وإني - والله - لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذْ سمعتُ صوتَ أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسسون الخبر، فسمعت أبا سفيان يقول: والله ما رأيت كالليلة قطُّ نيراناً، وقال بُدَيل: هذه والله نيرانُ خزاعةَ حَمَشَتْها الحرب، فقال أبو سفيان خزاعة ألأمُ من ذلك وأذلُّ، فعرفت صوتَه فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: يا أبو الفضل، فقلت: نعم، فقال: مالَك فداك أبي وأمي؟ قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا, والله، رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بما لا قِبَلَ لكم به, بعشرة آلاف من المسلمين، قال: وما الحيلة؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليَضْرِبَنَّ عنقك, فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه، فردفني, ورجع صاحباه فخرجت أركض به بغلةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إليّ وقالوا: هذا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إليّ فلما رأى أبا سفيان على عَجُزِ الدابة, قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عَقْد، ثم اشتدَّ نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فركضتُ البغلة وسبقته بما تسبق الدابةُ البطيئةُ الرجلَ البطيء، فاقتحمت عن البغلة فدخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر, فقال: "يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني فلأضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله إني قد أَجَرتُه، ثم جلست إلى رسول الله فأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة أحدٌ دوني, فلما أكثر فيه عمر رضي الله عنه قلت: مهلاً يا عمر, فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدِّي بن كعب ما قلتَ هذا. قال: مهلاً يا عباس فوالله لإِسلامُكَ يوم أسلمت كان أحبَّ إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رَحْلِك, فإذا أصبحتَ فأْتِني به، قال: فذهبت إلى رَحْلي فبات عندي, فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يَأْنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي, ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إلهٌ غيره فقد أغنى عني شيئاً بعدُ، قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يَأْنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أمّا هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً، قال العباس: قلت له: ويحك! أَسْلِمْ واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قبل أن يضرب عنقك، قال فشهد شهادةَ الحقِّ وأسلم, قال العباس: قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر, فاجعلْ له شيئاً، قال: نعم, مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمِنٌ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن, ومن دخل المسجد فهو آمن, فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباسُ احبِسْهُ بمَضِيق الوادي عند خَطْم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها, قال: فخرجت به حتى حبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم" .

قال: ومرَّتْ به القبائلُ على راياتها، كلَّما مرتْ قبيلة قال: من هؤلاء يا عباس؟ قال: أقول: سُلَيْم، قال يقول: مالي ولِسُلَيْمٍ، ثم تمر القبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: مُزَيْنَةُ، فيقول: مالي ولمزينة، حتى نفذت القبائل لا تمرّ قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته يقول: مالي ولبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء, كتيبة رسول الله, فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرَى منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، فقال: والله ما لأحدٍ بهؤلاء من قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقال: ويحك! إنها النبوة، قال: نعم إذاً.

فقلت: الْحَقِ الآن بقومك فحذِّرهم, فخرج سريعاً حتى أتى مكة فصرخ في المسجد بأعلى صوته: يا معشر قريش, هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، قالوا: فمه؟ قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: ويحك وما تغني عنّا دارك؟ قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.

قال: وجاء حَكِيمُ بن حزام وبُدَيْل بن ورقاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران فأسلما وبايعاه، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه إلى قريش يَدْعُوَانهم إلى الإسلام.

"ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند النبي صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة بعث في إثرهما الزبير وأعطاه رايته وأَمَّره على خيل المهاجرين والأنصار، وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحُجُون، وقال: لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتِيَك ومن ثَمَّ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وضربت هناك قبته. وأمر خالد بن الوليد فيمن أسلم من قضاعة وبني سليم أن يدخل من أسفل مكة وبها بنو بكر فد استنفرتهم قريش وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش, أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، وإن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وكانوا قد جمعوا أناساً بالخَنْدَمة ليقاتلوا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد والزبير حين بعثهما: لا تقاتلا إلا من قاتلكم وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كُدَي، فقال سعد حين توجه داخلاً: اليوم يوم المَلْحَمة, اليوم تُسْتَحَلُّ الحرمةُ، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله, اسمعْ ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: أَدرِكْه فخذِ الراية منه، فكن أنت الذي تدخل بها فلم يكن بأعلى مكة مِنْ قِبَل الزبير قتالٌ، وأما خالد بن الوليد فقدم على قريش وبني بكر والأحابيش بأسفل مكة، فقاتلهم فهزمهم الله، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك" .

وقتِل من المشركين قريبٌ من اثني عشر أو ثلاثة عشر، ولم يُقتل من المسلمين إلا رجل من جُهَيْنَة يقال له: سَلَمة بن المَيْلاء, من خيل خالد بن الوليد، ورجلان يقال لهما كُرْزُ بن جابرٍ وخُنَيْس بن خالد, كانا في خيل خالد بن الوليد، فشذّا عنه وسلكا طريقاً غير طريقه، فقتلا جميعاً.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا أحداً إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نَفَرٍ سمَّاهم أمر بقتلهم، وإنْ وُجدوا تحت أستار الكعبة. منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإنما أمر بقتله لأنه كان قد أسلم فارتدَّ مشركاً، ففرّ إلى عثمان, وكان أخاه من الرضاعة، فغيَّبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن أهل مكة، فاستأمن له.

وعبد الله بن خَطَل, كان رجلاً من بني تميم بن غالب، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلماً فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقاً، وكان له مولى يخدمه وكان مسلماً، فنزل منزلاً وأمر المولى أن يذبح له تَيْساً ويصنع له طعاماً، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركاً، وكانت له قيْنَتَان تغنّيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه.

والحُوَيْرُث بن نُقَيْذ بن وهب, كان ممن يؤذيه بمكة.

ومِقْيَس بن صبابة، وإنما أمر بقتله, لقتله الأنصاريَ الذي قتل أخاه خطأً ورجوعه إلى قريش مرتداً.

وسارة؛ مولاة كانت لبعض بني المطلب كانت ممن يؤذيه بمكة.

وعكرمة بن أبي جهل، فأما عكرمة فهرب إلى اليمن, وأسلمت امرأتُه أمُّ حكيم بنت الحارث ابن هشام, فاستأمنَتْ له رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأمّنه، فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم.

وأما عبد الله بن خطل, فقتله سعدُ بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي, اشتركا في دمه، وأما مقيس بن صبابة, فقتله تُمَيْلَةُ بن عبد الله, رجل من قومه, وأما قَيْنَتَا ابن خطل؛ فقُتِلتْ إحداهما وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنها، وأما سارة, فتغيبت حتى استُؤمن لها فأمّنها، فعاشت حتى أوطأها رجلٌ من الناس فرساً له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها, وأما الحويرث بن نقيد، فقتله علي بن أبي طالب.

فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة "وقف قائماً على باب الكعبة وقال: لا إله إلا الله وحده، صدقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحده، ألا إن كل مَأْثُرَةٍ أو دمٍ أو مالٍ في الجاهلية يدّعى فهو تحت قدميَّ هاتين، إلاّ سَدَانة البيت وسقاية الحاج، يا معشر قريش, إن الله قد أذهب عنكم نَخْوَةَ الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناسُ من آدم وآدم خُلق من تراب، ثم تلا: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } [الحجرات: 13] الآية، يا أهل مكة, ماذا ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً, أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم, قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء, فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة، فلذلك سُمّي أهل مكة الطلقاء" .

ثم اجتمع الناس للبيعة؛ فجلس لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء.

قال عروة بن الزبير: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن, فقال عمير بن وهب الجمحي: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيّدُ قومي، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر، فأَمِّنْهُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو آمن، قال: يا رسول الله أعطِني شيئاً يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي أذكّركَ الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به، فقال: ويلك اغْرُبْ عني فلا تكلِّمني، قال: أي صفوان فداك أبي وأمي, أفضلُ الناس وأبُر الناس, وأحلمُ الناس, وخير الناس, ابن عمِّك عِزُّه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك أَمَّنْتَنِي؟ قال: صدق، قال فاجعلني في أمري بالخيار شهرين، قال أنت فيه بالخيار أربعة أشهر.

قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف, وكان فتح مكة لعشر ليالٍ بَقِينَ من رمضان سنة ثمان، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة.

ثم خرج إلى هوازن وثقيف، وقد نزلوا حنيناً:

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو نعيم, حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة, أن خزاعة قتلوا رجلاً... وقال محمد بن إسماعيل: قال عبد الله بن رجاء: حدثنا حرب عن يحيى, حدثنا أبو سلمة "حدثنا أبو هريرة: "أنه عامَ فتحِ مكةَ قتلتْ خزاعةُ رجلاً من بني لَيْث بقتيلٍ لهم في الجاهلية، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليهم رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تَحِلَّ لأحد قبلي, ولا تحلُّ لأحدٍ من بعدي، ألا وإنها أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه, حرام لا يُخْتَلى شوكُها ولا يُعْضَدُ شجُرها، ولا يَلتقِط ساقطتَها إلا منشدٌ، ومَنْ قُتِل له قتيلٌ فهو بخير النظر إما أن يؤدَّى وإما أن يقاد، فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاهٍ فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه, ثم قام رجل من قريش فقال: يا رسول الله إلا الإِذْخِرَ فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر" .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب عن مالك, عن أبي النضر - مولى عمر بن عبيد الله - أن أبا مرّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: "ذهبتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح, فوجدتُه يغتسل, وفاطمة ابنته تستره بثوبٍ، قالت: فسلَّمتُ، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانىء بنت أبي طالب، قال: مرحباً بأمِّ هانئ, فلما فرغ من غسله قام فصلَّى ثماني ركعات مُلْتَحِفاً في ثوبٍ واحد، ثم انصرفَ فقلت له: يا رسول الله, زعم ابن أمي, عليُّ بن أبي طالب, أنه قاتلٌ رجلاً أَجَرْتُه، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجَرْنَا من أجرتِ يا أم هانيءٍ, وذلك ضحىً" .

قوله عزّ وجلّ: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } إذا جاءك نصر الله يا محمد على من عاداك وهم قريش، { وَٱلْفَتْحُ } فتح مكة.