التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ
١
-الطارق

تفسير صدر المتألهين

لما فيها من الشواهد الجليّة والخفيّة على معرفة ذاته وصفاته، ولهذا عظّم الله أمر السماء والنجوم في كتابه المجيد، فأقسم بهما في كثير من الآيات كقوله: { { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [البروج:1] وقوله: { { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [الشمس:1 - 2] وقوله: { { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [التكوير:15 - 16] وقوله: { { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [النجم:1] وقوله: { { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة:75 - 76] كلّ ذلك تنبيها على أنّها صومعة القدّوسين، ومعبد الروحانيّين، ودلائل صُنع خالق السموات والأرضين، وآيات عظمة أوّل الأولين، هو الذي نوَّرها وصوَّرها، ودوَّرها ورقَّصها في دوام إشراقاته عليها، وشوقها إلى مزيد إفاضاته ورسالاته إليها، وحرّكها بالتسبيح والتهليل، وهداها التوسّل إلى الربّ الجليل.
فما من شخص من أشخاص السماء إلاّ وله نفس وعقل يحرّكانه شوقاً وطرباً إلى حضرة الباري ربّ الملأ الأعلى، وما من جرم كُريّ نوراني إلاّ وفيه شواهد وآيات عظيمة دالّة على عظمة مبدعها ومُنْشِئها، ولهذا كرّر الله ذكرها، وأشار إلى شواهدها وآياتها الدالّة عليه سبحانه في مثل قوله:
{ { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [البقرة:164] - الآية -، وقد مدح الناظرين فيها، وأثنى على المتفكّرين في خلقها بقوله: { { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [آل عمران:191].
وقال رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"ويل لمن قرأ هذه الآية ثمّ مسح به سبلته" . أي تجاوزها عن غير فكر وذكر.
وذمّ المعرضين عن التدبّر فيها فقال:
{ { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [الأنبياء:32].
وقال:
{ { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ } [الأعراف:185].
ولا يتوهّمنّ أحد أنّ معنى النظر إلى عالم ملكوت السماء بأن يمتّد البصر إليه فيرى زرقة السماء وضوء الكواكب وصور البروج، فإنّ البهائم تشارك الإنسان في هذا النظر، فإن كان هذا هو المراد فلِمَ مَدح الله به إبراهيم - على نبيّنا وأله وعليه السلام - في قوله:
{ { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ } [الأنعام:75]. بل المقصود منه التفطّن لما فيها من الدلائل والآيات العجيبة الشأن، والشواهد العظيمة البرهان المنبئة عن أزليّة الحقّ الأول، ووجوب وُجُوده، وكمال قدرته وإرادته، وتمام حكمته وَجُودِهِ.
فصل
وجوه دلالات وجود السماء على وجود الباري جلّ مجده
أمّا دلالتها على وجود الباري جلّ اسمه، فمن وجوه: من حيث الوجود، والإمكان، والجسميّة، وطلوع الكواكب وأفولها - إلى غير ذلك - وككونها مركّبات الوجود من مادّة وصورة، وككونها ذوات نفوس لها إرادة وعلم وصلاة وتسبيح.
أمّا الأوّل: فلأنّ وجودها الممكن هو المحوج إلى السبب، إذ الإمكان - لكون معناه سلب ضرورة طرفي الوجود والعدم بالنظر إلى الذات المتّصفة به - هو علّة الحاجة إلى المؤثّر، لأنّها لمّا استوى طرفاها امتنع وجودها إلاّ لمرجّح - وهو الله تعالى -.
أمّا أنّ الممكن ما يستوي طرفاه، فلاستحالة أن يكون طرفيه أوْلى به لذاته، لأنّه حينئذ إن أمكن طريان الطرف الآخر، فهو إمّا بسبب، أو لا بسبب، فإن كان الأوّل، فتفتقر الأوّليّة إلى عدم ذلك السبب، وإن كان الثاني، فيلزم إمكان ترجيح المرجوح من غير مرجّح - وهو باطل -.
وإن لم يمكن طريان الطرف الآخر، كان ذلك الطرف ممتنعا، وهذا الطرف واجباً، فيقدح في إمكانه - وهو خلق الفرض -.
وإذ قد علم استواء طرفي الممكن، فلا بدّ من مرجّح يرجّح وجوده على عدمه، وهو الله سبحانه، دفعاً للدور والتسلسل.
وأمّا الوجه الثاني: فلأنّ الممكن ما لم يتعيّن وجوده عن وجود مؤثّر لم يوجد وهو الوجوب السابق، وإذا وُجد، فحال وجوده لا يمكن عدمه، وهو الوجوب اللاحق، وكلّ ممكن محفوف لا محالة بالوجوبين السباق واللاحق، وهما صفتان عَرَضيّتان له - لا من ذاته بل من غيره -، وهو الصانع جلَّ اسمه، ولأنّ الممكن يستصحب الاحتياج إلى المؤثّر حال البقاء لبقاء الإمكان المقتضي للحاجة إلى المؤثّر، فلا بدّ له من علّة مبقية تحفظه ولا يؤودها حفظه وادامته وهو الحقّ تعالى، فظهر أنّ إمكان السماء يدلّ على وجود الحقّ تعالى، ولولا إرادة الاختصار لأطنبنا الكلام فيه.
وأمّا الدليل على إمكانها، فجسميّتها الباعثة للتركيب عن مادّة وصورة، أو عن جسميّة مطلقة وأمر يخصّه ولعدم خلّوها عن الإنفعال والحركات.
وأمّا الوجه الثالث: وهو من حيث جسميّتها، فلأنّه قد دلّ البرهان عندنا على أنّ الأجسام من حيث جسميّتها حادثة، أي واقعة في هوّيتها الشخصيّة تحت جنس الحركة والزمان، لأنّ الزمان من جملة مشخّصاتها، وهو - أي الزمان - اتّصال التجدّد والتقضّي، وعدد التغيرّات بأجزائه المنفصلة عند الوهم كالأيّام، والشهور والسنين والسماء بهوّيتها الشخصيّة الواقعة تحت الحركة والحدوث تحتاج إلى محدث غير حادث ولا متجدّد يحدثها، وإلاّ ننقل الكلام إلى علّة حدوث ذلك المحدث وتجدّده، ويفضي إمّا إلى التسلسل أو الدور - وهما باطلان -، وإمّا إلى علّة قديمة لا تكون متغيرّة أصلا - وهو الواجب جلّ ذكره -.
فالله سبحانه هو قيّوم السماوات والأرض، وإليه تنتهي سلسلة الأسباب والمسبّبات، وليس لغيره رتبة الإفاضة والايجاد، بل التهييئة والإعداد.
لا يقال: الأفلاك والكواكب أحياء ناطقون بأدلّة القرآن والعقل، وهي مؤثّرة في أحوال العنصريّات بدليل ارتباط الحوادث العنصريّة بالحركات السماويّة والاتّصالات الكوكبيّة.
لأنّا نقول: هذا تمسّك بالدوران، وهو لا يفيد الظنّ فكيف البرهان - وانَّ الْظَنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقّ شَيْئاً -، والمتّبع هو البرهان النيّر الوارد من الحقّ في القلب، على أنّ لنا دلائل قطعيّة على أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله، وما زعمتم فذلك مبنيّ على علم الهيئة والنجوم، وهو لا يدلّ على الربط العقلي بين الأشياء بل على الارتباطات الوضعيّة، والتأثير أمر عقليّ لا يستنبط إلاّ بالبرهان
{ { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة:111].
فإن قيل: إسناد الحوادث إليها كفر أم لا؟
قلت: نعم، كفر، لكن لو قيل: إنّ المؤثّر هو الله سبحانه، وهو قد أجرى حكمته على هذا النظم والترتيب، وربط هذه الآثار بهذه الأسباب، فلا بأس إذ نسبة الآثار إليها كنسبة القطع إلى السكّين، والكتابة إلى القلم، لأنّها بمنزلة الصحائف المكتوبة فيها آجال الخلق وأرزاقهم، وعقولها ونفوسها المحرّكة إيّاها بمنزلة أقلام الحقّ الأوّل، والقدرة بمنزلة يد الرحمن، والكاتب هو الله. ومن انكشف له أمر العالَم كما هو، علِمَ أنّ الأفلاك والكواكب لا تتحرّك ما لم تُحرَّك، وكذلك محرِّكها، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرّك الأوّل الذي لا محرّك له ولا هو متحرّك في نفسه، فهي كلّها مسخّرات بيده كتسخير القلم والقرطاس بيد الكاتب.
فالتفات العبد في النجاة إلى السماء والكواكب، يضاهي التفات من أخذ للحبس أو القتل فكتب الملك توقيعاً بالعفو عنه، فيرى نجاته من القلم والقرطاس. لا من محرّك القلم عليه، فأخذ يشتغل بالحمد والشكر لهما، وهذا غاية الجهل، ومن علم أنّ القلم - بما هو قلم - لا حكم له في نفسه، وإنّما هو مسخّر في يد الكاتب، لم يلتفت إليه، ولم يشكر إلاّ الكاتب، فالشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر كلّها مسخّرات في قبضة القدرة كتسخير القلم والقرطاس في يد الكاتب، والمفتاح في يد مفتّح الأبواب، كما في الأدعية السجّاديّة في الصحيفة الكاملة حيث قال الداعي بها (ع) في مخاطباته للقمر وقت الهلال: "جعلك مفتاح شهر حادث لأمر حادث".
وإذا انكشف لك أنّ جميع ما في السموات والأرض مسخّر له تعالى كما أشار إليه بقوله:
{ { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الرعد:15] - الآية - انصرف عنك الشيطان خائباً، وأيس عن مزج توحيده الأفعالي بهذا الشرك المستكنّ في طبع المنجّم والطبيب، فيأتيك لكي يوقعك في المهلكة الأخرى - وهو الشرك في الوجود والبقاء لغير الله -، فتحتاج إلى سلوك طريق الموحّدين لتنجو منها، ولنا بفضل الله وملكوته طريقة خاصّة لوّحنا إليها في مواضع تليق به.
وأمّا الوجه الرابع: وهو من حيث طلوعها وأفولها - فلأنّ التغيّر والحركة من خواصّ الأجسام ولواحقها، ممّا يستدعي مؤثّراً غير الجسميّة المشتركة يخصّ بعض الأجسام بها دون بعض، إذ لو كانت الحركة مثلا من مقتضيات الجسميّة بما هي جسميّة، لم يوجد جسم إلاّ متحرّكا، وكذلك نخصّصها بوجوه مخصوصة وأنحاء مختلفة من السرعة والبطؤ والتشرّق والتغرّب وغيرها تحتاج إلى صانع يخصّها بها.
لا يقال: لكلّ واحد منها طبيعة خاصّة تحرّكها على الوجه المخصوص. لأنّا نقول: الطبيعة المختصّة غير كافية في إفادة الحركة وتعيينها على هذا الوجه كما سنشير إليه، بل تحتاج إلى مؤثّر غير متناهي القوّة والتأثير - وهو الله سبحانه -.
كيف وكلّ مَن أنصف مِن نفسه، يعلم أنّ التغيّر والحركة - ولو باعتبار المادّة والمحلّ والمتعلّق به بوجه، يناديان عليه بالإمكان والحدوث والحاجة إلى مؤثّر مقدّس عن التغيّر والتجدّد.
ولهذا أعرض إبراهيم على نبيّنا وعليه السلام عن الأجسام النيّرة وطبايعها المختصّة لمّا ظنّ فيها الربوبيّة وقال فيها:
{ { لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام:76] بصيغة الجمع بالياء والنون الدالّة على كونها من ذوي العقول، فإنّه (ع) مع علمه بأنّ لكلّ منها باطنا ملكوتيّا له قوّة نفسانيّة، وأُخرى عقليّة - نفى عنهم الإلهيّة، وحكم بأنّ درجتهم لكونهم واقعين في هوى الحدوث وأُفول الإمكان منحطّة عن استحقاق نسبة الإلهيّة إليهم، فتوجّه بوجه قلبه إلى فاطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً من غير إشراك كما حكى الله عنه بقوله: { { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:79].
وأمّا الوجه الخامس: فهو أنّ الهيولى لا فعل لها، وإلاّ لزمها في ذاتها جهتا قبول وفعل، ثمّ ننقل الكلام - على تقدير عدم بساطتها - إلى هيولى الهيولى، وهكذا إلى، لا نهاية - هذا محال -، والصورة دون الهيولى لا تفعل، بل تختصّ آثارها بمالها معه علاقة وضعيّة، فلا بدّ من توسّط الهيولى في فعلها، بل في تعيّنها، ومع ذلك لكلّ منهما حاجة إلى الأخرى من غير استقلال كما علمت. أمّا الهيولى ففي وجودها وبقائها، وأمّا الصورة ففي تشخّصها وتشكّلها، فهما متلازمان في الوجود معانٍ في التحقّق، فلا بدّ لهما من مقيم يقيم كلاّ منهما بالأخرى، وهو غير جسم ولا جسماني، فيكون هو الواجب الوجوذ، أم ملَكا مقرّبا عقلانيّاً يديم كلاّ منهما بالأخرى بإذن الله تعالى، دفعاً للدور والتسلسل.
وأمّا الوجه السادس: فهو أنّ لكلّ من السماويّات محرّكاً نفسانيّا له قوّة عقليّة، وذلك لأنّ حركة السماء والكواكب ليست طبيعيّة لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنّ الحركة الطبيعيّة تصدر عنها عند حالة غير طبيعيّة، فهي مؤديّة إلى حالة طبيعيّة هي سكونها، وذلك عند ارتفاع الحالة الغير الطبيعية، والأفلاك وما فيها دائمة الحركات ما دام وجودها بإذن الله.
وثانيها: أنّ الحركة الطبيعيّة تطلب أمراً تسكن عنده طلباً على أقرب الطرق، فهي إذن مستقيمة وحركاتها مستديرات - كما يشاهد -، ولأنّ المستقيمة لا تصلح لأن يحفظ بها وجود الزمان المتّصل الذي يستحيل أن تنفصل أجزاؤه في الوجود، اللهمّ إلاّ في الوهم - كما قرّر في موضعه -.
وثالثها: إنّ الطبيعة لا تقتضي مهروبا عنه مطلوباً، ولا تهرب عن مطلوبها، والمستدير بخلاف ذلك.
فهي إذن غير طبيعيّة ولا قسريّة - إذ القسر خلاف مقتضى الطبع - فهي نفسانيّة حيوانيّة، وليست مجرّد الحيوانيّة المطلقة منشؤها، إذ مطلوب الحيوان - بما هو حيوان - في حركته الإراديّة إمّا جلب منفعة - وهو الشهوة - أو دفع مضرّة - وهو الغضب - وهما مختصّان بالأبدان القابلة للنموّ والذبول، وجسميّة الأفلاك لم تحصل من استكملات الأجسام الناقصة الخلقة العنصريّة الفطرة كالمني والبذور ونحوهما، بل هي كظلام الأنوار العالية الحاصلة من بعض الجهات للمبادي الفاعليّة - كالإمكان ونحوه -، على طريق الإقتضاء لا الاستعداد، ولهذا موضع تأمّل يغفل عنه الأكثرون. لأنّها لو كانت حسّية من باب الشهوة أو الغضب، فلا محالة تسكن عنده، وإذ ليس فليس.
فهي إذن ليست إراديّة حسّية، فلا يخلو إمّا أن يكون غرضها شيئا واقعا فيما طلبته بالحركة، أو مطلوباً دفعيّ الحصول فسكنت إن نالت، أو قنطت إن لم تنله في مدد متطاولة، فلها مطلب كلّي، فيلزمها إرادة كليّة موجبة لعلم كلّي دالّ على نفس ناطقة محرّكة لها، مبطلة لجحود الجاحدين المنكرين لإرادتها وعلمها.
فالنفس الناطقة علّة دورانها، وحافظة زمانها من زيادتها ونقصانها، وممسكة عنانها في جادّة الحقّ ومُجرية سفينتها باسم الله في بحر الحقيقية.
ثمّ ليس غرضها أمراً مظنونا من الثناء والمدح، فإنّ الحركات الكليّة الدائمة لا بدّ وأن تكون لأمر مقطوع به واجب الدوام - وليس المظنون كذا -، فمبدأ حركاتها ليس أمراً وهميًّا.
ثمّ هذا العالَم الذي هو موطن الأوهام وما ينبعث عنها، أحقر بالنسبة إلى تلك الأجرام الشريفة النوريّة من أن تتحرّك لأجلها، وصاحب الحدس الصحيح يحكم بهذا قبل الرجوع إلى البرهان.
فحركتها المعشوق، إمّا لينال ذاته، أو لتشّبهٍ بصفة رفيعة أو لتشبّه تجدّديّ، والأوّلان يوجبان ما سبق من الوقفة، فتعيّن الثالث، وليس المتشبّه به جرما فلكيّا وإلاّ لكانت الحركات متّفقة، ولا نفسها وإلا لتشابهت التحريكات، ولا شيئاً واحداً وإلاّ لاتّفقت، بل المتشبّه به إمّا الواجب سبحانه بواسطة أمور عقليّة صادرة عنه مكثّرة لجهات التحريكات والتشبيهات كما قال تعالى:
{ { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [فصلت:12] وإمّا تلك الأمور العقليّة، ولا بدّ من انتهائها إلى الله تعالى - كما علمت -، ولأنّها لمّا اشتركت في دوريّة الحركات فلها معشوق واحد هو مبدأ الكلّ وغاية الكلّ، وهو الموجود المطلق والوجود الحقّ.
وإذا اختلفت في الجهات والسرعة والبطؤ، فلكلّ منها ذات عقليّة هي بالفعل من جميع الوجوه تتشبّه بها، وبواسطتها تتشبّه بالحقّ الأوّل، فعدد حركاتها بعدد محرّكاتها العقليّة، ثمّ النفسيّة، لأنّ في الحركة لا بدّ من إدراكات جزئيّة بقوّة نفسانيّة تتخيّل الحدود المسافيّة، لأنّ نسبة المراد العقليّ إلى جميع الحدود والمرادات الجزئيّة نسبة واحدة، فلا يقتضي تقديم بعضها على بعض، فلكلّ سماء وكوكب، محرّك مزاول متشوّق منفعل هو نفسه، ومحرّك غير متحرّك بل مفارق ومعشوق غير منفعل بل فاعل، هو عقله، وللكلّ محرّك واحد ومعشوق واحد هو إله الكلّ ومبدأ الكلّ وغاية الكلّ.
فثبت أنّ الأفلاك وما فيها متقرّبات إلى الله تعالى بوسيلة الحركات، إذ بها تحصل الاستكمالات اللائقة بها، والكمال ممّا يوجب قرب المستكمل به من الكامل بالفعل في جميع الوجوه.
فإن قلت: لِمَ صارت الحركات منشأ استكمالاتها دون شيء غير الحركة؟
قلت: لأنّ الفلكيّات في جواهرها وصورها وكيفيّاتها وكمّياتها اللائقة بها، وسائر الأمور الممكنة في حقّها بالامكان العامّ، كانت بالفعل بحسب أوّل فطرتها ولم يبق فيها شيء بالقوّة إلاّ أمر ضعيف الوجود، سهل الحصول من باب النِسَب والاضافات وهي أوضاعها، فيقصر وجودها عن الجمع بينها، فلو دامت على واحد لدامت الباقيات على القوّة العدميّة، والقاصر عن استبقاء الذات بالعدد يسعى في استبقائها النوعي، فأخرجت أشخاصها إلى الفعل بما أمكنها من التبادل التعاقبي الجالب لإضافة الأنوار من العوالي، الراشح للخير الدائم على السوافل، قصداً إلى تحصيل هذا الكمال الموجب لضرب من التقرّب إلى المبدأ الفعّال، والتشبّه به مهما تيسّر من الأحوال والأفعال، لا قصداً إلى نفع السوافل إلاّ على نحو التَبَع والاستجرار، وإلاّ لزم كون المعلول علّة لكمال الفاعل.
ومن ظنّ أنّ المتشبّه به واحد ولكن الأفلاك جمعت بين غرضها ونفع السوافل عند استواء الجهات، كرجل خيِّر اختار سلوك أحد الطريقين المتساويين له لنفع محتاج، فما درى أنّه لو صحّ هذا في اختيار الجهة، لصحّ في اختيار أصل الحركة على السكون، فيقال تساويا عندها، فاختارت الحركة لنفع السافل، فلمّا لم يجز ذلك في أصل الحركة لتعاليها عليه، لم يجز لتعيين الجهة، وليس علينا أن نعلم كنه ذلك التشبّه إلاّ بقدر ما نرى من أنفسنا عند اهتزازنا وابتهاجنا بأمور روحانيّة عند سماع آيات قرآنيّة قراءتها مشيرة إلى أحوال العاكفين حول جناب الحقّ، كيف يستتبع ذلك تغيّراً واحمراراً في وجوهنا، وقياماً في شعورنا، وقُشعريرة في جلودنا، كما قال تعالى:
{ { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر:23]. فهي أيضاً في حركاتها كالمناجي مع ربّه بأمور عقليّة يتحرّك شيء من أعضائه بحسب ما يتفكّر فيه، فحركاتها إذن عبادة ما فلكيّة، وصلاة ما ملكيّة، لاستجلاب شوارق النور بوارق الحضور.
لمعة إشراقية
المراد من السماء
يمكن أن يراد بقوله: "والسماء والطارق"، سماء العالَم الصغير، أو سماء العالَم الكبير، لصحّة إطلاقهما عليها بحسب المفهوم - وهو الفوقيّة والإحاطة -، فإن كان الأوّل، فيكون إشارة إلى رأس الإنسان بما فيه من أنوار القوى الظاهرة، والطارق، إشارة إلى النفس الناطقة.
أو تكون السماء إشارة إلى النفس الناطقة، لأنّها محلّ الواردات الغيبيّة الإلهيّة، كما أنّ السماء محلّ عجائب صنع الله في سير الكواكب وحركاتها المختلفة سرعة وبطؤاً، ورجوعاً واقامة واستقامة، ونسبة بعضها إلى بعض بالمقارنة والمقابلة والتثليث والتربيع والتسديس والخسف والكسف، وساير أوضاعها وحالاتها، على شبه أحوال الصور الإدراكيّة للنفس، والأحكام العلميّة لها، كاقتران بعضها مع بعض، ومقابلة بعضها البعض، والتعاكس بينهما، والتباعد والتقارب في المقدّمات القياسيّة، وانتقاض بعضها ببعض واحتجابه بذلك، فيكون "الطارق" إشارة إلى ما يرد عليها من العالم الإلهي والفيض القدسي من السوانح الملكوتيّة والمواهب الربّانيّة.
وإن كان الثاني، فيكون المراد من السماء مجموع الأفلاك بما فيها، ومن "الطارق" إمّا جنس الكواكب، وإمّا المفارقات النوريّة المتعلّقة بها تصريفاً وتدبيراً، أو تشويقا وإفاضة وتنويراً.