التفاسير

< >
عرض

قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ
١
-الاخلاص

التحرير والتنوير

افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإِظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى: { { قل يا أيها الكافرون } [الكافرون: 1]

ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين: انْسُبْ لنا ربك، فكانت جواباً عن سؤالهم فلذلك قيل له: { قل } كما قال تعالى: { { قل الروح من أمر ربي } [الإسراء: 85] فكان للأمر بفعل { قل } فائدتان.

وضمير { هو } ضمير الشأن لإِفادة الاهتمام بالجملة التي بعده، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده.

ويجوز أن يكون { هو } أيضاً عائداً إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا: انسب لنا ربك.

ومن العلماء من عَدّ ضمير { هو } في هذه السورة اسماً من أسماء الله تعالى وهي طريقة صوفية درج عليها فخر الدين الرازي في «شرح الأسماء الحسنى» نقله ابن عرفة عنه في «تفسيره» وذكر الفخر ذلك في «مفاتيح الغيب» ولا بد من المزج بين كلاميه.

وحاصلهما قوله: { قل هو الله أحد } فيه ثلاثة أسماء لله تعالى تنبيهاً على ثلاثة مقامات.

الأول: مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأشياء من حيث هِيَ هِيَ، فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأنه هو الذي لأجله يجب وجوده فما سوى الله عندهم معدوم، فقوله: { هو } إشارة مطلقة. ولما كان المشار إليه معيناً انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فكان قوله: { هو } إشارة من هؤلاء المقربين إلى الله فلم يفتقروا في تلك الإِشارة إلى مميز فكانت لفظة { هو } كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء.

المقام الثاني: مقام أصحاب اليمين المقتصدين فهم شاهَدُوا الحق موجوداً وشاهدوا الممكنات موجودة فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة { هو } تامة الإِفادة في حقهم فافتقروا معها إلى مميز فقيل لأجلهم { هو اللَّه }.

والمقام الثالث: مقام أصحاب الشمال وهم الذين يجوزون تعدد الإِلٰه فقُرن لفظ { أحد } بقوله: { هو اللَّه } إبطالاً لمقالتهم ا هــــ.

فاسمه تعالى العلَم ابتدىء به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلّها عند التخاطب بين المسلمين وعند المحاجَّة بينهم وبين المشركين، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب فمسماه لا نزاع في وجوده ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تَنَزَّه عنها.

أما { أحد } فاسم بمعنى (وَاحِد). وأصل همزته الواو، فيقال: وحَد كما يقال: أحد، قلبت الواو همزة على غير قياس لأنها مفتوحة (بخلاف قلب واو وُجوه) ومعناه منفرد، قال النابغة:

كأنَّ رحلي وقد زال النهارُ بنابذي الجليلِ على مستأنِسٍ وَحَدِ

أي كأني وضعتُ الرجل على ثورِ وحْششٍ أحَسَّ بأنسيّ وهو منفردٌ عن قطيعه.

وهو صفة مشبهة مثل حَسَن، يقال: وَحُد مثل كرُم، ووَحِدَ مثل فرِح.

وصيغة الصفة المشبهة تفيد تمكن الوصف في موصوفها بأنه ذاتيٌّ له، فلذلك أوثر { أحد } هنا على (واحد) لأن (واحد) اسم فاعل لا يفيد التمكن. فــــ (واحد) و{ أحد } وصفان مصوغان بالتصريف لمادة متحدة وهي مادة الوحدة يعني التفرد.

هذا هو أصل إطلاقه وتفرعت عنه إطلاقات صارت حقائق للفظ (أحد)، أشهرها أنه يستعمل اسماً بمعنى إنسان في خصوص النفي نحو قوله تعالى: { { لا نفرق بين أحد من رسله } في البقرة (285)، وقوله: { { ولا أشرك بربي أحداً } في الكهف (38) وكذلك إطلاقه على العدد في الحساب نحو: أحد عشر، وأحد وعشرين، ومؤنثه إحدى، ومن العلماء من خلط بين (واحد) وبين { أحد } فوقع في ارتباك.

فوصف الله بأنه { أحد } معناه: أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلَم وهي الإِلٰهية المعروفة، فإذا قيل: { اللَّه أحد } فالمراد أنه منفرد بالإِلٰهية، وإذا قيل: الله واحد، فالمراد أنه واحد لا متعدد فمَن دونه ليس بإلٰه. ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلٰهيته.

فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليماً للناس كلهم، وإبطالاً لعقيدة الشرك وُصف الله في هذه السورة بــــ { أحد } ولم يوصف بـــ (واحد) لأن الصفة المشبهة نهايةُ ما يُمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين.

وقال ابن سينا في تفسير له لهذه السورة: إن { أحد } دالّ على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلاً لا كثرةً معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول، ولا كثرة حسيّة وهي كثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلاً كما في المادة والصورة. والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم، وذلك متضمن لكونه سبحانه منزهاً عن الجنس والفصل، والمادة والصورة، والأعراض والأبعَاض، والأعضاء، والأشكال، والألوان، وسائر ما يُثلم الوحدة الكاملة والبَساطة الحَقَّة اللائقة بكرم وجهه عز وجل عن أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء. وتبيينُه: أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك، والذي لا ينقسم بوجه أصلاً أولى بالوحدانيَّة مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي لا ينقسم انقساماً عقليّاً أوْلَى بالوحدانية من الذي ينقسم انقساماً بالحسّ بالقوة ثم بالفعل، فـــ { أحد } جامع للدلالة على الوحدانية من جميع الوجوه وأنه لا كثرة في موصوفه اهــــ.

قلت: قد فهم المسلمون هذا فقد روي أن بلالاً كان إذا عذب على الإِسلام يقول: أحَد أحد، وكان شعار المسلمين يوم بدر: أحَد أحَد.

والذي درج عليه أكثر الباحثين في أسماء الله تعالى أن { أحد } ليس ملحقاً بالأسماء الحسنى لأنه لم يرد ذكره في حديث أبي هريرة عند الترمذي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" . وعدّها ولم يذكر فيها وصف أحد، وذكر وصف واحد وعلى ذلك درج إمام الحرمين في كتاب «الإِرشاد» وكتابِ «اللمع» والغزالي في «شرح الأسماء الحسنى».

وقال الفهري في «شرحه على لُمع الأدلة» لإِمام الحرمين عند ذكر اسمه تعالى «الواحد». وقد ورد في بعض الروايات الأحد فلم يجمع بين الاسمين في اسم.

ودرح ابن بَرَّجَان الإِشبيلي في «شرح الأسماء» والشيخ مُحمد بن محمد الكومي (بالميم) التونسي، ولُطف الله الأرضرُومي في «معارج النور»، على عدّ (أحد) في عداد الأسماء الحسنى مع اسمه الوَاحد فقالا: الواحد الأحد بحيث هو كالتأكيد له كما يقتضيه عدهم الأسماء تسعة وتسعين، وهذا بناء على أن حديث أبي هريرة لم يقتضِ حصر الأسماء الحسنى في التسعة والتسعين، وإنما هو لبيان فضيلة تلك الأسماء المعدودة فيه.

والمعنى: أن الله منفرد بالإِلٰهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات. وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك، وللتثليث الذي أحدثه النصارى المَلْكانية وللثانوية عند المجوس، وللعَدَد الذي لا يُحصى عند البراهمة.

فقوله: { اللَّه أحد } نظير قوله في الآية الأخرى: { { إنما الله إلٰه واحد } [النساء: 171]. وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون بهذه الآية السائلون عن نسبة الله، أي حقيقته فابتدىء لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإِلٰهية في شيء.

ثم إن الأحدية تقتضي الوجود لا محالة فبطل قول المعطلة والدُّهريين.

وقد اصطلح علماء الكلام من أهل السنة على استخراج الصفات السلبية الربانية من معنى الأحدية لأنه إذا كان منفرداً بالإِلٰهية كان مستغنياً عن المخصِّـص بالإِيجاد لأنه لو افتقر إلى من يُوجده لكان من يوجده إلٰهاً أوَّلَ منه فلذلك كان وجود الله قديماً غير مسبوق بعدم ولا محتاج إلى مخصـص بالوجُود بدَلاً عن العدم، وكان مستعيناً عن الإمداد بالوجود فكان باقياً، وكان غنياً عن غيره، وكان مخالفاً للحوادث وإلا لاحتاج مثلَها إلى المخصـص فكان وصفه تعالى: بــــ { أحد } جامعاً للصفات السلبية. ومثلُ ذلك يُقال في مرادفه وهو وصف وَاحد.

واصطلحوا على أن أحدية الله أحدية واجبة كاملة، فالله تعالى واحد من جميع الوجوه، وعلى كل التقادير فليس لكُنْه الله كثرة أصلاً لا كثرة معنوية وهي تعدد المقوّمات من الأجناس والفصول التي تتقوم منها المواهي، ولا كثرةُ الأجزاء في الخارج التي تتقوم منها الأجسام. فأفاد وصف { أحد } أنه منزه عن الجنس والفصل والمادة والصورة، والأعراض والأبعاض، والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة كما إشار إليه ابن سينا.

قال في «الكشاف»: «وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم { اللَّه أحد } بغير { قل هو } اهــــ، ولعله أخذه مما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "قال من قرأ: { اللَّه أحد } كان بِعَدْل ثلثِ القرآن" ، كما ذكره بأثر قراءة أبيّ بدون { قل } كما تأوله الطيبي إذ قال: وهذا استشهاد على هذه القراءة.

وعندي إن صح ما روي من القراءة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها التلاوة وإنما قصد الامتثال لما أمر بأن يقوله، وهذا كما كان يُكثر أن يقول: "سبحان ربي العظيم وبحمده اللهم اغفر لي" يَتأول قوله تعالى: { { فسبِّح بحمد ربك واستغفره } [النصر: 3].