التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١
-الممتحنة

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ }.
نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ العدو المشترك أولياء، ولفظ العدو مفرد، ويطلق على الفرد والجماعة.
ومن إطلاقه على الفرد قوله تعالى:
{ فَقُلْنَا يٰآدَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } [طه: 117] يعني بالعدو إبليس.
ومن إطلاقه على الجمع قوله تعالى:
{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [الكهف: 50]، والمراد به هنا الجمع لما ففي السياق من القرائن منها قوله "أولياء" بالجمع، ومنها { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } وهو ضمير جمع، ومنها { وَقَدْ كَفَرُواْ } بواو الجمع، ومنها يخرجون أيضاً بالجمع، وقوله بعدها { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ } [الممتحنة: 2] وكلها بضمائر الجمع.
أما العدو المراد هنا فقد عم وخص في وصفه فوصفه أولاً بقوله { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ } وخص بوصفه يخرجون الرسول، والوصف بالكفر يشمل الجميع، فيكون ذكرهما معاً للتأكيد والاهتمام بالخاص، كقوله تعالى:
{ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [البقرة: 98] ففي ذكر الخاص هنا وهو وصف العدو بإخراج الرسول والمؤمنين للتهييج على من أخرجوهم من ديارهم كقوله { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } [البقرة: 191].
وقد بين تعالى المراد بالذين أخرجوا الرسول والمؤمنين في عدة مواضع، منها قوله تعالى:
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ } [محمد: 13] أي مكة، ومنها قوله: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ } [التوبة: 40] الآية.
فعليه يكون المراد بعدوي وعدوكم هنا، خصوص المشركين بمكة.
وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وقصة الرسالة مع الظعينة لأهل مكة قبل الفتح بإخبارهم بتجهز المسلمين إليهم مما يؤيد المراد بالعدو هنا، ولكن، وإن كانت بصورة السبب قطعية الدخول إلا أن عموم اللفظ لا يهمل، فقوله { عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ }، وقوله: { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ } يشمل كل من كفر بما جاءنا من الحق كاليهود والنصارى والمنافقين ومن تجدد من الطوائف الحديثة.
وقد جاء النص على كل طائفة مستقلة، ففي سورة المجادلة عن المنافقين قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } [المجادلة: 14].
وتكلم عليها الشيخ رحمة الله تعالى عليه.
وعن اليهود في سورة الحشر كما تقدم، وعن اليهود والنصارى معاً قوله تعالى:
{ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ } [المائدة: 51].
ومن الطوائف المحدثة كل من كفر بما جاءنا من الحق من شيوعية وغيرهم، وكالهندوكية، والبوذيّة وغيرهم، ومما يتبع هذا العموم ما جاء في قوله تعالى:
{ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [المائدة: 57-58].
فكل من هزئ بشيء من الدين أو اتخذه لعباً ولهواً فإنه يخشى عليه من تناول هذه الآية إياه.
تنبيه
ذكر المقابلة هنا بين عدوي وعدوكم أولياء فيه إبراز صورة الحال وتقبيح الفعل، لأن العداوة تتنافى مع الموالاة والمسارة للعدو بالمودة، وقد ناقش بعض المفسرين قضية التقديم والتأخير في تقديم عدوي أولاً، وعطف عدوكم عليه، فقال الفخر الرازي: التقديم لأن عداوة العبد لله بدون علة، وعداوة العبد للعبد لعلة، وما كان بدون علة فهو مقدم على ما كان بعلة اهـ.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن التقديم لغرض شرعي وبلاغي، وهو أن عداوة العبد لله هي الأصل، وهي أشد قبحاً، فلذا قدمت، وقبحها في أنهم عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم وآذوهم.
وقد جاء في الأحاديث القدسية ما يستأنس به في ذلك فيما رواه البيهقي والحاكم، عن معاذ والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرجاء ما نصه:
"إني والجن والإنس في نبإ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري وفيه خيري إلى العباد نازل وشرهم إلى صاعد، أتحبَّب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي" كما أن تقديمه يؤكد بأنه هو السبب في العداوة بين المؤمنين والكافرين، وما كان سبباً فحقه التقديم.
ويدل على ما ذكرنا من أنه الأصل، أن الكفار لو آمنوا بالله وانتفت عداوتهم لله لأصبحوا إخواناً للمؤمنين وانتفت العداوة بينهما، وكذا كونه مغياً بغاية في قوله تعالى:
{ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [النساء: 89].
ومثله قوله تعالى في قوم إبراهيم:
{ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: 4] فإذا هاجر المشركون وآمن الكافرون، انتفت العداوة وجاءت الموالاة.
ومما قدمنا من أن سبب النهي عن موالاة الأعداء، هو الكفر يعلم أنه إذا وجدت عداوة لا لسبب الكفر فلا ينهى عن تلك الموالاة لتخلف العلة الأساسية، كما جاء في قوله تعالى:
{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } [التغابن: 14]، ثم قال تعالى: { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التغابن: 14].
فلما تخلف السبب الأساسي في النهي عن موالاة العدو الذي هو الكفر، جاء الحث على العفو والصفح والغفران، لأن هذه العداوة لسبب آخر هو ما بينه قوله تعالى:
{ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن: 15]. فكان مقتضاها فقط الحذر من أن يفتنوه، وكان مقتضى الزوجية حسن العشرة، كما هو معلوم. وسيأتي زيادة إيضاح لهذه المسألة عند هذه الآية، إن شاء الله تعالى.
وقد نص صراحة على عدم النهي المذكور في خصوص من لم يعادوهم في الدين في قوله تعالى:
{ لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ } [الممتحنة: 8] الآية.
وللموالاة أحكام عامة وخاصة، وقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى عليه في عدة مواضع من الأضواء.
منها في الجزء الثاني عند قوله تعالى:
{ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة: 51] وقد أطال البحث فيها.
ومنها في الجزء الثالث عرضاً ضمن قوله تعالى:
{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] وبين روابط العالم الإسلامي بتوسع.
ومنها في الجزء الرابع عند قوله تعالى:
{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } [الكهف: 50] الآية.
ومنها في مخطوط السابع عند قوله تعالى:
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ } [محمد: 13] وأحال فيها على آية الممتحنة هذه.
ومنها أيضاً عند قوله تعالى:
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ } [محمد: 26]، وأحال عندها على مواضع متقدمة من سورة الشورى وبني إسرائيل.
ومنها في سورة المجادلة على قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } [المجادلة: 14].
وفيما كتبه رحمة الله تعالى عليه، بيان لكل جوانب أحكام هذه الآية، غير أني لم أجده رحمة الله تعالى عليه تعرَّض لما في هذه السورة من خصوص التخصيص للآية بقوله تعالى:
{ لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } [الممتحنة: 8] الآية.
ولم أسمع منه رحمة الله تعالى عليه فيها شيئاً مع أنها نص في تخصيص العموم من هذه الآية، وسيأتي لها بيان لذلك عندها إن شاء الله.
تنبيه
رد أهل السنة بهذه الآية وأمثالها على المعتزلة قولهم: إن المعصية تنافي الإيمان، لأن الله ناداهم بوصف الإيمان مع قوله: { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } فلم يخرجهم بضلالهم عن عموم إيمانهم، ويشهد لهذا أن الضلال هنا عن سواء السبيل لا مطلق السبيل.