{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } فألقاها { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } تبتلع، ومَنْ قرأ تلقف ساكنة اللام خفيفة القاف فهو من لقف يلقف، ودليله قراءة سعيد بن جبير: تلقم من لقم يلقم.
{ مَا يَأْفِكُونَ } يُكذّبون، وقيل: يقلبون ويزوّرون على الناس فأكلت سحرهم كله فقالت السحرة: لو كان هذا سحراً لبقت حبالنا وعصينا. فذلك قوله: { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ } أي ظهر.
قال النضير بن شميل: فوقع الحق أي فزعهم وصدّعهم [كوقع الميقعة] { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من السحر { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } وبطل ما كانوا يعملون { وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } ذليلين ومقهورين.
{ وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } لله حيث عرفوا أنّ ذلك أمر سماوي وليس سحراً، وقيل: ألهمهم الله ذلك، وقال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فقال فرعون: إياي تعنون فقالوا { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ }.
قال عطاء: فكان رئيس السحرة بأقصى مدائن مصر وكانا أخوين فلمّا جاءهما رسول فرعون قالا لأُمّهما [دلّينا] على قبر أبينا فدلتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا: إن الملك وجه إلينا رسولاً أن نقدم عليه، لأنّه أتاه رجلان ليس معهما رجال ولا سلاح ولهما [عزّ ومنعة] وقد ضاق الملك ذرعاً من عزّهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لهما [شيء] تبلغ الحديد والحجر والخشب. فأجابهما أبوهما: انظرا إذا هما ناما فإنّ قدرتما أن تسلا العصا فسلاّها فإنّ الساحر لا يعمل سحره إذا نام، وإن عملت العصا وهما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين، ولا طاقة لكما به ولا الملك ولا جميع أهل الدنيا، فأتاهما في خفية وهما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا قاله مقاتل.
قال موسى للساحر الأكبر: تؤمن بيّ إن غلبتك فقال لآتينَ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأؤمنن بك وفرعون ينظر { قَالَ } لهم فرعون حين آمنوا { آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ } صنيع وخديعة { مَّكَرْتُمُوهُ } صنعتموه أنتم وموسى { فِي ٱلْمَدِينَةِ } في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع.
{ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } بسحركم { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ما أفعل بكم.
{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } وهو أن يقطع من شق طرفا قال سعيد بن جبير: أوّل مَنْ قطع من خلاف فرعون { ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } على شاطئ نهر مصر { قَالُوۤاْ } يعني السحرة لفرعون { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } راجعون في الآخرة { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ } قرأ العامّة بكسر القاف.
وقرأ الحسن وابن (المحيصن) بفتح القاف وهما لغتان نقَم ينقَم ونقم ينقِم.
قال الشاعر:
وما نقموا من بني أميّة إلاأنّهم يحلمون إن غضبوا
وقال الضحاك وغيره: يعني وما يطعن علينا. قال عطاء: ما لنا عندك من ذنب وما ارتكبنا منك مكروهاً تعذّبنا عليه { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } ثمّ [فزعوا] إلى الله عز وجل فقالوا { رَبَّنَآ أَفْرِغْ } اصبب { عَلَيْنَا صَبْراً } أُصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتّى لا نرجع كفاراً { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } واقبضنا إليك على دين موسى، فكانوا أول النهار كفاراً سحرة وآخره شهداء بررة.
{ وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ } أتدع { مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ } كي يفسدوا عليك ملكك عبيدك { فِي ٱلأَرْضِ } في أرض مصر { وَيَذَرَكَ } يعني وليذرك.
وروى سليمان التيمي عن أنس بن مالك أنّه قرأ ويذرك بالرفع والنون، [أخبروا] عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حياً فيصرفهم عنّا.
وقرأ الحسن (ويذرك) بالرفع على تقدير المبتدأ، أي وهو يذرك، { آلِهَتَكَ } فلا نعبدك ولا نعبدها. قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، ولذلك أخرج السامري لهم عجلاً.
وروى عمرو عن الحسين قال: كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد عليها كأنّه صنم كان عابده يحن إليه.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: كان فرعون يصنع لقومه أصناماً صغاراً ويأمرهم بعبادتها ويقول لهم: أنا رب هذه الأصنام، وذلك قوله { { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24].
قال أبو عبيد: وبلغني عن الحسن أنه قيل له: هل كان فرعون يعبد شيئاً؟ قال: نعم كان يعبد تيساً.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وبكر بن عبد الله [الشعبي] والضحاك وابن أبي إسحاق: إلهتك بكسر الألف أي [إلهك] فلا يعبدك كما تعبد. قالوا: لأن فرعون كان يُعبد ولا يَعبد.
وقيل أراد بالآلهة الشمس وكانوا يعبدونها.
قال [عيينة] بن [شهاب]:
تروحنا من الأعيان عصراًفأمحلنا الآلهة أن تؤوبا
بمعنى الشمس { قَالَ } يعني فرعون سنقتل أبنائهم بالتشديد على التكثير. وقرأ أهل الحجاز بالتخفيف { وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } غالبون.
قال ابن عباس: كان فرعون يقتل بني إسرائيل في العام الذي قيل له إنّه يولد مولود يذهب بملكك فلم يزل يقتلهم حتّى أتاهم موسى (عليه السلام) بالرسالة فلما كان من أمر موسى ما كان أمر بإعادة عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل إلى موسى (عليه السلام) فعند ذلك { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ } يعني أرض مصر { يُورِثُهَا } يُعطيها { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } وقرأ الحسن يورثها بالتشديد والاختيار والتخفيف لقوله تعالى وأورثنا الأرض { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } يعني النصر والظفر، وقيل: السعادة والشهادة، وقيل: الجنّة.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة اتّبع موسى ست مائة ألف من بني إسرائيل { قَالُوۤاْ } يعني قوم موسى { أُوذِينَا } بقتل الأبناء واستخدام النساء والتسخير. { مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا } بالرسالة { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } بالرسالة وإعادة القتل والتعذيب وأخذ الأموال والأتعاب في العمل.
قال وهب: كانوا أصنافاً في أعمال فرعون فأما ذوو القوة منهم فيسلخون السوابي من الجبال وقد [.......] أعناقهم وعواتقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطع ذلك وقتله.
وطائفة أُخرى قد [قرحوا] من ثقل الحجارة وسير [الليل] له، وطائفة يلبنون اللبن ويطنبون الأجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفاء بينهم عليهم الخراج ضريبة يودون كانت ضربت عليه الشمس، قيل: وإن يردى ضريبته غلت يده إلى عنقه شهراً، وأما النساء فيقرن اختان وينسجنه فقال موسى (عليه السلام) لهم { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } فرعون { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } ويسكنكم مصر من بعدهم بالتسخير والاستعباد وهم بنو إسرائيل { مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } يعني مصر والشام { ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } بالماء والأشجار والثمار وإنما ذكر بلفظ [.....].