{ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } الضمير في وقالوا عائد على آل فرعون لم يزدهم الأخذ بالجدوب ونقص الثمرات إلا طغياناً وتشدداً في كفرهم وتكذيبهم ولم يكتفوا بنسبة ما يصيبهم من السيئات إلى أن ذلك بسبب موسى عليه السلام ومن معه حتى واجهوه بهذا القول الدال على أنه لو أتى بما أتى من الآيات فإِنهم لا يؤمنون بها وأتوا بمهما التي تقتضي العموم، ثم فسروا بآية على سبيل الاستهزاء في تسميتهم ذلك آية، كما قالوا في قوله: { { إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ } [النساء: 157] وتسميتهم لها بآية. أي على زعمك، ولذلك عللوا الإِتيان بقولهم: لتسحرنا بها، وبالغوا في انتفاء الإِيمان بأن صدروا الجملة بنحن فادخلوا الباء فى بمؤمنين أي إن إيماننا لك لا يكون أبداً ومهما مرتفع بالابتداء أو منتصب بإطمار فعل يفسره فعل الشرط فيكون من باب الاشتغال أي أيَّ شىء تحضر بإِتيانه. والضمير في به عائد على مهما وفي بها عائد أيضاً على معنى مهما، لأن المراد به أيّةُ وآية كما عاد على ما في قوله: { { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [البقرة: 106]. ومهما كلمة بسيطة ليست مركبة من مَهْ اسم الفعل وما ولا أنّ أصلها ما ما فأبدلت ألفها هاء فقيل: مهما، وقد جاء في الشرط مهما، قال الشاعر:
أماوي مهما يستمع في صديقه أقاويل هذا الناس ماوى يندم
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ } الآية قال الأخفش: الطوفان جمع طوفانة، عند البصريين وعند الكوفيين مصدر. قال ابن عباس: الطوفان الماء المفرق. وقال جماعة: هو المطر أرسل عليهم دائماً الليل والنهار ثمانية أيام، وقيل ذلك مع ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره، وقيل: أمطروا حتى كادوا يهلكون وبيوت القبط وبني إسرائيل مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماءً حتى قاموا فيه إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة من الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف ودام عليهم سبعة أيام.
{ وَٱلْجَرَادَ } جمع جرادة وهي اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث وابتلوا بالجراد بعد ابتلائهم بالطوفان سبعة أيام فأكلت عامة زرعهم وثمارهم ثم أكلت كل شىء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شىء فكشف عنهم بعد سبعة أيام وسلط الله تعالى عليهم القمل. قال ابن عباس: القمل هو الدَّبا، وهو صغار الجراد قبل أن تنبت له أجنحة ولا يطير روي أن موسى عليه السلام مشى إلى كثيب أهيل فضربه بعصاه فانشر كله قملاً بمصر فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض، وكان يدخل بين جلد القبطي وقميصه فيمصه ويمتلىء الطعام قملاً، وأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع فملأت آنيتهم وأطعماتهم ومضاجعهم ورمت بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، وإذا تكلم أحدهم وثبت إلى فيه ثم بعد ذلك أرسل الله تعالى عليهم الدم حتى صار ماؤهم دماً، حتى أن الإِسرائيلي ليضع الماء في فيء القبطي فيصير في فيه دماً، وعطش فرعون حتى أشرف على الهلاك فكان يمص الأشجار الرطبة فإِذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً. ومعنى تفصيل الآيات تبيينها وإزالة أشكالها وحكمة التفضيل بالزمان أنه يمتحن فيه أحوالهم أيفون بما عهدوا أم ينكثون. وانتصب آيات مفصلات على الحال والذي دلت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها. وأما كيفية الإِرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئآت فمرجعه إلى النقل عن الاخيار الاسرائيليات، إذ لم يثبت من ذلك في الحديث النبوي شىء ومع إرسال حسن الآيات استكبروا عن الإِيمان وعن قبول أمر الله تعالى.
{ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } إخبار منه تعالى بإجترامهم على الله تعالى وعلى عباده.
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ } الظاهر أن الرجز هو ما كان أرسل عليهم من الآيات التي تقدمت قبل. ومعنى وقع عليهم، أي نزل عليهم وثبت وفي قولهم.
{ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } وفي إضافة الرب إلى موسى عليه السلام عدم إقرار بأنه ربهم حيث لم يقولوا ادع لنا ربنا.
ومعنى: { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } بما اختصك به ونبّأك أو بما وصاك به أن تدعوا به فيجيبك كما أجابك في الآيات، والظاهر تعلق بما عهد بادع لنا ربك، ومتعلق الدعاء محذوف تقديره ادع لنا ربك بما عهد عندك في كشف هذا الرجز.
و{ لَئِن كَشَفْتَ } جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا، أي قالوا ذلك مقسمين لئن كشفت.
وفي قولهم: { لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } دلالة على أنه طلب منهم الإِيمان كما أنه طلب منهم إرسال بني إسرائيل وقدموا الإِيمان لأنه المقصود الأعظم الناشىء منه الطواعية، وفي إسناد الكشف إلى موسى عليه السلام حيرة عن إسناده إلى الله تعالى لعدم إقرارهم بذلك.
{ فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ } في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسى فكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى عليه السلام وهو إسناد مجازي ولما كان إخباراً من الله تعالى أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي.
و{ إِلَىٰ أَجَلٍ } متعلق بكشفنا ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه. والغاية بقوله: إلى أجل، ينافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بد من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تحقق الغاية.
و{ هُم بَالِغُوهُ } جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد، وإذا للمفاجأة تدل على أنه لم يكن بعد بلوغ الأجل وبين النكث زمان يتخللهما بل بنفس ما بلغوا الأجل نكثوا ما أقسموا عليه من الإِيمان والإِرسال.
{ فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي أحللنا بهم النقمة وهي ضد النعمة فإِن كان الانتقام هو الإِغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم. والباء في بأنهم سببية. والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام. والظاهر عود الضمير في عنها إلى الآيات، أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب.