التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
١٦
-الحديد

أضواء البيان في تفسير القرآن

قد قدمنا مراراً أن كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بلم، إذا تقدمتها همزة الاستفهام كما هنا فيه وجهان من التفسير معروفان.
الأول منهما: هو أن تقلب مضارعته ماضوية، ونفيه إثباتاً، فيكون بمعنى الماضي المثبت، لأن لم حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي، وهمزة الاستفهام إنكارية فيها معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم فينفيه. ونفي النفي إثبات، فيرجع المعنى إلى الماضي المثبت. وعليه فالمعنى: { أَلَمْ يَأْذَنِ لِلَّذِينَ }: أي آن للذين آمنوا.
والوجه الثاني: أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول: بلى، وقوله: يأن: هو مضارع أنى يأنى إذا جاء إناه أي وقته، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه:

ولقد أنى لك أن تناهي طائعاً أو تستفيق إذا نهاك المرشد

فقوله: أنى لك أن تناهى طائعاً، أي جاء الإناه الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعاً، أي حضر وقت تناهيك، ويقال في العربية: آن يئين كباع يبيع، وأنى يأني كرمى يرمي، وقد جمع اللغتين قول الشاعر:

ألماً يئن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا

والمعنى على كلا القولين أنه حان للمؤمنين، وأنى لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي جاء الحين والأوان لذلك، لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه.
وقوله تعالى: { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ } المصدر المنسبك من أن وصلتها في محل رفع فاعل بأن، والخشوع أصله في اللغة السكون والطمأنينة والانخفاض، ومنه قول نابغة ذبيان:

رماد ككحل العين لأياً أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

فقوله: خاشع أي منخفض مطمئن، والخشوع في الشرع خشية من الله تداخل القلوب، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون، كما هو شأن الخائف.
وقوله: { لِذِكْرِ ٱللَّهِ }، الأظهر منه أن المراد خشوع قلوبهم لأجل ذكر الله، وهذا المعنى دل عليه قوله تعالى:
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الانفال: 2] أي خافت عند ذكر الله، فالوجل المذكور في آية الأنفال هذه، والخشية المذكورة هنا معناهما واحد.
وقال بعض العلماء: المراد بذكر الله القرآن، وعليه فقوله: { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } من عطف الشيء على نفسه مع اختلاف اللفظين، كقوله تعالى:
{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 1-3]، كما أوضحناه مراراً.
وعلى هذا القول، فالآية كقوله تعالى:
{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر: 23]، فالاقشعرار المذكور، ولين الجلود والقلوب عند سماع هذا القرآن العظيم المعبرعنه بأحسن الحديث، يفسر معنى الخشوع لذكر الله، وما نزل من الحق هنا كما ذكر، وقوله تعالى: { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } قد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله: { ثُمَّ قًسَتْ قُلُوبُكُم } [البقرة: 74] بعض أسباب قسوة قلوبهم، فذكرنا منها طول الأمد المذكور هنا في آية الحديد هذه، وغير ذلك في بعض الآيات الأخر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كثرة الفاسقين، من أهل الكتاب جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى
{ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [آل عمران: 110] وقوله تعالى: { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 27] إلى غير ذلك من الآيات.