التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ
١٨
-النجم

روح المعاني

أي والله لقد رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج ـ فالكبرى ـ صفة موصوف محذوف مفعول لرأى أقيمت مقامه بعد حذفه وقدر مجموعاً ليطابق الواقع، وجوز أن تكون { ٱلْكُبْرَىٰ } صفة المذكور على معنى: ولقد رأى بعضاً من الآيات الكبرى، ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرأي الآيات الكبرى وجوزت الوصفية المذكورة مع كون (من) مزيدة، وأنت تعلم أن زيادة (من) في الإثبات ليس مجمعاً على جوازه، وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة والسلام، أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في / الآية رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سد الأفق. وعن ابن زيد رأى جبريل عليه السلام في الصورة التي هو بها، والذي ينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة والسلام آيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى.

هذا وفي الآيات أقوال غير ما تقدم، فعن الحسن أن { { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5] هو الله تعالى، وجمع { ٱلْقُوَىٰ } للتعظيم ويفسر { ذُو مِرَّةٍ } عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفاً له عز وجل، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى: { { فَٱسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } [النجم: 6-7] عليه له سبحانه أيضاً. وقال: إن ذلك على معنى العظمة والقدرة والسلطان، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه: { { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ } [النجم: 8ـ10] له عز وجل أيضاً، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى: { { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } [النجم: 13] فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبـي صلى الله عليه وسلم برفع مكانته صلى الله عليه وسلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس، ويقال لهذا الجذب: الفناء في الله تعالى عند المتأهلين، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه. ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه، وجوز أن تكون الضمائر في { { دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [النجم: 8-9] على ما روي عن الحسن للنبـي صلى الله عليه وسلم، والمراد ثم دنا النبـي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عز وجل قاب قوسين أو أدنى والضمائر في { فَأَوْحَىٰ } الخ لله تعالى، وقيل: { إِلَىٰ عَبْدِهِ } ولم يقل إليه للتفخيم، وأمر المتشابه قد علم.

وذهب غير واحد في وقوله تعالى: { { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5] إلى قوله سبحانه: { { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } [النجم: 7] إلى أنه في أمر الوحي وتلقيه من جبريل عليه السلام على ما سمعت فيما تقدم، وفي قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } الخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا فالضمائر في { دَنَا }، و { تَدَلْى } وكان و { أَوْحَىٰ } وكذا الضمير المنصوب في { رءاهُ } لله عز وجل، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد الله "ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة" الحديث، فأنه ظاهر فيما ذكر.

واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره، وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك، أخرج مسلم "عن مسروق قال: كنت متكئاً عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: { وَلَقَدْ رَءاهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } [التكوير: 23] { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } [النجم: 13]؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض" الحديث، وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبـي هند عن الشعبـي عن مسروق "فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت جبريل منهبطاً" ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في { رءاهُ } ليس راجعاً إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام، وشاع أنها تنفي أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقاً، وتستدل لذلك بقوله تعالى: { { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَـٰرَ } [الأنعام: 103] وقوله / سبحانه: { { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } [الشورى: 51] وهو ظاهر ما ذكره البخاري في «صحيحه» في تفسير هذه السورة، وقال بعضهم: إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق. وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم في جوابها «لا» على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق، والإنصاف أن الأخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقاً، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله.

والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلا عن سماع، وقد أخرج عنه أحمد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربـي" ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في «الآيات البينات» وصححه، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب عكرمة عن قوله تعالى: { { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } [الأنعام: 103] ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبـي ذر، أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبـي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه" ومن طريق هشام وهمام كلاهما عن قتادة "عن عبد الله قال: قلت لأبـي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: قد سألته فقال: رأيت نوراً" فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد الله المازري بلفظ «نُورَانِيّ» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام: "حجابه النور" وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر.

ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا، فمنهم من قال: إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه، وروي ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وهو مروي أيضاً عن ابن مسعود وأبـي هريرة وأحمد بن حنبل، ومنهم من قال: رآه عز وجل بقلبه، وروي ذلك عن أبـي ذر، أخرج النسائي عنه أنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره" وكذا روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبـي حاتم عنه أنه قال: "قالوا: يا رسول الله رأيت ربك؟ قال: رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم: 11]" وفي حديث عن ابن عباس يرفعه "فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي" وكأن التقدير في الآية على هذا ما كذب الفؤاد فيما رأى، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى الفؤاد وهي رواية عن ابن عباس، أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده؛ ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي / في الرؤية بالعين، وقال: إنه ليس عليه دليل واضح قال في «الكشف»: لأن الروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا، وعن الإمام أحمد أنه كان يقول: إذا سئل عن الرؤية رآه رآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه.

واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزم صاحب «الكشف» بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسم ما بين النبـي وجبريل صلاة الله تعالى وسلامه عليهما أي وأن المرئي هو جبريل عليه السلام، وإذا صح خبر جوابه عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لم يكن لأحد محيص عن القول به، وقال العلامة الطيبـي: الذي يقتضيه النظم إجراء الكلام إلى قوله تعالى: { { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } [النجم: 7] على أمر الوحي وتلقيه من الملك ورفع شبه الخصوم، ومن قوله سبحانه: { { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } [النجم: 8] إلى قوله سبحانه: { مِنْ ءايَـٰتِ رَبّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } [النجم: 18] على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، ثم قال: ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام { فَأَوْحَىٰ } الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أوحى إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة { ثُمَّ } على هذا للتراخي الرتبـي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحي بواسطة وتعليم، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنه عنده الترقي من مقام { { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] إلى مخدع { { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [النجم: 9].

وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال: لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف، وذلك قوله تعالى: { { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ } [النجم: 10] أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يُطلعا على سرهما أحداً، وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله:

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سرّ أرق من النسيم إذا سرى

ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو الله عز وجل من النبـي صلى الله عليه وسلم ودنوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك، وقال بعضهم في قوله تعالى: { { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [النجم: 17] ما زاغ بصر النبـي صلى الله عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصاً إلى الحق وما طغى عن الصراط المستقيم.

وقال أبو حفص السهروردي: ما زاغ البصر حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر وما طغى لم يسبق البصر البصيرة ويتعدى مقامه، وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهداً لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل، وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى: { { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } [النجم: 7] إلى النبـي عليه الصلاة والسلام وهو منتهى وصول اللطائف، وفسر { { سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم: 14] بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم مجاوزته إلا بجذبة من جذبات الحق، وقالوا في { قَابَ قَوْسَيْنِ } ما قالوا وأنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهبتَ فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب «الكشف» أم ذهبتَ فيه إلى ما قاله الطيبـي فتأمل والله تعالى الموفق.