قوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَآئِكُمْ } كان ابن مسعود
يقرأ الرفث والرفوث جميعاً، وهو الجماع في قوله، وأصله فاحش القول، كما قال
العجاج:
.......................... عن اللغا ورفث الكلام
فيكنى به عن الجماع، لأنه إذا ذُكِرَ في غير موضعه كان فحشاً.
وفي قوله تعالى: { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ثلاث تأويلات:
أحدها: بمنزلة اللباس، لإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه، يستتر به
كالثوب الملبوس، كما قال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيج ثنى عطفها تثنت عليه فصارت لباساً
والثاني: أنهم لباس يعني السكن لقوله تعالى { { وجعلنا الليل لباساً } [النبأ:
10] أي سكناً، وهذا قول مجاهد وقتادة والسدي.
قوله تعالى: { عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ } سبب هذه الخيانة
التي كان القوم يختانون أنفسهم، شيئان:
أحدهما: إتيان النساء.
الثاني: الأكل والشرب، وذلك أن الله تعالى أباح في أول الإسلام الأكل
والشرب والجماع في ليل الصيام قبل نوم الإنسان، وحرّمه عليه بعد نومه، حتى
جاء عمر بن الخطاب ذات ليلة من شهر رمضان، يريد امرأته، فقالت له: إني قد
نمتُ، وظن أنها تعتل عليه، فوقع بها، وجاء أبو قيس ابن صرمة، وكان يعمل في
أرض له، فأراد الأكل، فقالت له امرأته: نسخّر لك شيئاً، فغلبته عيناه، ثم
أحضرت إليه الطعام، فلم يأكل منه فلما أصبح لاقى جهداً. وأخبر عمر وأبو قيس
رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فأنزل الله تعالى: { عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنفُسَكُمْ }.
{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ } فيه تأويلان:
أحدهما: العفو عن ذنوبهم.
والثاني: العفو عن تحريم ذلك بعد النوم.
ثم قال تعالى: { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } يريد به الجماع، لأن أصل المباشرة
من إلصاق البشرة بالبشرة، وكان ذلك منه بياناً لما كان في جماع عمر.
وفي قوله تعالى: { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ } ثلاثة أقوال:
أحدها: طلب الولد، وهو قول مجاهد، وعكرمة، والسدي.
والثاني: ليلة القدْر، وهو قول ابن عباس، وكان يقرأ { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ
لَكُمْ }.
والثالث: ما أحل الله تعالى لكم ورخص فيه، وهذا قول قتادة.
ثم قال تعالى فيما كان من شأن أبي قيس بن صرمة: { وَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } اختلف في المراد بالخيط
الأبيض والخيط الأسود، على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما رواه سهل بن سعد قال: لما نزلت { فَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ }، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط
أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له
رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعدُ { مِنَ الْفَجْرْ }، فعلموا أنه إنما يعني الليل
والنهار.
والقول الثاني: أنه يريد بالخيط الأبيض ضوء النهار، وهو الفجر الثاني،
وبالخيط الأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني. وروى الشعبي عن عدي بن حاتم:
أنه عند إلى خيطين أبيض وأسود، وجعلهما تحت وسادته، فكان يراعيهما في
صومه، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِةِ، إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ
النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيلِ" . وسُمِّيَ خيطاً، لأن أول ما يبدو من البياض ممتد
كالخيط، قال الشاعر:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق والخيط الأسْودُ لون الليل مكتومُ
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون.
والثالث: ما حكي عن حذيفة بن اليمان أن الخيط الأبيض ضوء الشمس،
ورويَ نحوُهُ عن عليّ وابن مسعود. وقد روى زَرٌ بن حبيش عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل، قال: قلت بعد الصبح؟ قال: هو
الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس، وهذا قول قد انعقد الإجماع على خلافه، وقد
روى سوادة بن حنظلة عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَمْنَعَنَّكُم
مِنْ سُحُورِكُم أذانُ بِلالٍ وَلاَ الفَجْرُ المُسْتَطِيلُ وَلَكِن الفَجْرُ المُسْتَطِيرُ فِي
الأُفُقِ" . وروى الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الفَجْرُ فَجْرَانِ، فَالَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السرحانِ لاَ يُحرِّمُ شَيْئاً،
وَأَمَّا الْمُسْتَطِيرُ الّذِي يَأْخُذُ الأُفُقَ فَإِنَّهُ يُحِلُّ الصَّلاَةَ وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ" .
فأما الفجر، فإنه مصدر من قولهم فَجَرَ الماءُ يَفْجُرُ فَجْراً، إذا جرى
وانبعث، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: (فجر)
لانبعاث ضوئه، فيكون زمان الصوم المجمع على تحريم الطعام والشراب فيه
وإباحته فيما سواه: ما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس.
روى عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَعْظَمُ الصَّائِمينَ أَجْراً
أَقْرَبُهُم منَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ إِفْطَاراً" .
{ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ } يعني به غروب الشمس.
وفي قوله تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنََّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } تأويلان:
أحدهما: عني بالمباشرة الجماع، وهو قول الأكثرين.
والثاني: ما دون الجماع من اللمس والقبلة، قاله ابن زيد ومالك.
{ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ } أي ما حرم، وفي تسميتها حدود الله وجهان:
أحدهما: لأن الله تعالى حدها بالذكر والبيان.
والثاني: لما أوجبه في أكثر المحرمات من الحدود.
وقوله تعالى: { كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ ءَيَاتِهِ لِلنَّاسِ } فيه وجهان:
أحدهما: يعني بآياته علامات متعبداته.
والثاني: أنه يريد بالآيات هنا الفرائض والأحكام.