المعنى:
الرفث الجماع ها هنا بلا خلاف، وفي قراءة ابن مسعود { فلا رفوث }، وقيل: أصله فاحش القول فكنّى به عن الجماع قال العجاج:
عن اللّغا ورفث التكلم
والرفث والترفث: قول الفحش يقال رفث يرفث رفثاً. وروى عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع) كراهية الجماع في أول ليلة من كل شهر، إلا أول ليلة من شهر رمضان لمكان الآية والآشبه أن يكون المراد بليلة الصيام ليالي الشهر كله. وإنما ذكر بلفظ التوحيد، لأنه اسم جنس يدل على التكثير.
ومعنى قوله: { هنّ لباس لكم } أنهن يصرن بمنزلة اللباس، كما قال النابغة الجعدي:
اذا ما الضجيع ثنى عطفه تثنت عليه فكانت لباسا
وقال قوم: معناه هنّ سكن لكم، كما قال: { وجعلنا الليل لباساً } أي سكناً. واللباس الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان، ويشبه بها الأغشية فيقال لبّس السيف بالحلية.
وقوله تعالى: { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } معناه أنهم كانوا لما حرم عليهم الجماع في شهر رمضان بعد النوم. خالفوا في ذلك فذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك الفريضة. فان قيل: أليس الخيانة انتقاض الحق على جهة المساترة، فكيف يساتر نفسه؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أن بعضهم كان يساتر بعضاً فيه فصار كأنه يساتر نفسه، لأن ضرر النقص والمساترة داخل عليه.
الثاني - أنه يعمل عمل المساتر له فهو يعمل لنفسه عمل الخائن له.
ويقال: خانه يخونه خوناً وخيانة، وخونه تخويناً، واختانه اختياناً، وتخوّنه تخوناً، والتخون: التنقص، والتخون: تغيير الحال الى ما لا ينبغي { خائنة الأعين } [المؤمن: 19] مشارفة النظر الي ما لا يحل. وأصل الباب منع الحق.
وقوله تعالى: { فتاب عليكم } أي قبل توبتكم على ما بيناه فيما تقدم. وقوله تعالى: { وعفا عنكم } فيه قولان:
أحدهما - غفر ذنبكم. الثاني - أزال تحريم ذلك عنكم، وذلك عفو عن تحريمه عليهم. وقوله تعالى: { فالآن باشروهن } أي جامعوهن، ومعناه الاباحة دون الأمر، والمباشرة إلصاق: البشرة بالبشرة، وهي ظاهر أحد الجلدين بالآخر.
وقوله تعالى: { وابتغوا ما كتب الله لكم } قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن، وغيره: يعني طلب الولد.
الثاني - قال قتادة: يعني الحلال الذي بيّنه الله في الكتاب، والابتغاء:
الطلب للبغية، وقوله { وكلوا واشربوا } إباحة للأكل والشرب { حتى يتبّين } أي يظهر، والتبين: تميز الشيء الذي يظهر للنفس على التحقيق { الخيط الأبيض من الخيط الأسود } يعني بياض الفجر من سواد الليل. وقيل: خيط الفجر الثاني مما كان في موضعه من الظلام. وقيل النهار من الليل، فأول النهار طلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياء. قال أبو داوود.
فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا
وروي عن حذيفة، والأعمش، وجماعة: أن الخيط الابيض: هو ضوء الشمس، وجعلوا أول النهار طلوع الشمس، كما أن آخر غروبها بلا خلاف في الغروب.
وأكثر المفسرين على القول الأول، وعليه جميع الفقهاء، لا خلاف فيه بين الأمة اليوم.
اللغة:
والخيط في اللغة معروف يقال خاط يخيط خياطة، فهو يخيط، وخيّطه تخييطاً. والخيط: القطيع من النعام. ونعامة خيطاء: قيل: خيطها طول قصبتها، وعنقها. وقيل: اختلاط سوادها ببياضها، وكلاهما يحتمل، فالأول، لأنه كالخيط الممدود. والثاني - لأنه كاختلاط خيوط بيض بسود. والمخيط الابرة. ونحوها مما يخاط به. والابيض نقيض الاسود. والبياض ضد السواد يقال: أبيض، وابياض بيضاضاً وبيّضه تبييضاً، وتبيّض تبيضاً. وبيضة الطير، وبيضة الحديد، وبيضة الاسلام مجتمعه، وابتاضوهم أى استأصلوهم، لأنهم اقتلعوا بيضهم وأصل الباب البياض.
واسود، واسواد اسوداداً، وسوده تسويداً، وتسود تسوداً، وساوده سواداً: أي ساده سواداً، لأن الخفاء فيه كخفاء الشخص في سواد الليل. وسواد العراق: سمي به لكثرة الماء، والشجر الذي تسود به الأرض وسواد كل شيء شخصه. والأسود من الحبة يجمع أساود. وسويداء القلب، وسوداؤه دمه الذي فيه في قول: ابن دريد. وقيل حبة القلب، لأنه في سواد من الظلمة. وساد سؤدداً، فهو سيد، لأنه ملك السواد الأعظم، والمسود: الذي قد ساده غيره.
المعنى:
وقوله { من الفجر } يحتمل معنيين:
أحدهما - أن يكون بمعنى التبعيض, لأن، المعنى من الفجر، وليس الفجر كله. هذا قول ابن دريد.
الثاني - بمعنى تبين الخيط، كأنه قال: الخيط الذي هو الفجر.
وقوله: { ثم أتموا الصيام إلى الليل } قد بينا حقيقة الصيام فيما مضى.
والليل هو بعد غروب الشمس، وعلامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق، وإقبال السواد منه، وإلا فاذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة وعدم الجبال، والروابي، فقد دخل الليل.
وقوله تعالى: { ولا تباشروهن } قيل في معناه قولان ها هنا:
قال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغيرهم: أراد به الجماع.
وقال ابن زيد، ومالك: أراد الجماع. كلما كان دونه من قبلة، وغيرها.
وهو مذهبنا.
وقوله تعالى: { وأنتم عاكفون في المساجد } فالاعتكاف - عندنا - هو اللبث في أحد المساجد الأربعة: المسجد الحرام أو مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) أو مسجد الكوفة أو مسجد البصر، للعبادة من غير اشتغال بما يجوز تركه من أمور الدنيا. وله شرائط - ذكرناها في كتب الفقه - وأصله اللزوم قال الطرماح:
فبات بنات الليل حولي عكفاً عكوف البواكي بينهن صريع
وقال الفرزدق:
ترى حولهن المعتفين كأنهم على صنم في الجاهلية عكف
اللغة:
وقوله تعالى: { تلك حدود الله }. فالحدّ على وجوه:
أحدها - المنع، يقال: حدّه عن كذا حدّا أى منعه. والحدّ حدّ الدار.
والحدّ الفرض من حدود الله أي فرائضه، الحد الجلد للزاني، وغيره. والحد: حد السيف، وما أشبهه. والحد في الحلق: الحدة. والحد: الفرق بين الشيئين. والحد منتهى الشيء. وحد الشراب: صلابته. وإحداد المرأة على زوجها: امتناعها من الزينة والطيب. وإحداد السيف: إشحاذه. وإحداد النظر الى الشيء التحديق إليه. والحديد معروف، وصانعه الحداد. والحداد السجان. والاستحداد حلق الشيء بالحديد. وحاددته: عاصيته، ومنه قوله تعالى { إن الذين يحادّون الله ورسوله } وأصل الباب المنع. والحدّ: نهاية الشيء التي تمنع أن يدخله ما ليس منه، وأن يخرج عنه ما هو منه.
أحكام الاعتكاف:
ولا يجوز الاعتكاف إلا بصوم، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك ابن أنس. وقال الشافعي يصح بلا صوم، وبه قال الحسن إلا أن يشرط. وعندنا
لا يكون أقل من ثلاثة أيام، وبه قال أهل المدينة. وقال أهل العراق: الاعتكاف جائز في كل مسجد يصلى فيه جماعة. وقال مالك: لا إعتكاف إلا في موضع يصلى فيه الجمعة من المصر. وقال أهل العراق: المرأة تعتكف في مسجد بيتها. وقال مالك: لا تعتكف إلا في مسجد جماعة. وقال الشافعي: المرأة والعبد يعتكفان، وكذلك المسافر حيث شاءوا. وقد بينا ما عندنا في ذلك. ولا فرق بين الرجل والمرأة فيه. وقال مالك: لا يكون الاعتكاف أقل من عشرة أيام. وعند أهل العراق يكون يوماً.
ومسائل الاعتكاف قد بيناها في النهاية، والمبسوط في الفقه، فلا نطول بدكرها. والمختلف فيها ذكرناه في مسائل الخلاف.
سبب النزول:
وقيل أن هذه الآية نزلت في شأن أبي قيس بن صرمه، فكان يعمل في أرض له، فأراد الأكل، فقالت امرأته: يصلح لك شيئاً فغلبت عيناه، ثم قدمت إليه الطعام، فلم يأكل، فلما أصبح لاقى جهداً، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذلك، فنزلت هذه الآية.
وروي أن عمراً أراد أن يوقع زوجته في الليل، فقالت: إني نمت فظن أنها تعتل عليه، فوقع عليها، ثم أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك من الغد، فنزلت الآية فيهما.
المعنى:
وقوله تعالى: { كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } يعني ما بين لهم من الأدلة على ما أمرهم به، ونهاهم عنه، لكلي يتقوا معاصي، وتعدي حدوده التي أمرهم الله بها، ونهاهم عنها، وأباحهم إياها. وفي ذلك دلالة على أنه تعالى: أراد التقوى من جميع الناس: الذين بين لهم هذه الحدود. وروي عن أبي عبد الله (ع)
أنها نزلت في خوات من جبير مثل قصة أبي قيس بن صرمه. وأنه كان ذلك يوم الخندق. وروي عن أبي جعفر (ع) حديث أبي قيس سواء.