التفاسير

< >
عرض

وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا
٢
-الزلزلة

تفسير صدر المتألهين

إذا فهمتَ ما مرّ من الكلام، عملتَ أنّ هذا موكِّد لِمَا ذكرناه ومنوِّر لما قرّرناه، إذ فيه إشارة إلى غاية هذه الحركة الأرضيّة، فإنّ الحركة لا بدّ لها من غاية، بل ليس معناها إلاّ التأدّي إلى غاية، والطلب لكمال، والخروج من قوّة إلى فعل، ولهذا حُدَّت بأنّها: "كمالٌ أوّل لِما بالقوّة من حيث هو بالقوّة".
فغاية زلزلة الأرض ظهور أواخر ما في مكامن استعداداتها، وبروز نهايات كمالاتها الجوهريّة يوم القيامة من أفراد طبايع النفوس الإنسانيّة السعيدة أو الشقيّة، وكذا أفراد نفوس الشياطين والجنّ المعبّر عنهما جميعاً بالأثقال - جمع الثقل، وهو متاع البيت ومتاع المسافر -.
شبّه إخراج الطبيعة المحرّكة الأرضيّة ما في مكن قوَّتها ومخزن استعداداتها إلى الفعليّة والبروز بشخص أخرج أمتعته من داخل البيت إلى عرصة التميز وموقف الأشهاد، ليظهر رايجها من كاسدها، وصحيحها من فاسدها، وتميز خبيثها من طيّبها، وكذلك يوم عرض الخلائق في عرصة القيامة - ليميز الله الخبيث من الطيّب -، فتعرف أعمالهم وأفعالهم وضمائرهم ونيّاتهم، ثمّ يُجْزَوَنَ بما كانوا يعملون فيُثابون أو يعاقبون.
هداية حكمية:
ليس لأحد أن ينكر صحّة اجتماع الخلائق كلّهم من الأوّلين والآخرين في وقت واحد على ساهرة واحدة، بعدما بليت أجسادهم، ورمّت عظامهم، كما حكى الله سبحانه عن المنكرين الجاحدين لأمر المعاد، وأمر نبيّنه بالقول الهادي إلى طريق السداد وسبيل الرشاد فقال:
{ { يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الواقعة:47 - 50]. وذلك لأنّ القدرة واسعة، والعناية داعية، والحكمة مقتضية، والموانع ساقطة، إذ زمان الآخرة يَسَع الأزمنة كلّها، وكذا مكانها يَسَع الأمكنة، والله سبحانه يمدّ الأرض ذلك اليوم بقدرته مدَّ الأديم - كما ورد في الخبر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - وكما قال سبحانه: { { وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [الانشقاق:3 - 5].
وممّا يثبت ذلك عقلاً، أنّ الزمان بكمّيته الإتّصالية شخص واحد موجود في وعاء الدهر، وكذا الحركة القطعيّة بامتدادها الاتّصالي لها هويّة ومقداريّة حاضرة عند الباري - جل ذكره -، وعباده المقرّبين المقيمين عنده - من الملائكة والنبيّين والشهداء -، وكذا كلّ ما يقترن الزمان والحركة له حضور جمعيّ يوم الجمع - لا ريب فيه -، فسطح الأرض وإن كان في كلّ زمان بجملة ما عليه غير ما هو في زمان آخر - سابقاً كان أو لاحقاً - لعدم اجتماع أجزائه كلّها، ولعدم حضور ما يقارنها ويوازيها من المتجدّدات والمتغيّرات عند المحبوسين في سجن المكان المقيّدين بقيود الزمان، بل في كلّ زمان يسَع وجه الأرض عدداً معيّنا محصوراً من الخلائق، ثمّ يفرغ عنها ويسع خلقاً جديداً غيرها، إلاّ أنّه إذا انكشف الغطاء، واخذت جملة الزمان شخصاً متّصلاً واحداً، كما هو عند المرتفعين عن قيود الزمان والمكان، كان يجب أن يتصوّر شكل وجه الأرض على هيئة سطح واحد متّصل يتضمّن جميع السطوح الأرضيّة الموجود كلّ منها في زمان معيّن من الأزمنة الكائنة من ابتداء وجود العالم إلى انتهائه، وتكون جميع هذه السطوح التي لا يمكن احصاؤها سطحاً واحداً يسَع الخلائق كلّها يوم القيامة الموجودة في الآزال والآباد.
وإذا أخذ ذلك السطح على هذا الوجه، لم يكن من ذوات الأوضاع الحسيّة، إذ ليس حاصلاً في جهة معيّنة من الجهات، ولا في زمان معيّن من الأزمنة، ولا محسوساً بإحدى هذه الحواسّ، بل إنّما يدرك بالحواسّ الآخرة.
وهكذا مجموع الأمكنة إذا أخذت جملة واحدة، لم يكن موجوداً حسّياً له وحدة حسيّة، بل موجوداً عقليّا له وحدة عقليّة، وهكذا مجموع عالم الأجسام - بما هو مجموع - ليس ممّا يناله الحسّ، بل يشعر به إمّا العقل بذاته، أو بآلة أخرى من مشاعر عالم الآخرة، إذ ليس لعالم الأجسام كلّه وضع خاصّ ولا إليه إشارة حسيّة، ولا له جهة، ولا فيه مكان، فإذا كان وجود سطح الأرض على هذا الوجه من مقدورات الله تعالى من غير شبهة ولا ريب، فإنّه ممّا قاد إليه البرهان ويحكم به الوجدان، ولا تنازع فيه لأحد ممّن له قدم راسخ في المعارف العقليّة، وقد راض نفسه بالرياضات الحكميّة، وحقّق الأمر في نسبة المتغيّرات والمتجّددات إلى الثابتات والكلمات التامّات، وعلم معنى الدهر والسرمد، ونحو وجود الحركة بهويّته الإتّصاليّة، والزمان بكمّيته الامتداديّة التجدّديّة، وما انطبقا عليه ووجدا معه وبه - بالذات أو بالعَرَض - فكيف تقصر قدرته - جلّت كلمته - عن جمع الخلائق كلّها دفعة واحدة في ساهرة واحدة، وكما قال:
{ { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ } [النازعات:13 - 14]. وكذا قوله: { { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [الحاقة:13 - 14]. وقوله: { { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يس:53].