التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٠
-المزمل

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ }:
قال أبو عبيد: الصواب أن يقرأ: { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } بالخفض؛ على معنى إضافة { أَدْنَىٰ } إليها، فكأنه يقول: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، وأدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه، و { أَدْنَىٰ } يكون على الزيادة والنقصان جميعا؛ لأن فضل ما بين الثلث، إلى النصف هو السدس؛ فإذا زاد على الثلث أقل من نصف السدس، فهو إلى الثلث أدنى، وكذلك إذا نقص من الثلث شيئا قليلا، فهو إلى الثلث قريب؛ فيكون إليه أدنى، وكذلك الفضل فيما بين النصف إلى الثلثين هو السدس، فإذا زاد على النصف أكثر من نصف السدس، فهو إلى الثلثين أدنى، وإذا نقص من نصف السدس فهو إلى النصف أدنى وأقرب.
ومنهم من اختار النصب فيهما، والوجهان جميعا محتملان؛ لأن قوله: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ } ليس فيه إيجاب حكم مبتدأ؛ وإنما فيه إخبار عن القيام الذي وجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجائز أن يكون وجد منه [ذلك كله، وهو أن يكون قريباً من الثلثين، وقريباً من النصف، وأدنى من الثلث؛ على ما ذكره أهل المقالة الأولى، ويكون قد قام] أدنى من ثلثي الليل، وقام نصفه وثلثه، وأدنى من نصفه وأدنى من ثلثه، فذكر في الثلثين الأدنى؛ لما وجد منه الأدنى من جهة الزيادة والنقصان، ولم يوجد موافقة الثلثين، وأخبر بالنصف والثلث بالأمرين جميعا؛ لوجود الموافقة، وهو أن يكون قام نصف الليل، وقام ثلثه، وقام أدنى من النصف، وأدنى من الثلث، وإذا كان هذا كله محتملا، لم يجز أن يدفع أحد الوجهين، ويتمسك بالوجه الآخر؛ وهذا كقوله تعالى:
{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ } [الإسراء: 102]، فقرئ برفع التاء ونصبه جميعا؛ لما وجد الأمران جميعا، وهو أن يكون موسى - عليه السلام - وفرعون عَلِما بها أي: بالآيات جميعا.
وكذلك قال في سورة سبأ:
{ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ: 19]، وقرئ: { رَبُّنَا بَاعَدَ بين أسفارنا }؛ لوجود الأمرين جميعا وهو الدعاء والإجابة؛ فقوله - عز وجل -: { رَبَّنَا بَاعِدْ } دعاء، وقوله: { رَبُّنَا بَاعَدَ } على الإجابة، ففرق بينهما بالإعراب؛ فكذلك هاهنا لما استقام وجود الوجهين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، استقام أن يقرأ بالنصب والخفض جميعا، ويفرق بينهما بالإعراب، والله أعلم.
ثم يجوز أن يكون المفروض من القيام قدر ثلث الليل، ويكون الزيادة بحكم النافلة.
ويجوز أن يكون مفروضا، وإن طال، وزاد على الثلث والنصف والثلثين، وإن كان يجوز له الاقتصار على ثلث الليل؛ ألا ترى أن فرض الركوع والسجود يقضى بإدراك جزء منه، وكذلك فرض القيام [يقضى] بالجزء منه، ثم إن الركوع وإن طال فهو من أوله إلى آخره فرض حتى لو أن داخلا شاركه في أول الركوع، ثم رفع رأسه، وشاركه ثالث في آخر ركوعه، ثم رفع رأسه مع الإمام، صار كل واحد منهم مدركا لفرض الركوع، وإن كان الإمام لو اقتصر على جزء منه، كفاه ذلك عن فرضه؛ فكذلك الفرض لما انصرف إلى قيام الليل فصار جميع ما يؤتى من القيام في الليل وإن طال فرضا، وإن كان قد يجوز الاجتزاء ببعضه.
وقوله - عز وجل -: { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ }:
في هذه الآية، وفي قوله - عز وجل -: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } - دليل على أن فرض القيام كان على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى من تبعه من المؤمنين، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخصوص بالخطاب بقوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } [المزمل: 1]؛ لأنه لو لم يكن الفرض شاملا لهم، لم يكن لقوله: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } معنى؛ ألا ترى أنه إذا لم يفرض علينا قيام الليل في يومنا هذا، لم نحتج في ترك القيام إلى أن يتوب الله علينا.
ثم إن الله تعالى ذكر في التوبة وفيما فيه التبع خطابا يجمع الجميع بقوله: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ }، وبقوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوة } وذكر فيما فيه الأمر خطابا يقتضى الآحاد، وهو قوله:
{ قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } [المزمل: 2-3]؛ ففي هذا أنه قد يجوز أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم على إدخال غيره فيه تبعاً له، ولا يجوز أن يخاطب غير النبي صلى الله عليه وسلم ويراد به إشراك النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الخطاب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هوالمتبوع؛ فجاز إلحاق غيره به، وغيره لا يكون متبوعا حتى يلحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ }:
فيه أن الليل والنهار ليسا يمضيان على الجزاف؛ ولكن بتقدير سبق من الله - عز وجل - وآية ذلك ظاهرة؛ لأنهما يجريان مذ خلقهما على تقدير واحد، لم يتقدما، ولم يتأخرا، ولم ينتقصا ولم يزادا؛ فيكون فيه إبانة أن مدبرهما واحد، وأن الذي قدرهما هكذا ممن لا يبيد ملكه، ولا ينفذ سلطانه.
وقوله - عز وجل -: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ }:
قال بعضهم: علم أن لن تطيقوه.
قال أبو بكر الأصم: هذا لا يستقيم؛ لأنه لا جائز أن يكلفهم الله تعالى ما لا يطيقونه؛ ألا ترى إلى قوله:
{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286].
وليس فيما ذكره أبو بكر ما يدفع هذا التأويل؛ لأنه يقال للأمر إذا اشتد وتعسر: لا يطاق هذا الأمر، وإن لم يكن ذلك خارجا من الوسع؛ ألا ترى إلى [قوله تعالى]:
{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة: 286]، وتأويله: لا تحملنا أمرا يشتد علينا عمله، ليس أنهم خافوا أن يحملهم أمرا لا يحتمله وسعهم؛ فيكون قوله: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } - إن كان تأويله: أن لن تطيقوه - على ذلك، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله: { مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي: لا تحملنا أمرا تهلك فيه طاقتنا، لا أن تحملوا أمرا لا يطيقونه؛ ألا ترى الإنسان يحتمل القتل، ولكن قتله يهلك طاقته.
وجائز أن يكون قوله:
{ وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة: 286]، أي: اعصمنا من الشهوات واللذات؛ لئلا نؤثرها؛ فنكون مضيعين بارتكابها قوة الفعل الذي تعبدنا به؛ فلا نصل إلى فعله، وهذه هي القوة التي لا تزايل الفعل، بل تطابقه، وأما الفعل الذي هو خارج عن احتمال الوسع والطاقة، فذلك هو الذي لا يقع بمثله التكليف.
وجائز أن يكون تأويل قوله تعالى: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ }، أي: لن تحصوا حد ما أمركم به، لو أخذ عليكم في أمر بتقدير الثلث والنصف، لم يمكنكم ذلك إلا بعد جهد؛ ففرض عليكم قيام الثلث من الليل، وجعل لكم الإمكان في أن تزيدوا عليه فيحيط عملكم بقيام الثلث، ولو كان على حد واحد، لم يمكنكم حفظه إلا بعد شدة وجهد، وفي ذلك كلفة عسيرة.
ويؤيد هذا تأويل من قال: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ }، أي: لن تطيقوه، وتكون الطاقة عبارة عن التعسير، واشتداد الأمر.
ثم في هذه الآية دلالة على إباحة تعليق الحكم بالاستحسان؛ لأنه قد فرض عليهم قيام ثلث الليل، ولا يمكنهم تدارك الثلث بتقدير الإحاطة، وإنما يمكنهم بالتقدير الذي يغلب على القلب؛ فثبت أنه قد يجوز أن يكون الحكم معتبرا بما يقع في القلوب، ويغلب على الظنون، والاستحسان ليس إلا تعليق الحكم بما يغلب على القلوب.
والذي يدل على أن الحكم لازم بما ذكرنا: أن الله تعالى ألزم الحد على القاذف وعلى الزاني، ولم يبين مبلغ قوع الضرب فيه، ولا ما يضرب به، فقدر ذلك بما يقع في القلوب أن مثل هذا الضرب يصلح لمثل هذه الجناية، وكذلك قيم الأشياء، والأروش، والنفقات، وتسوية المكاييل، والموازين يعتبر ذلك كله بغلبة الظنون من غير أن كان في شيء من ذلك أصل تقدر النوازل به وتنتزع منه؛ فثبت أنه يجوز أن يحكم بالذي يغلب على القلوب، وأن المجتهد يرجع إلى وجهين: مرة ينظر غيره فيتمثل بها؛ فيسمى ذلك: قياسا، ومرة يحكم فيها بما يغلب على الظنون؛ فيسمى ذلك: استحسانا.
وفي هذه الآية دلالة أن سؤال من يسأل أبا حنيفة -رحمه الله - أن الوتر لو كان له مشابه في الفرض، لكان لا يختلف لعدده - سؤال غير مستقيم؛ لأنه قد فرض على القوم أن يقوموا ثلث الليل، وقد أخبر - عز وجل - أنه لا يحصون حد ما أمرهم به، وإذا لم يحصوا فلا بد أن يقع هناك زيادة ونقصان؛ فكذلك الوتر وإن كان حد عدده غير معروف فهو لا يخرجه عن حكم الفرائض، والله أعلم.
ثم في قوله - عز وجل -: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أن الله وقتما فرض عليهم علم أنهم لا يحصونه؛ ولكن بيّن هذا؛ ليعلموا أن لله تعالى أن يكلفهم إقامة العبادة إلى وقت لا يتهيأ لهم إحاطة مبلغ ذلك الوقت إلا بعد جهد؛ ليعرفوا منة الله تعالى عليهم إذا أسقط عنهم ذلك التكليف، وهو كقوله - عز وجل -:
{ ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } [الأنفال: 66]، ولكن ذكر هذا؛ ليعلموا أنهم يكلفون القيام للعشرة وإن كان بهم ضعف، لكن إذا خفف عنهم، عرفوا ما لله عليهم من عظيم المنة.
وقوله - عز وجل -: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يحتمل أن تكون طائفة منهم امتنعوا عن القيام؛ فتكون التوبة راجعة إليهم؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ }، فهذا يبين أنهم جميعاً لم يقوموا معه؛ وإنما قامت معه طائفة؛ فتكون التوبة راجعة إلى الطائفة التي امتنعت عن القيام.
وجائز أن تكون راجعة إليهم، وإلى الذين قاموا معه؛ فيكون الذين قاموا معه قصروا [في] القيام عن الحد الذي شرط عليهم؛ فافتقروا إلى التوبة - أيضا - كما افتقر إليها من تخلف عن القيام؛ فتاب الله عليهم جميعا، والله أعلم.
وقوله: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }:
فمنهم من ذكر أن قيام الليل صار منسوخا بهذه الآية.
ومنهم من يقول بأن النسخ وقع بقوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ }، وهي الصلاة المفروضة، وليس بينهما فرق عندنا؛ وإنما نسخ بهما جميعا.
ووجه النسخ: هو أن فرض القيام لو كان باقيا، لكان لا يجوز لهم أن يكتفوا من القراءة بما تيسر عليهم؛ لأنهم إذا قاموا إلى ثلث الليل لزمهم تبليغ القراءة إلى حدٍّ يتعسَّر عليهم ويشتد، فإذا أذن بالاقتصار على القدر الذي تيسَّر، عُلِمَ أنه قد سقط عنهم أن يقوموا ثلث الليل. ثم هو إذا قام صلاة المغرب والعشاء قد قرأ من القرآن ما تيسر عليه؛ فصار قاضيا لما اقتضاه قوله: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }، فمن هذا الوجه استدلوا بهذه الآية على نسخ حكم القيام بالليل، ثم هذه القراءة يقيمها في الصلاة؛ فيكون النسخ واقعا بهما.
ثم من الناس من يزعم أن فرض القيام سقط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أمته؛ واستدل بقوله:
{ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء: 79]؛ فإن كان الفرض عليه قائما، لم يكن التهجد به نافلة.
ومنهم من زعم أنه لم يسقط عنه فرض القيام؛ بل دام عليه إلى أن قبض - عليه السلام -.
واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كتب عليّ قيام الليل، ولم يكتب عليكم" ، ومعناه: بقي عليّ مكتوبا، ورفع عنكم؛ إذ قد دللنا [أن] القيام في الابتداء كان [واجباً] عليه وعليهم جميعا.
وقد قال بعض الناس: إن صلاة الليل، لم تكن فرضا على أمته بهذا الحديث، وما ذكرناه عليهم.
ثم الجواب عن التعلق [أن قوله:] { فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } معناه: غنيمة لك، لا أن يكون القيام منه تطوعا.
ووجه صرفه إلى الغنيمة: هو أن العبادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج مخرج الشكر لله تعالى؛ فيصير بها مكتسبا للفضيلة، وليس يقع ذلك موقع التكفير للسيئات؛ لأنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فلم يكن يحتاج إلى إتيان الحسنات؛ ليكفر عنه السيئات، فثبت أن الفعل منه يقع موقع اكتساب الفضيلة؛ فتدوم له بذلك الفضيلة ويستوجب بها جزيل الثواب، وذلك من أعظم الغنائم.
والذي يدل على أن فعله يخرج مخرج الشكر: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه قام] حتى تورمت قدماه؛ فقيل له: يا رسول الله، ألم يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال - عليه السلام -: "أفلا أكون عبدا شكورا؟"، وأما غيره فإن الحسنات منهم مكفرة لسيئاتهم، ومطهرة لزلاتهم؛ قال الله تعالى:
{ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114]؛ فهم بحسناتهم لم يصيروا مكتسبين الفضيلة في مستأنف الأوقات، فيصيروا بها مغتنمين، بل رفعوا زلاتهم، وطهروا أنفسهم من المآثم؛ فلم تصر القربة منهم، والله أعلم.
فلهذا ما سمى تهجده: نافلة، لا أن يكون قيامه نفلا.
وقوله - عز وجل -: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
فمنهم من زعم أن هذه السورة كلها مكية، ومنهم من زعم أن أولها مكية، وآخرها مدنية، ويحتج هؤلاء بقوله تعالى: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ }، وبقوله:
{ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [المائدة: 54]؛ وذلك لأن الجهاد فرض على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة، ولم يوجد منهم الضرب في الأرض في حال كونهم بمكة، وفي هذا إخبار عن جهاد طائفة، وعن ضرب بعض في الأرض؛ فثبت أن نزول هذه الآيات كانت بالمدينة.
واحتجوا - أيضا - بقوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ }، قالوا: إن الزكاة إنما فرضت عليهم بعدما هاجروا إلى المدينة، وفي هذا أمر بإيتاء الزكاة؛ فثبت أن نزولها كان بالمدينة، وأما أول السورة فهي في موضع المحاجة على أهل الشرك، ولم يكن بالمدينة مشرك؛ بل كانوا أهل كتاب.
ومن ذكر أنها كلها مكية، فهو يحمل قوله: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } على الوعد والبشارة، ليس على الإيجاب والوجوب؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل -: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ }، فأخبر أنه سيكون منكم مرضى، لا أن كانوا مرضى في ذلك الوقت؛ فلم يكن فيما ذكر دلالة كونها مدنية.
ثم الآية إن كانت على الوعد؛ ففيه أنهم كانوا في ضيق من العيش، وكانوا من القوم في خوف؛ فيكون فيه بشارة أنه يرفع عنهم الضيق بما يضربون في الأرض، ويوسع عليهم العيش، وأنه يفتح لهم الفتوح، ويكثر أنصارهم حتى يقهروا العدو، ويقع لهم من ناحيتهم الأمن، وقد آل الأمر إلى ما بشروا به، فيه] آية رسالته - عليه السلام - إذا أخبرهم عن علم الغيب، وكان الأمر على ما أخبر.
ثم قوله - عز وجل -: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } في موضع الاعتلال، أنه إنما خفف عليهم الأمر بما ذكر من الأعذار من المرض، والضرب في الأرض، والمجاهدة في سبيل الله تعالى، والتخفيف إذا وجب لعذر مما لم يلاق العذر حالة الفعل، لم يخفف؛ فكيف خفف عنهم قبل وقوع الأعذار، ولكن هذه الأعذار وإن تحققت [هي لا تلاقي الفعل]؛ بل تتقدمه؛ لأن المجاهدة تكون بالنهار، لا بالليل، وكذلك الضرب في الأرض وقت النهار لا الليل، والقيام كان بالليل ليس بالنهار، ثم قد وضع عنهم قيام الليل وإن لم يكن العذر ملاقيا للقيام؛ فعلى ذلك جائز أن يرفع عنهم القيام بالليل وإن لم يأت بعد وقت المجاهدة، ولا كان الضرب موجودا؛ إذ ليس في ذلك كله إلا عدم ملاقاة العذر حالة القيام.
ثم وجه رفع قيام الليل عنهم بالمجاهدة والضرب في الأرض وإن كانا يحصلان في النهار لا في الليل: هو أن المجاهدة بالنهار تضعفهم، وتوهن قواهم؛ فيتعذر عليهم قيام الليل، وكذلك الضرب في الأرض؛ فمن الله تعالى عليهم بأن رفع عنهم قيام الليل، وإن لم يوجد منهم الاشتغال بالجهاد بالليالي، والله أعلم.
ثم الضرب في الأرض يكون للتجارة، ولغيرها من الوجوه: لطلب العلم، وغيره من الأسباب؛ فلا يحصل أمر الضرب على التجارة خاصة.
وقوله - عز وجل -: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ }.
قال أبو بكر في قوله: { وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } دلالة أن هذه الآية مدنية؛ لأن الزكاة إنما فرضت عليهم بالمدينة، فإن كان الأمر على ما ذكر: أن فرضها نزل بالمدينة فذلك عندنا مصروف إلى زكاة المواشي خاصة؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن لهم بمكة سوائم؛ لأنه كانوا يخافون العدو؛ فلم يتهيأ لهم إسامة المواشي، وأما ما رجع من الزكوات إلى غيرها من الأموال، فيشبه أن تكون واجبة عليهم في حال كونهم بمكة، وبعد مفارقتهم منها، ولا يكون في الأمر بإيتاء الزكاة دلالة نزولها بالمدينة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }:
فالقرض - في لغة العرب -: القطع، يقال: قرض الفأر الجراب، أي: قطعه؛ فسمي القرض: قرضا لهذا؛ لأنه يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذلك هو بالتصدق يقطع ذلك القدر؛ فيجعله لله تعالى خالصا؛ فسمي: إقراضا لهذا.
ويجوز أن يكون أضاف إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما يتصدق عليه؛ إذ الإقراض حصل فيما بينه وبين ربه؛ فيصير الفقير معاونا له في تلك القربة.
ولأن المرء في الشاهد إنما يقرض ما يفضل عن حاجته، فيدفعه إلى من يثق به، ليسترده منه عند حاجته إليه؛ فكذلك الصدقة أُوجبت في المال الذي يفضل عن حاجاته، فيقرضها الله تعالى فيجدها مهيأة عندما تمسه الحاجة.
ثم المال الذي يدفعه إلى الفقير على جهة التصدق هو مال الله تعالى، ثم جعل الله تعالى ذلك منه إقراضا له جل جلاله وأضافه إلى نفسه؛ فتكون الفائدة في الإضافة إلى نفسه هي تفضيل عمله؛ ليرغبه في مثل ذلك الفعل على جهة التكرم منه، وهو كما سمى الثواب الذي يتفضل [به] على عباده أجرا بقوله:
{ مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ } [الجاثية: 15]، ومن عمل لنفسه لم يستوجب الأجر على غيره، وسمى الذي يقتل: شهيدا بائعا نفسه لله تعالى؛ على تفضيل وترغيب للعباد في مثله؛ لقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [التوبة: 111].
وقوله - عز وجل -: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } معناه: تجدوه حاصلاً لكم، وإلا فكل شيء تقدمونه من خير أو شر تجدونه حاضراً في ذلك اليوم، ولكن الشر يكون عليهم، قال الله تعالى:
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [آل عمران: 30]، وقال - عز وجل -: { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49].
وقوله - عز وجل -: { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً }، وفي حق الكلام أن يقول: "هو خير"؛ لأن "هو" يرفع ما بعده، ولكن "هو" كالفصل هاهنا، وحقه الحذف، وإذا حذف انتصب الكلام؛ لأن معناه: تجدونه عند الله خيرا لكم مما خلفتم، فيكون "خيرا" مفعولا.
ثم قوله - عز وجل -: { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } يحتمل أوجها:
أحدها: أنه خير لكم، وأعظم أجرا مما خلفتم لورثتكم، فيكون فيه أن الذي يخلفه لورثته له فيه خير، ولكن ما يقدم لآخرته خير له، والذي يدل على أن له فيما يخلفه لورثته خيرا قوله - عليه السلام -:
"إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس" .
والثاني: أن المرء في الشاهد قد تسخو نفسه ببذل [الأموال] للآجلة الآجلة لما يأمل منهم من المال الثواب العاجل، فيكون في قوله: { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } ترغيب للعباد في تقديم الأموال لوجه الله تعالى؛ لأنهم إذا رغبت أنفسهم في بذل الأموال للآجلة؛ طمعا للمنافع التي تحصل لهم؛ فكان بذلك المال لوجه الله تعالى أعظم في الأجر، وأولى أن يقع فيه الرغبة.
ولأن النفس قد تتحمل المكروه في الشاهد لمنافع تأملها في ثاني الحال، فإذا طمعت لما تبذل لوجه الله تعالى الثواب الجزيل والأجر العظيم خف عليها تحمل المكروه، والذي يناله بالبذل.
ويجوز أن يكون قوله - عز وجل -: { وَأَعْظَمَ } بمعنى: عظيم؛ إذ قد يستعمل حرف "أفعل" في موضع "فعيل"؛ كما يقال "أكبر" بمعنى: "كبير"، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } فالاستغفار: هو طلب المغفرة، وذلك يكون باللسان مرة، وبالأفعال ثانيا.
فطلب المغفرة من جهة الفعل: أن ينتهي عن الفعل الذي يستحق عليه العقاب ويجيب إلى ما [دعا الله إليه]؛ قال الله - تعالى -:
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38] فجعل انتهاءهم عن الكفر ودخولهم في الإسلام سبب مغفرتهم، وقال الله تعالى: { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [نوح: 10]، وليس استغفارهم [أن يقولوا باللسان: "اللهم اغفر لنا"، ولكن معناه: أن انتهوا عما أنتم فيه من الكفر، وأجيبوا ربكم فيما دعاكم إليه، فهذا هو الاستغفار] من جهة الأفعال.
وأما الاستغفار باللسان وهو طلب المغفرة، يكون على وجهين:
أحدهما: أن تسأل ربك التجاوز عن سيئاتك.
والثاني: أن يسأل حتى يوفقه للسبب الذي إذا جاء به استوجب المغفرة، وعلى هذا التأويل يخرج استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، وهو أنه طلب من ربه أن يوفقه لما فيه نجاته، وهو الإسلام، لا أن يسأل ربه أن يغفر له مع دوامه على الكفر؛ ألا ترى أنه امتنع عن الاستغفار له حيث تقررت عنده عداوته لله تعالى، وعلم أنه لم يوفق للسبب الذي يستوجب به المغفرة؛ قال الله تعالى:
{ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [التوبة: 114]، فثبت أنه لم يطلب منه المغفرة مع دوامه على الكفر، ولكن للوجه الذي ذكرنا، والله أعلم.