التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٠
-المزمل

روح المعاني

{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلَ } أي زماناً أقل منهما استعمل فيه الأدنى وهو اسم تفضيل من دنا إذا قرب لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز فهو فيه مجاز مرسل لأن القرب يقتضي قلة الأحياز بين الشيئين فاستعمل في لازمه أو في مطلق القلة، وجوز اعتبار التشبيه بين القرب والقلة ليكون هناك استعارة والإرسال أقرب.

وقرأ الحسن وشيبة وأبو حيوة وابن السميفع وهشام وابن مجاهد عن قنبل فيما ذكر صاحب «الكامل» (ثلثي) بإسكان اللام وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب «اللوامح».

{ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } بالنصب عطفاً على (أدنى) كأنه قيل يعلم أنك تقوم من الليل أقل من ثلثيه وتقوم نصفه وتقوم ثلثه. وقرأ العربيان ونافع (ونصفه وثلثه) بالجر عطفاً على (ثلثي الليل) أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف وأقل من الثلث، والأول مطابق لكون التخيير فيما مر بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين، والثاني مطابق لكون التخيير بين النصف وهو أدنى من الثلثين وبين الثلث وهو أدنى من النصف وبين الربع وهو أدنى من الثلث، كذا قال غير واحد فلا تغفل.

واستشكل الأمر بأن التفاوت بين القراءتين ظاهر فكيف وجه صحة علم الله تعالى لمدلولهما وهما لا يجتمعان؟ وأجيب بأن ذلك بحسب الأوقات فوقع كل في وقت فكانا معلومين له تعالى واستشكل أيضاً هذا المقام على تقدير كون الأمر وارداً بالأكثر بأنه يلزم إما مخالفة النبـي صلى الله عليه وسلم لما أمر به أو اجتهاده والخطأ / في موافقة الأمر وكلاهما غير صحيح أما الأول فظاهر لا سيما على كون الأمر للوجوب وأما الثاني فلأن من جوز اجتهاده عليه الصلاة والسلام والخطأ فيه يقول إنه لا يقر عليه الصلاة والسلام على الخطأ. وأجيب بالتزام أن الأمر وارد بالأقل لكنهم زادوا حذراً من الوقوع في المخالفة وكان يشق عليهم وعلم الله سبحانه أنهم لو لم يأخذوا بالأشق وقعوا في المخالفة فنسخ سبحانه الأمر كذا قيل فتأمل فالمقام بعد محتاج إليه. وقرأ ابن كثير في رواية شبل (وثلثه) بإسكان اللام.

{ وَطَائِفَةٌ مّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } عطف على الضمير المستتر في { تقوم } وحسنه الفصل بينهما أي وتقوم معك طائفة من أصحابك { وَٱللَّهُ يُقَدّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى فإن تقديم اسمه تعالى مبتدأ مبنياً عليه { يُقَدّرُ } دال على الاختصاص على ما ذهب إليه جار الله، ويؤيده قوله تعالى: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } فإن الضمير لمصدر { يُقَدّرُ } لا للقيام المفهوم من الكلام، والمعنى علم أن الشأن لن تقدروا على تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات ولا يتأتى لكم حسابها بالتعديل والتسوية إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط وذلك شاق عليكم بالغ منكم. { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم في تركه، فالكلام على الاستعارة حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة واستعمل اللفظ الشائع في المشبه به في المشبه كما في قوله تعالى { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَاشِرُوهُنَّ } [البقرة: 187] وزعم بعضهم أنه على ما يتبادر منه فقال فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به وليس بشيء.

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها، وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق، ومن ذهب إلى الأول قال إن الله تعالى افترض قيام مقدار معين من الليل في قوله سبحانه: { قُمِ ٱلَّيْلَ } [المزمل: 2] الخ ثم نسخ بقيام مقدار ما منه في قوله سبحانه: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرؤا } الآية فالأمر في الموضعين للوجوب إلا أن الواجب أولاً كان معيناً من معينات وثانياً كان بعضاً مطلقاً ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقاً بالصلوات الخمس، ومن ذهب إلى الثاني قال إن الله تعالى رخص لهم في ترك جميع القيام وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلاً فكأنه قيل فتاب عليكم ورخص في الترك فاقرؤا ما تيسر من القرآن إن شق عليكم القيام فإن هذا لا يشق وتنالون بهذه القراءة ثواب القيام وصرح جمع أن { فاقرؤا } على هذا أمر ندب بخلافه على الأول.

هذا واعلم أنهم اختلفوا في أمر التهجد فعن مقاتل وابن كيسان أنه كان فرضاً بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بهن إلا ما تطوعوا به ورواه البخاري ومسلم في حديث جابر. وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجه والنسائي عن سعد بن هشام قال «قلت لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق نبـي الله تعالى القرآن قال فهممت أن أقوم ولا أسأل أحداً عن شيء حتى أموت ثم بدا لي فقلت أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ألست تقرأ { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُ } [المزمل: 1] قلت بلى قالت: فإن الله تعالى افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبـي الله وأصحابه حولاً وأمسك الله تعالى خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف وصار قيام الليل تطوعاً» وفي رواية عنها أنه دام ذلك ثمانية أشهر، وعن قتادة دام عاماً أو عامين وعن بعضهم أنه كان واجباً وإنما وقع التخيير في المقدار ثم نسخ بعد عشر سنين وكان الرجل كما قال الكلبـي يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين. وقيل كان نفلاً بدليل التخيير في المقدار وقوله تعالى: { { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء: 79] حكاه غير واحد وبحثوا فيه لكن قال الإمام صاحب «الكشف» لم يرد هذا القائل أن التخيير ينافي الوجوب بل استدل بالاستقراء وأن الفرائض لها أوقات محدودة / متسعة كانت أو ضيقة لم يفوض التحديد إلى رأي الفاعل، وهو دليل حسن وأما القائل بالفرضية فقد نظر إلى اللفظ دون الدليل الخارجي ولكل وجه. وأما قوله ولقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّيْلِ } [الإسراء: 79] الخ فالاستدلال بأنه فسر { نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء: 79] بأن معناه زائدة على الفرائض لك خاصة دون غيرك لأنها تطوع لهم وهذا القائل لا يمنع الوجوب في حقه عليه الصلاة والسلام وإنما يمنعه في حق غيره صلى الله عليه وسلم والآية تدل عليه فلا نظر فيه. ثم إنه لما ذكر سبحانه في تلك السورة { وَمِنَ ٱللَّيْلِ } أي خص بعض الليل دون توقيت وهٰهنا وَقَّتَ جل وعلا ودل على مشاركة الأمة له عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: { وَطَائِفَةٌ مّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } نُزِّلَ ما ثَمَّ على الوجوب عليه صلى الله عليه وسلم خاصة وهٰهنا على التنفل في حقه وحق الأمة وهذا قول سديد إلا أن قوله تعالى { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يؤيد الأول انتهى وعنى بالأول القول بالفرضية عليه عليه الصلاة والسلام وعلى الأمة وظواهر الآثار الكثيرة تشهد له لكن في «البحر» أن قوله تعالى: { وَطَائِفَةٌ مّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } دليل على أنه لم يكن فرضاً على الجميع إذ لو كان فرضاً عليهم لكان التركيب والذين معك إلا إن اعتقد أنه كان منهم من يقوم في بيته ومنهم من يقوم معه فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع انتهى وأنت تعلم أنه لا يتعين كون (من) تبعيضية بل تحتمل أن تكون بيانية ومن يقول بالفرضية على الكل صدر الإسلام يحملها على ذلك دون البعضية باعتبار المعية فإنها ليست بذاك والله تعالى أعلم.

وأفادت الآية على القول الأخير في قوله سبحانه: { فاقرؤا } الخ ندب قراءة شيء من القرآن ليلاً وفي بعض الآثار «من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن» وفي بعضها «من قرأ مائة آية كتب من القانتين» وفي بعض خمسين آية والمعول عليه من القولين فيه القول الأول وقد سمعت أن الأمر عليه للإيجاب وأنه كان يجب قيام شيء من الليل ثم نسخ وجوبه عن الأمة بوجوب الصلوات الخمس فهو اليوم في حق الأمة سنة. وفي «البحر» بعد تفسير { فاقرؤا } يصلوا وحكاية ما قيل من النسخ وهذا الأمر عند الجمهور أمر إباحة وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة وقال بن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو بمقدار خمسين آية انتهى وظاهر سياقه أن هؤلاء قائلون بوجوبه اليوم وأنه لم ينسخ الوجوب مطلقاً وإنما نسخ وجوب معين وهذا خلاف المعروف فعن ابن عباس سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار تطوعاً وبقي ذلك فرضاً على رسول الله عليه الصلاة والسلام وأظن الأمر غنياً عن الاستدلال فلنطو بساط القيل والقال. نعم كان السلف الصالح يثابرون على القيام مثابرتهم على فرائض الإسلام لما في ذلك من الخلوة بالحبيب والأنس به وهو القريب من غير رقيب، نسأل الله تعالى أن يوفقنا كما وفقهم ويمن علينا كما من عليهم.

بقي هٰهنا بحث وهو أن الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه استدل بقوله تعالى: { فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } على أن الفرض في الصلاة مطلق القراءة لا الفاتحة بخصوصها وهو ظاهر على القول بأنه عبر فيه عن الصلاة بركنها وهو القراءة كما عبر عنها بالسجود والقيام والركوع في مواضع. وقدر ما تيسر بآية على ما حكاه عنه الماوردي وبثلاث على ما حكاه عنه ابن العربـي والمسألة مقررة في الفروع. وخص الشافعي ومالك ما تيسر بالفاتحة واحتجوا على وجوب قراءتها في الصلاة بحجج كثيرة منها ما نقل أبو حامد الإسفرايني عن ابن المنذر بإسناده عن أبـي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام (( "لا تجزى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" )) ومنها ما روي أيضاً عن أبـي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم(( " كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج" )) أي نقصان للمبالغة أو ذو نقصان. واعترض بأن النقصان لا يدل على عدم الجواز. وأجيب بأنه يدل لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفناه عند الإتيان بها على صفة الكمال فعند النقصان وجب أن يبقى على الأصل ولا يخرج عن العهدة / وأكد بقول أبـي حنيفة بعدم جواز صوم يوم العيد قضاء عن رمضان مع صحة الصوم فيه عنده مستدلاً عليه بأن الواجب عليه الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فلا يفيد الخروج عن العهدة.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم (( "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" )) وهو ظاهر في المقصود إذ التقدير لا صلاة صحيحة إلا بها. واعترض بجواز أن يكون التقدير لا صلاة كاملة فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها، وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال. وأجيب بأنا لا نسلم امتناع دخول النفي على مسماها لأن الفاتحة إذا كانت جزءاً من ماهية الصلاة تنتفي الماهية عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءاً منها وهو أول المسألة، سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال بل هو أولى لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل واجب بالإجماع ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحاً أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي لا يكون كاملاً ولأن الأصل بقاء ما كان، وهو التكليف على ما كان ولأن جانب الحرمة أرجح لأنه أحوط.

ومنها أن الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير ضرورة للإجماع على أن الصلاة معها أفضل فلا يجوز المصير إليه لأنه قبيح عرفاً فيكون قبيحاً شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام (( "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح" )).

ومنها أن قراءتها توجب الخروج عن العهدة بيقين فتكون أحوط فوجب القول بوجوبها لنص "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وللمعقول وهو دفع ضرر الخوف عن النفس فإنه واجب. وكون اعتقاد الوجوب يورث الخوف لجواز كوننا مخطئين معارض باعتقاد عدمه فيتقابلان وأما في العمل فالقراءة لا توجب الخوف وتركها يوجبه فالأحوط القراءة إلى غير ذلك.

وأجاب ساداتنا الحنفية بما أجابوا واستدلوا على أن الواجب ما تيسر من القرآن لا الفاتحة بخصوصها بأمور منها ما روى أبو عثمان النهدي عن أبـي هريرة أنه قال "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب" ودفع بأنه معارض بما نقل "عن أبـي هريرة أنه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وبأنه يجوز أن يكون المراد من قوله «ولو بفاتحة الكتاب» هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى ويجب الحمل عليه جمعاً بين الأدلة، وفيه تعسف ولعل الأولى في الجواب جواز كون المراد ولو بفاتحة الكتاب ما هو السابق إلى الفهم من قول القائل لا حياة إلا بقوت ولو الخبز كل يوم أوقية وهو أن هذا القدر لا بد منه وعليه يصير الحديث من أدلة الوجوب.

ومنها أنه لو وجبت الفاتحة لصدق قولنا كلما وجبت القراءة وجبت الفاتحة ومعناه مقدمة صادقة وهي أنه لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لوجوب مطلق القراءة بالإجماع فتنتج المقدمتان لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة وهو باطل. وأجيب بمنع الصغرى أي لا نسلم صدق قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لأن عدم وجوب الفاتحة محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وهو رفع وجوب مطلق القراءة الثابت بالإجماع. سلمناها لكن لا نسلم استحالة قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة لما ذكر آنفاً. وجعل بعض القياس حجة على الحنفية لأن كل ما استلزم عدمه وجوده ثبت وجوده ضرورة. ورد بأن هذا إنما يلزم لو كانت الملازمة وهي قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت ثابتة في نفس الأمر وليس كذلك بل هي ثابتة على تقدير وجوب قراءة الفاتحة فلهذا لا يصير حجة عليهم. وتمام الكلام على ذلك في موضعه. وأنت تعلم أنه على القول الثاني في الآية لا يظهر الاستدلال بها على فرضية مطلق القراءة في الصلاة إذ ليس فيها عليه أكثر من الأمر بقراءة شيء من القرآن قل أو أكثر بدل ما افترض / عليهم من صلاة الليل فليتنبه.

وقوله تعالى: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } استئناف مبين لحكمة أخرى غير ما تقدم من عسر إحصاء تقدير الأوقات مقتضية للترخيص والتخفيف، أي علم أن الشأن سيكون منكم مرضى { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ } يسافرون فيها للتجارة { يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } وهو الربح وقد عمم ابتغاء الفضل لتحصيل العلم. والجملة في موضع الحال { وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } يعني المجاهدين. وفي قرن المسافرين لابتغاء فضل الله تعالى بهم إشارة إلى أنهم نحوهم في الأجر. أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في «شعب الإيمان» وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه قال ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى وتلا هذه الآية: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ } الخ وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من جالب يجلب طعاماً إلى بلد من بلدان المسلمين فيبيعه لسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }" والمراد أنه عز وجل علم أن سيكون من المؤمنين من يشق عليه القيام كما علم سبحانه عسر إحصاء تقدير الأوقات.

وإذا كان الأمر كما ذكر وتعاضدت مقتضيات الترخيص { فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } أي من القرآن من غير تحمل المشاق { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ } أي المفروضة { وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } كذلك وعلى هذا أكثر المفسرين. والظاهر أنهم عنوا بالصلاة المفروضة الصلوات الخمس وبالزكاة المفروضة أختها المعروفة. واستشكل بأن السورة من أوائل ما نزل بمكة ولم تفرض الصلوات الخمس إلا بعد الإسراء والزكاة إنما فرضت بالمدينة وأجيب بأن الذاهب إلى ذلك يجعل هذه الآيات مدنية. وقيل أن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين للأنصباء والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء فيمكن أن يراد بالزكاة الزكاة المفروضة في الجملة فلا مانع عن كون الآيات مكية لكن يلتزم لكونها نزلت بعد الإسراء وحملها على صلاة الليل السابقة حيث كانت مفروضة ينافي الترخيص. وقيل يجوز أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله وليس بذاك { وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أريد به الإنفاقات في سبل الخيرات أو أداء الزكاة على أحسن الوجوه وأنفعها للفقراء.

{ وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ } أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر { تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } أي من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت و{ خَيْراً } ثاني مفعولي { تَجِدُوهُ } وهو تأكيد لضمير { تَجِدُوهُ } وإن كان بصورة المرفوع والمؤكد منصوب لأن هو يستعار لتأكيد المجرور والمنصوب كما ذكره الرضي، أو ضمير فصل وإن لم يقع بين معرفتين فإن أفعل من في حكم المعرفة ولذا يمتنع من حرف التعريف كالعلم. وجوز أبو البقاء البدلية من ضمير { تَجِدُوهُ } ووهمه أبو حيان بأن الواجب عليها إياه.

وقرأ أبو السمال باللام العدوي وأبو السماك بالكاف الغنوي وابن السميفع { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ } برفعهما على الابتداء والخبر، وجعل الجملة في موضع المفعول الثاني قال أبو زيد هي لغة بني تميم يرفعون مابعد الفاصلة يقولون كان زيد هو العاقل بالرفع وعليه قول قيس بن ذريح:

تحن إلى لبنى وأنت تركتها وكنت عليها بالملا أنت أقدر

فقد قال أبو عمرو الجرمي أنشده سيبويه شاهداً للرفع والقوافي مرفوعة ويروى أقدرا.

{ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } في كافة أحوالكم فإن الإنسان قلما يخلو مما يعد تفريطاً بالنسبة إليه وعد من ذلك الصوفية رؤية العابد عبادته قيل ولهذه الإشارة أمر بالاستغفار بعد الأوامر السابقة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقراض / الحسن { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيغفر سبحانه ذنب من استغفره ويرحمه عز وجل. وفي حذف المعمول دلالة على العموم وتفصيل الكلام فيه معلوم نسأل الله تعالى عظيم مغفرته ورحمته لنا ولوالدينا ولكافة مؤمني بريته بحرمة سيد خليقته وسند أهل صفوته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وشيعته.