الضمير في: { وإنه } عائد على القرآن، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر، بل هو من عند الله، وكأنه عاد أيضاً إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وحفص: { نزل } مخففاً، و{ الروح الأمين }: مرفوعان؛ وباقي السبعة: بالتشديد ونصبهما. والروح هنا: جبريل عليه السلام، وقد تقدم في سورة مريم لم أطلق عليه الروح، وبه قال ابن عطية: في موضع الحال كقوله:
{ { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } [المائدة: 61]. انتهى. والظاهر تعلق { على قلبك } و{ لتكون } بنزل، وخص القلب والمعنى عليك، لأنه محل الوعي والتثبيت، وليعلم أن المنزل على قلبه عليه السلام محفوظ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير، وليكون علة في التنزيل أو النزول اقتصر عليها، لأن ذلك أزجر للسامع، وإن كان القرآن نزل للإنذار والتبشير. والظاهر تعلق { بلسان } بنزل، فكان يسمع من جبريل حروفاً عربية. قال ابن عطية، وهو القول الصحيح: وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه. ويمكن أن يتعلق بقوله: { لتكون }، وتمسك بهذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، كان يسمع أحياناً مثل صلصلة الجرس، يتفهم له منه القرآن، وهو مردود. انتهى. وقال الزمخشري: { بلسان }، إما أن يتعلق بالمنذرين، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم؛ وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي المبين لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي، لتجافوا عنه أصلاً وقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وفي هذا الوجه، إن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك، تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك. ولو كان أعجمياً، لكان نازلاً على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات، فإذا كلم بلغتها التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معاني تلك الكلم يتلقاها بقلبه، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت. وإن كلم بغير تلك اللغة، وإن كان ماهراً بمعرفتها، كان نظره أولاً في ألفاظها، ثم في معانيها. فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين. انتهى. وفيه تطويل. { وإنه }، أي القرآن، { لفي زبر الأولين }: أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة، منبه عليه مشار إليه. وقيل: إن معانيه فيها، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة، على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية، حيث قيل: { وإنه لفي زبر الأولين }، لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي إن ذكره ورسالته في الكتب الإلهية المتقدمة يكون التفاتاً، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله: { على قلبك لتكون } إلى ضمير الغيبة، وكذلك قيل في أن يعلمه، أي أن يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم، وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح. وقرأ الأعمش: لفي زبر، بسكون الباء، والأصل الضم، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره، كون علماء بني إسرائيل يعلمونه، أي أو لم يكن لهم علامة على صحة علم بني إسرائيل به؟ إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور النقلية إلى بني إسرائيل، ويسألونهم عنها ويقولون: هم أصحاب الكتب الإلهية. وقد تهود كثير من العرب وتنصر كثير، لاعتقادهم في صحة دينهم. وذكر الثعلبي، عن ابن عباس، أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا زمانه، ووصفوا نعته، وخلطوا في أمر محمد عليه السلام، فنزلت الآية في ذلك، ويؤيد هذا كون الآية مكية. وقال مقاتل: هي مدنية.
{ وعلماء بني إسرائيل }: عبد الله بن سلام ونحوه، قاله ابن عباس ومجاهد، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه السلام، قال تعالى:
{ { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا } [القصص: 53] الآية. وقيل: علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم. وقيل: أنبياؤهم، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانة. وقرأ الجمهور: { { أو لم يكن } [الشعراء: 197] بالياء من تحت، { آية }: بالنصب، وهي قراءة واضحة الإعراب توسط خبر يكن، و{ أن يعلمه }: هو الاسم. وقرأ ابن عامر، والجحدري: تكن بالتاء من فوق، آية: بالرفع. قال الزمخشري: جعلت آية اسماً، وأن يعلمه خبراً، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك فقيل: في تكن ضمير القصة، وآية أن يعلمه جملة واقعة موقع الخبر، ويجوز على هذا أن يكون لهم آية جملة الشأن، وأن يعلمه بدلاً من آية. انتهى. وقرأ ابن عباس: تكن بالتاء من فوق، آية بالنصب، كقراءة من قرأ: { ثم لم تكن }، بتاء التأنيث، { فتنتهم } [الأنعام: 23] بالنصب، { { إلا أن قالوا } [الأنعام: 23] وكقول لبيد: فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت أقدامها
ودل ذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر، وإما لتأويل أن يعلمه بالمعرفة، وتأويل { { إلا أن قالوا } [الأنعام: 23] بالمقالة، وتأويل الإقدام بالإقدامة. وقرأ الجحدري: أن تعلمه بتاء التأنيث، كما قال الشاعر: قالت بنو عامر خالوا بني أسد يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام
وكتب في المصحف: علموا بواو بين الميم والألف. قيل: على لغة من يميل ألف علموا إلى الواو، كما كتبوا الصلوة والزكوة والربوا على تلك اللغة. قال الزمخشري: الأعجمي الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة واستعجام، والأعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء بالنسبة زيادة توكيد. وقال ابن عطية: الأعجمون جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح، وإن كان عربي النسب يقال له أعجم، وذلك يقال للحيوانات والجمادات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جرح العجماء جبار" . وأسند الطبري، عن عبد الله بن مطيع أنه قال، حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة: "جملي هذا أعجم، فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون" . والعجمي هو الذي نسبته في العجم، وإن كان أفصح الناس. انتهى. وفي التحرير: { الأعجمين }: جمع أعجم على التخفيف، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة. قيل: والمعنى ولو نزلناه بلغة العجم على رجل أعجمي فقرأه على العرب، لم يؤمنوا به، حيث لم يفهموه، واستنكفوا من اتباعه. وقيل: ولو نزلنا القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم، لم يؤمنوا، لعنادهم لقوله تعالى: { { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } [الأنعام: 111] الآية، وجمع جمع السلامة، لأنه وصف بالإنزال عليه والقراءة، وهو فعل العقلاء. وقيل: ولو نزل على بعض البهائم، فقرأه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم، لم تؤمن البهائم، كذلك هؤلاء لأنهم: { { كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } [الفرقان: 44] انتهى. ولما بين بما تقدم، من أن هذا القرآن في كتب الأولين، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل. ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان عربي، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعراً وتارة سحراً؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، لكفروا به وتمحلوا بجحوده. وقال الفراء: الأعجمين جمع أعجم وأعجمي، على حذف ياء النسب، كما قالوا: الأشعرين، وواحدهم أشعري. وقال ابن الجهم: قال الكميت:
ولو جهزت قافية شروداً لقد دخلت بيوت الأشعرينا
انتهى. وقرأ الحسن، وابن مقسم: الأعجمين، بياء النسب: جمع أعجمي. والضمير في { سلكناه }، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر. قيل: وهو القرآن، وقاله الرماني. والمعنى: مثل ذلك السلك، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه. { سلكناه }: أدخلناه ومكناه في { قلوب المجرمين }. والمعنى: ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه، ولم يزدهم ذلك إلا عناداً وجحوداً وكفراً به، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكديب له، كما وضعناه فيها. فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغيروا؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود، كما قال: { { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } [الأنعام: 7] الآية. وقال الكرماني: أدخلناه فيها، فعرفوا معانيه، وعجزهم عن الأتيان بمثله، ولم يؤمنوا به. وقال يحيـى بن سلام: الضمير في سلكناه يعود على التكذيب، فذلك الذي منعهم من الإيمان. انتهى. ويقويه قوله: { فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين }. وقال الحسن: الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله: { ما كانوا به مؤمنين }. انتهى. وهو قريب من القول الذي قبله. وقال عكرمة: سلكناه، أي القسوة، وأسند السلك تعالى إليه، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة، وهو الهادي وخالق الضلال. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشد التمكين وأثبته، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه. ألا ترى إلى قولهم: هو مجبول على الشح؟ يريدون تمكن الشح فيه، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه، وهو قوله: { لا يؤمنون به }. انتهى. وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين، يقتضي تغاير من حل به. والمعنى: مثل ذلك السلك في قلوب قريش، سلكناه في قلوب من أجرم، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإجرام. قال ابن عطية: أراد بهم مجرمي كل أمّة، أي إن هذه عادة الله فيهم، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم، وهذا على جهة المثال لقريش، أي هؤلاء كذلك، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما موقع { لا يؤمنون به } من قوله: { سلكناه في قلوب المجرمين }؟ قلت: موقعه منه موقع الموضح والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذباً مجحوداً في قلوبهم، فاتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد، ويجوز أن يكون حالاً، أي سلكناه فيها غير مؤمن به. انتهى. ورؤيتهم العذاب، قيل: في الدنيا، وقيل: يوم القيامة. وقرأ الجمهور: { فيأتيهم }، بياء، أي العذاب. وقرأ الحسن، وعيسى: بتاء التأنيث، أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة، أي فتأتيهم العقوبة يوم القيامة، كما قال: أتته كتابي، فلما سئل قال: أو ليس بصحيفة؟ قال الزمخشري: فتأتيهم بالتاء، يعني الساعة. وقال أبو الفضل الرازي: أنث العذاب لاشتماله على الساعة، فاكتسى منها التأنيث، وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيباً بها، فلذلك أنث. ولا يكتسى المذكر من المؤنث تأنيثاً إلا إن كان مضافاً إليه نحو: اجتمعت أهل اليمامة، وقطعت بعض أصابعه، وشرقت صدر القناة، وليس كذلك. وقرأ الحسن: بغتة، بفتح الغين، فتأتيهم بالتاء من فوق، يعني الساعة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله: { فتأتيهم بغتة } قلت: ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب مما هو أشد منها، وهو لحوقه بهم مفاجأة مما هو أشد منه، وهو سؤالهم النظرة. ومثل ذلك أن تقول: إن أسأت مقتك الصالحون، فمتقك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين. فما هو أشد من مقتهم؟ وهو مقت الله. ويرى، ثم يقع هذا في هذا الأسلوب، فيحل موقعه. انتهى. { فيقولوا }، أي كل أمّة معذبة: { هل نحن منظرون }: أي مؤخرون، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة. ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله في طلبهم سقوط السماء كسفاً وغير ذلك، وقولهم للرسول: أين ما تعدنا به؟
وقال الزمخشري: { أفبعذابنا يستعجلون }، تبكيت لهم بإنكاره وتهكم، ومعناه: كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس، ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال؟ طرفة عين فلا يجاب إليها. ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ، يوبخون به عند استنظارهم يومئذ، ويستعجلون هذا على الوجه، حكاية حال ماضية ووجه آخر متصل بما بعده، وذلك أن استعجالهم بالعذاب إما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن. فقال عز وعلا: { أفبعذابنا يستعجلون }؟ أشراً وبطراً واستهزاء واتكالاً على الأمل الطويل؟ ثم قال: وهب أن الأمر كما يعتقدون من تمتعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك، ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم؟ انتهى. وقيل: اتبع قوله: فتأتيهم بغتة بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة. { فيقولوا هل نحن منظرون }، كما يستغيث إليه المرء عند تعذر الخلاص، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجاً، لكنهم يقولون ذلك استرواحاً. وقيل: يطلبون الرجعة حين يبغتهم عذاب الساعة، فلا يجابون إليها.
{ أفرأيت إن متعناهم سنين }: خطاب للرسول عليه السلام بإقامة الحجة عليهم، في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء لا تغني إذا نزل العذاب بعدها. وقال عكرمة: سنين، عمر الدنيا. انتهى. وتقرر في علم العربية أن أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني، تعدت إلى مفعولين، أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية. في الغالب تقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟ وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في أوائل سورة الأنعام. وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم. ويجوز أن يكون منصوباً بأرأيت على إعمال الأول، وأضمر الفاعل في جاءهم. والمفعول الثاني هو قوله: { ما أغنى عنهم }، وما استفهامية، أي: أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم في تلك السنين التي متعوها؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول، أي: أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل، أي الموعود به، وهو العذاب؟ وظاهر ما فسر به المفسرون ما أغنى: أن تكون ما نافية، والاستفهام قد يأتي مضمناً معنى النفي كقوله:
{ { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } [الأحقاف: 35] بعد قوله: { { أرأيتكم } [الآية: 40] في سورة الأنعام، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون. وجوز أبو البقاء في ما أن تكون استفهاماً ونافية. وقرىء: يمتعون، بإسكان الميم وتخفيف التاء. ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله، إن هي عصت ولم تؤمن، كما قال تعالى:
{ { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [الإسراء: 15]. وجمع منذرون، لأن { من قرية } عام في القرى الظالمة، كأنه قيل: وما أهلكنا القرى الظالمة. والجملة من قوله: { لها منذرون }، في موضع الحال { من قرية }، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائناً لها منذرون، فيكون من مجيء الحال مفرداً لا جملة، ومجيء الحال من المنفي كقولك: ما مررت بأحد إلا قائماً، فصيح. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا، ولم تعزل عنها في قوله: { { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [الحجر: 4] قلت: الأصل عزل الواو، لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: { { سبعة وثامنهم كلبهم } [الكهف: 22]. انتهى. ولو قدرنا لها منذرون جملة، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا. ومذهب الجمهور، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو: ما جاءني أحد إلا راكب. وإذا سمع مثل هذا، خرجوه على البدل، أي: إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول: ما مررت بأحد إلا قائماً، ولا يحفظ من كلامها: ما مررت بأحد إلا قائم. فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة، لورد المفرد بعد إلا صفة لها. فإن كانت الصفة غير معتمدة على أداة، جاءت الصفة بعد إلا نحو: ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو، التقدير: ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد. وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف، فغير معهود في كلام النحويين. لو قلت: جاءني رجل وعاقل، على أن يكون وعاقل صفة لرجل، لم يجز، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض، وتغاير مدلولها نحو: مررت بزيد الكريم والشجاع والشاعر. وأما { { وثامنهم كلبهم } [الكهف: 22] فتقدم الكلام عليه في موضعه. { وذكرى }: منصوب على الحال عند الكسائي، وعلى المصدر عند الزجاج. فعلى الحال، إما أن يقدر ذوي ذكرى، أو مذكرين. وعلى المصدر، فالعامل منذرون، لأنه في معنى مذكرون ذكرى، أي تذكرة. وأجاز الزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولاً له، قال: على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. وأجاز هو وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية. قال الزمخشري: ووجه آخر، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له، والمعنى: وما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، لتكون تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم. { وما كنا ظالمين }، فنهلك قوماً غير ظالمين، وهذا الوجه عليه المعول. انتهى. وهذا لا معوّل عليه، لأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً له غير معتمد على الأداة نحو: ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو. والمفعول له ليس واحداً من هذه الثلاثة، فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش، وإن كانا لم ينصا على المفعول له بخصوصيته.