التفاسير

< >
عرض

أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
-الملك

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ }.
يقول تعالى للمشركين: من هذا الذي غيره سبحانه يرزقكم، إن أمسك الله عنكم رزقه.
والجواب. لا أحد يقدر على ذلك ولا يملكه إلا الله.
وقد صرح تعالى بهذا السؤال وجوابه في قوله تعالى:
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ } [سبأ: 2].
أي لا أحد سواه سبحانه لا إله إلا هو، قال تعالى:
{ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [فاطر: 3].
وذلك لأن الذي يقدر على الخلق هو الذي يملك القدرة على الرزق، كما قال تعالى:
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [يونس: 31].
وكقوله:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الروم: 40].
وهذا من كمال القدرة على الإحياء والإماتة والرزق، وقد بين تعالى أن ذلك لمن بيده مقاليد الأمور سبحانه، وتدبير شؤون الخلق كما في قوله تعالى:
{ لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الزمر: 63] ثم قال: { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الشورى: 12]، أي يبسط ويقدر، يعلم لا عن نقص ولا حاجة، ولكن يعلم بمصالح عباده، { ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ } [الشورى: 19] أي يعاملهم بلطفه وهو قوي على أن يرزق الجميع رزقاً واسعاً، وهو العزيز في ملكه، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، كما قال تعالى: { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [الرعد: 26] أي بمقتضى اللطف والعلم { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6].
ومن هذا كله يرد على أولئك الذين يطلبون عند غيره الرزق، كما في قوله:
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [النحل: 73].
وقد جمع الأمرين توبيخهم وتوجيههم في قوله تعالى:
{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [العنكبوت: 17].
وقد بين تعالى قضية الخلق والرزق والعبادة كلها في قوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } [الذاريات: 57-58].
وقد بين تعالى في الآيات المتقدمة أنه يرزق العباد من السماوات والارض جملة.
وبين في آيات أخرى كيفية هذا الرزق تفصيلاً مام يعجز الخلق عن فعله، وذلك في قوله تعالى:
{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [عبس: 24-32].
فجميع أنواع الرزق في ذلك ابتداء من إنزال الماء من السماء، ثم ينشأ عنه إشقاق الأرض عن النبات بأنواعه حباً وعنباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق وفاكهة، وكلها للإنسان، وقضبا وأباً للأنعام، والأنعام أرزاق أيضاً لحماً ولبناً، وجميع ذلك قوامه إنزال الماء من السماء، ولا يقدر على شيء من ذلك كله إلا الله.
فإذا أمسكه الله عن الخلق لا يقوى مخلوق على إنزاله، فإذا علم المسلم أن الأرزاق بيد الخلاق، ومن بيده مقاليد السماوات والأرض لن يتجه برغبة ولا يتوجه بسؤال إلا إلى الله تعالى، موقناً حق اليقين أنه هو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين.
وكما قال تعالى:
{ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات: 22-23].
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قولها: "والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أعظم مما بيده".