التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ
٢٠
وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ
٢١
-القيامة

روح المعاني

{ كَلاَّ } إرشاد لرسوله صلى الله عليه وسلم وأخذ به عن عادة العجلة وترغيب له عليه الصلاة والسلام في الأناة، وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه باتباعه قوله تعالى:

{ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلأَخِرَةَ } تعميم الخطاب للكل كأنه قيل بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة، ويتضمن استعجالك لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة وفيه أيضاً أن الإنسان وإن كان مجبولاً على ذلك إلا أن مثله عليه الصلاة والسلام ممن هو في أعلى منصب النبوة لا ينبغي أن يستفزه مقتضى الطباع البشرية وأنه إذا نهي صلى الله عليه وسلم عن العجلة في طلب العلم والهدى فهؤلاء ودينهم حب العاجلة وطلب الردى كأنهم نزلوا منزلة من لا ينجع فيهم النهي فإنما يعاتب الأديم ذو البشرة ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه: { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَـٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } [القيامة: 5] فإنه ملوح إلى معنى { بَلْ تُحِبُّونَ } الخ وقوله عز وجل { لاَ تُحَرِّكْ } [القيامة: 16] الخ متوسط بين حبي العاجلة حبها الذي تضمنه { بَلْ يُرِيدُ } تلويحاً وحبها الذي آذن به { بَلْ تُحِبُّونَ } تصريحاً لحسن التخلص منه إلى المفاجأة والتصريح ففي ذلك تدرج ومبالغة في التقريع والتدرج وإن كان يحصل لو / لم يؤت بقوله سبحانه { لاَ تُحَرِّكْ } الخ في البين أيضاً إلا أنه يلزم حينئذٍ فوات المبالغة في التقريع وأنه إذا لم تجز العجلة في القرآن وهو شفاء ورحمة فكيف فيما هو فجور وثبور ويزول ما أشير إليه من الفوائد فهو استطراد يؤدي مؤدى الاعتراض وأبلغ وأطلق بعضهم عليه الاعتراض.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد والحسن وقتادة والجحدري { تحبون } و{ يذرون } بياء الغيبة فيهما وأمر الربط عليها كما تقدم، وهي أبلغ من حيث إن فيها التفاتاً وإخراجاً له عليه الصلاة والسلام من صريح الخطاب بحب العاجلة مضمناً طرفاً من التوبيخ على سبيل الرمز لطفاً منه تعالى شأنه في شأنه صلى الله عليه وسلم وأما القراءة بالتاء ففيها تغليب المخاطب والالتفات وهو عكس الأول. هذا خلاصة ما رمز إليه جار الله على ما أفيد وقد اندفع به قول بعض الزنادقة وشرذمة من قدماء الرافضة أنه لا وجه لوقوع { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } الخ في أثناء أمور الآخرة ولا ربط في ذلك بوجه من الوجوه وجعلوا ذلك دليلاً لما زعموه من أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه، وللعلماء حماة المسلمين وشهب سماء الدين في دفع كلام كثير منه ما تقدم. وللإمام أوجه فيه منها الحسن ومنها ما ليس كذلك بالمرة.

وقال الطيبـي إن قوله تعالى { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } متصل بقوله تعالى { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } [القيامة: 15] أي يقال للإنسان عند إلقاء معاذيره كلا إن أعذارك غير مسموعة فإنك فجرت وفسقت وظننت أنك تدوم على فجورك وأن لا حشر ولا حساب ولا عقاب وذلك من حبك العاجلة والإعراض عن الآخرة وكان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا لقن القرآن أن ينازع جبريل عليه السلام القراءة وقد اتفق عند التلقين للآيات السابقة ما جرت به عادته من العجلة فلما وصل إلى قوله تعالى { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } [القيامة: 15] أوحي إلى جبريل عليه السلام بأن يلقي إليه عليه الصلاة والسلام ما يرشده إلى أخذ القرآن على أكمل وجه فألقى تلك الجمل على سبيل الاستطراد ثم عاد إلى تمام ما كان فيه بقوله تعالى { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ } الخ مثاله الشيخ إذا كان يلقن تلميذه درساً أو يلقي إليه فصلاً ورآه في أثناء ذلك يعجل ويضطرب يقول له لا تعجل ولا تضطرب فإني إذ فرغت إن كان لك إشكال أزيله أو كنت تخاف فوتاً فأنا أحفظه ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتممه انتهى فما في البين مناسب لما وقع في الخارج دون المعنى الموحى به. وخصه بعضهم لهذا بالاستطراد وأطلق آخر عليه الاعتراض بالمعنى اللغوي وهذا عندي بعيد لم يتفق مثله في النظم الجليل ولا دليل لمن يراه على وقوع العجلة في أثناء هذه الآيات سوى خفاء المناسبة.

وقال أبو حيان يظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه سبحانه لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضاً عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله تعالى وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها وبضدها تتبين الأشياء. انتهى وفيه أن هذا إنما يحسن بعد تمام ما يتعلق بذلك المنكر والظاهر أن { لاَ تُحَرِّكْ } [القيامة: 16] الخ وقع في البين.

وقال القفال قوله تعالى { لاَ تُحَرِّكْ } الخ خطاب للإنسان المذكور في قوله تعالى { يُنَبَّؤُاْ ٱلإِنسَانُ } [القيامة: 13] وذلك حال إنبائه بقبائح أفعاله يعرض عليه كتابه فيقال له { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14] فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فقيل له { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } عليك { فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال أو التأمل فيه { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي بيان أمره وشرح عقوبته. والحاصل على هذا أنه تعالى يوقف الكافر على جميع أعماله على التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة انتهى فضمير { بِهِ } وكذا الضمائر بعد للكتاب المشعر به قوله تعالى { يُنَبَّؤُاْ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } وكذا قوله تعالى { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [القيامة: 14] على قول من يفسر البصيرة بالكتابين ولعل الجملة على هذا الوجه في موضع الحال من مرفوع { يُنَبَّؤُاْ } بتقدير القول كأنه قيل ينبؤ الإنسان يومئذٍ عند أخذ كتابه بما قدم وأخر مقولاً له لا تحرك به لسانك الخ فالربط عليه ظاهر جداً ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه لكنه مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور من أن ذلك خطاب له صلى الله عليه وسلم.

والظاهر أن التحريك قبل النهي إنما صدر منه عليه الصلاة والسلام بحكم الإباحة الأصلية فلا يتم احتجاج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية. وقال الإمام لعل ذلك الاستعجال إن كان مأذوناً فيه عليه الصلاة والسلام إلى وقت النهي، وكأنه أراد بالإذن الإذن الصريح المخصوص وفيه بعدما. وعن الضحاك أن النبـي صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ } الخ وليس بالثبت ولعل ظاهر الآية لا يساعده.

ثم إنه ربما يتخيل في الآية وجه غير ما ذكر عن القفال الربط عليه ظاهر أيضاً وهو أنه يكون الخطاب في { لاَ تُحَرِّكْ } الخ لسيد المخاطبين حقيقة أو من باب إياك أعني واسمعي أو لكل من يصلح له وضمير { بِهِ } ونظائره ليوم القيامة والجملة اعتراض جيء به لتأكيد تهويله وتفظيعه مع تقاضي السباق له فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق بذلك اليوم الذي فتحت السورة بإعظامه ما يتعلق قوي داعي السؤال عن توقيته وأنه متى يكون وفي أي وقت يبين لا سيما وقد استشعر أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به فقيل { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ } أي بطلب توقيته { لِسَانَكَ } وهو نهي عن السؤال على أتم وجه كما يقال لا تفتح فمك في أمر فلان { لِتَعْجَلَ بِهِ } لتحصل علمه على عجلة { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } ما يكون فيه من الجمع { وَقُرْآنَهُ } ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } قرأنا ما يتعلق به { فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } إظهاره وقوعاً بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى، وحاصله لا تسأل عن توقيت ذلك اليوم العظيم مستعجلاً معرفة ذلك فإن الواجب علينا حكمة حشر الجمع فيه وإنزال قرآن يتضمن بيان أحواله ليستعد له وإظهاره بالوقوع الذي هو الداهية العظمى وما عدا ذلك من تعيين وقته فلا يجب علينا حكمة بل هو مناف للحكمة فإذا سألت فقد سألت ما ينافيها فلا تجاب انتهى وفيه ما فيه وما كنت أذكره لولا هذا التنبيه. واللائق بجزالة التنزيل ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولى جار الله تجاوز الله تعالى عن تقصيراته فتأمل فلا حجر على فضل الله عز وجل.

ولما ردع سبحانه عن حب العاجلة وترك الأخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يشير إلى حسن عاقبة حب الآخرة وسوء مغبة العاجلة فقال عز من قائل.