القائل هنا هو موسى عليه السلام والضمير في قوله { فعلتها } لقتله القبطي، وقوله { إذاً } صلة في
الكلام وكأنها بمعنى حينئذ، وقوله { وأنا من الضالين } قال ابن زيد معناه من الجاهلين بأن وكزتي إياه تأتي
على نفسه، وقال أبو عبيدة معناه من الناسين لذلك، ونزع بقوله تعالى أن تضل إحداهما، وفي قراءة
عبد الله بن مسعود وابن عباس "وأنا من الجاهلين" ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير، وقوله
{ حكماً } يريد النبوة وحكمتها، وقرأ عيسى "حُكُماً" بضم الحاء والكاف، وقوله { وجعلني من المرسلين }
درجة ثانية للنبوة فرب نبي ليس برسول، ثم حاجه عليه السلام في منه عليه بالتربية وترك القتل بقوله
{ وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل }، واختلف الناس في تأويل هذا الكلام، فقال قتادة هذا
منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة كأنه يقول أويصح لك أن تعتمد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك
ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم، أي ليست نعمة لأن الواجب كان ألا يقتلني وألا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك، وقرأ الضحاك "وتلك نعمة ما لك أن تمنها"، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وقال
الأخفش قيل ألف الاستفهام محذوفة والمعنى "أو تلك" وهذا لا يجوز إلا إذا عادلتها أم كما قال "تروح من
الحي أم تبتكر".
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول تكلف، قول موسى عليه السلام تقرير بغير ألف وهو صحيح كما
قال قتادة والله المعين، وقال السدي والطبري هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة،
كأنه يقول وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني ولكن ذلك لا يدفع رسالتي.
قال القاضي أبو محمد: ولكل وجه ناحية من الاحتجاج فالأول ماض في طريق المخالفة لفرعون
ونقض كلامه كله، والثاني مبد من موسى عليه السلام أنه منصف من نفسه معترف بالحق، ومتى حصل
أحد المجادلين في هذه الرتبة وكان خصمه في ضدها غلب المتصف بذلك وصار قوله أوقع في النفوس،
ولما لم يجد فرعون في هذا الطريق من تقريره على التنزيه وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في
قوله "رسول رب العالمين" فاستفهمه استفهاماً عن مجهول من الأشياء قال مكي كما يستفهم عن الأجناس،
فلذلك استفهم بـ { ما } وقد ورد له استفهام بـ { من } في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن، فأتى موسى
عليه السلام بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها وهي ربوبية السماوات والأرض، وهذه
المجادلة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد فقال فرعون عند ذلك { ألا
تستمعون } على وجه الإغراء والتعجب من شنعة المقالة، إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم
والفراعنة قبله كذلك وهذه ضلالة منها في مصر وديارها إلى اليوم بقية فزاد موسى في البيان بقوله { ربكم
ورب آبائكم الأولين }، فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف { إن رسولكم الذي أرسل إليكم
لمجنون } وقرأ جمهور الناس على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حميد الأعرج ومجاهد "أرسل" على بناء
الفعل للفاعل، فزاد موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون وتبين له أنه في غاية البعد
عن القدرة عليها وهي ربوبية { المشرق والمغرب }، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان
وأرض الإسكندرية، وفي قراءة ابن مسعود وأصحابه "رب المشارق والمغارب وما بينهما".