التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٤
-التوبة

روح المعاني

{ قُلْ } تلوين للخطاب وأمر له صلى الله عليه وسلم بأن يثبت المؤمنين ويقوي عزائمهم على الانتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والإخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجري مجراهم ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا الدنية على وجه التوبيخ والترهيب أي قل يا محمد للمؤمنين { إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف وذكرهم هنا لأن ما تقدم في الأولياء وهم أهل الرأي والمشورة والأبناء والأزواج تبع ليسوا كذلك وما هنا في المحبة وهم أحب إلى كل أحد { وَعَشِيرَتُكُمْ } أي ذووا قرابتكم، وقيل: عشيرة الرجل أهله الأدنون، وأياً ما كان فذكره للتعميم والشمول وهو من العشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربـى، وقيل من العشرة العدد المعروف وسميت العشيرة بذلك على هذا لكمالهم لأن العشرة كما علمت عدد كامل أو لأن بينهم عقد نسب كعد العشرة فإنه عقد من العقود وهو معنى بعيد. وقرأ أبو بكر عن عاصم { عشيراتكم }، والحسن { عشائركم } وأنكر أبو الحسن وقوع الجمع الأول في كلامهم وإنما الواقع الجمع الثاني.

{ وَأَمْوٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا } أي اكتسبتموها، وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها والقرف القشر، ووصفت الأموال بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين وعرق الجبين { وَتِجَـٰرَةٌ } أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح { تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام المواسم { وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا } منازل تعجبكم الإقامة فيها، والتعرض للصفات المذكورة للإيذان بأن اللوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا لا ينافي ما فيها من مبادىء المحبة وموجبات الرغبة فيها وأنها مع مالها من فنون المحاسن بمعزل عن أن تكون كما ذكر سبحانه بقوله: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وتقديم الطاعة لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخذ عليه ولا يكلف الإنسان بالامتناع عنه { وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } أي طريق ثوابه ورضاه سبحانه، ولعل المراد به هنا أيضاً الإخلاص ونحوه لا الجهاد وإن أطلق عليه أيضاً أنه سبيل الله تعالى، ونظم حب هذا في سلك حب الله تعالى شأنه وحب رسوله عليه الصلاة والسلام تنويهاً بشأنه وتنبيهاً على أنه مما يجب أن يحب فضلاً عن أن يكره وإيذاناً بأن محبته راجعة إلى محبة الله عز وجل ومحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما { فَتَرَبَّصُواْ } أي انتظروا { حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } أي بعقوبته سبحانه لكم عاجلاً أو آجلاً على ما روي عن الحسن واختاره الجبائي، وروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل أنه فتح مكة.

{ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أو القوم الفاسقين كافة ويدخل المذكورون دخولاً أولياً، أي لا يهديهم إلى ما هو خير لهم، والآية أشد آية نعت على الناس ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه الله سبحانه بلطفه، وفي الحديث عن النبـي صلى الله عليه وسلم "لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله تعالى ويبغض في الله تعالى حتى يحب في الله سبحانه أبعد الناس ويبغض في الله عز وجل أقرب الناس" والله تعالى الموفق لأحسن الأعمال.

ومن باب الإشارة: أنه سبحانه أشار إلى تمكن رسوله عليه الصلاة والسلام ووصول أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى مقام الوحدة الذاتية بعد أن كانوا محتجبين بالأفعال تارة وبالصفات أخرى وبذلك تحققت الضدية على أكمل وجه بينهم وبين المشركين فنزلت البراءة وأمروا بنبذ العهد ليقع التوافق بين الباطن والظاهر وأمر المشركون بالسياحة في الأرض أربعة أشهر على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيهاً لهم فإنهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله عز وجل ثم على الجبروت ثم على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار فيعذبوا بأنواع العذاب. ومن طبق الآيات على ما في الأنفس ذكر أن هذه المدة هي مدة كمال الأوصاف الأربعة النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ثم قال سبحانه لهم: { وَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } إذ لا بد من حبسكم في تلك المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك { وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَـٰفِرِينَ } [التوبة: 2] المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما عبدوه من دونه ووقوفهم معه على النار { وَأَذَانٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجّ ٱلأَكْبَرِ } أي وقت ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل { { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [التوبة: 3] المراد بذلك كمال المخالفة والتضاد وانقطاع المدد الروحاني، والمراد من قوله سبحانه: { { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّم مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } [التوبة: 4] الذين بقيت فيهم مسكة من الاستعداد وأثر من سلامة الفطرة وبقايا من المروءة أمر المؤمنون أن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وهي مدة تراكم الدين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا ويتوبوا ثم قال سبحانه بعد أن ذكر ما ذكر: { ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أي علماً { وَهَاجَرُواْ } أي هجروا الرغائب الحسية والأوطان النفسية { وَجَـٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ } وهي أموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم، والجهاد بهذه إشارة إلى محو صفاتهم، والجهاد بالأنفس إشارة إلى فنائها في الله تعالى أولئك { أَعْظَمُ دَرَجَةً } في التوحيد { { عَندَ ٱللَّهِ } [التوبة: 20] تعالى { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ } وهو ثواب الأعمال { وَرِضْوَانٍ } وهو ثواب الصفات { { وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } [التوبة: 21] وهو مشاهدة المحبوب الذي لا يزول وذلك جزاء الأنفس، ووجه الترتيب على هذا ظاهر وإنما تولى الله تعالى بشارتهم بنفسه عز وجل ليزدادوا حباً له تبارك وتعالى لأن القلوب مجبولة على حب من يبشرها بالخير. ثم إنه سبحانه بين أن القرابة المعنوية والتناسب المعنوي والوصلة الحقيقية أحق بالمراعاة من الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة وذم سبحانه التقيد بالمألوفات الحسية وتقديمها على المحبوب الحقيقي والتعين الأول له والسبب الأقوى للوصول إلى الحضرة وتوعد عليه بما توعد نسأل الله تعالى التوفيق إلى ما يقربنا منه إنه ولي ذلك.