التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٨
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

الكِفْل: النصيب.
يا أيها الذين آمنوا - أي: اعتقدوا توحيده وعلمه وقدرته وصدّقوا بأنبيائه (عليهم السلام)، - اتقوا الله - فيما نهاكم عنه من قبائح الأفعال ورذائل الصفات - وآمِنوا برسوله -: محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
أو: يا أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وعن ابن عباس: يا أيها الذين آمَنوا ظاهراً، آمِنوا باطناً، يعطكم نصيبين من رحمته، نصيباً لإيمانكم بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونصيباً لإيمانكم بمن قبله من الأنبياء (عليهم السلام)، إن كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب، ولا يبعد أن يُثابوا بما عملوا في دينهم السابق وإن كان منسوخاً.
هكذا قيل، وفيه تفصيل: فإنهم إن لم يكونوا معاندين، بل كانوا منقادين للحق إذا ظهر عليهم، فكل ما عملوا سابقاً طلباً لمرضاة الله، كانوا مثابين به إلى أن وصل إليهم صيت الإسلام، فإذا اجتهدوا في تحقيق الأمر حتى ظهر لهم، فلا شبهة في أن لهم كفلين من رحمة الله، وان لم يكونوا كذلك، بل كانوا متعصبين لدينهم، متصامّين عن استماع الحق، فلا اعتداد بالأعمال التي فعلها الإنسان تعصباً وتجاهلاً من غير طلب البصيرة.
وقيل: الخطاب للنصارى، الذين كانوا في عهده (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وان كان خطاباً لغير أهل الكتاب فالمعنى: اتقوا الله وأثبتوا على إيمانكم برسوله يؤتكم ما وعد مؤمني أهل الكتاب من الكِفْلَين في قوله:
{ { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [القصص:54]. ولا ننقصكم من مثل أجرهم لإنكم مثلهم في أنكم لا تفرقون بين أحد من رسله.
ويجعل لكم يوم القيامة نوراً تمشون به - اي: هدى يهتدون به.
وعن ابن عباس: "النور": القرآن، لما فيه من الأدلة النيّرة على كل حق، والهداية إلى كل خير، وبه الاستحقاق لحصول الضياء في القلب الذي يمشي به يوم القيامة.
ويغفر لكم - أي: يستر عليكم ذنوبكم التي أسلفتم من الكفر والمعاصي.
روى سعيد بن جبير: بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه ودعاه، فاستجاب له وآمن به، فقال أناس ممن آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلاً: "إئذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم".
فأذن لهم. فقدموا مع جعفر، وقد تهيأ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من خصاصة، استأذنوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرجعوا وقدِموا لهم بأموال لهم، فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله فيهم:
{ { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } [القصص:52] الى قوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [القصص:54].
فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله
{ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [القصص:54] فخروا على المسلمين فقالوا: "أمّا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم، فما فَضْلُكُم علينا"؟
فنزلت الآية، فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة.
وروي ان مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوا الفضل عليهم، فنزلت.
مكاشفة
يا أيها المعدودون من أهل الإيمان، اتقوا الله بتكثير الحسنات وتنقيص السيآت، وآمنوا برسوله أي: حصّلوا لأنفسكم مَلكة المعرفة بالله، وكيفية إرسال الرسول، وإنزال الكتب عليه، وإفاضة الحقائق العلمية على قلبه بواسطة المَلَك الموحى إليه بإذن الله، والتصديق برسالته واطلاعه على المغيّبات وحقيّته في كل ما أتى به.
والأول: رعاية للجزء العملي من النفس الإنسانية، ومحافظة على حصول ثمرته التي هي تصفية وجود (وجه) النفس بتقوى الله، والزهد الحقيقي عن كدورات الشهوات الدنيوية من المعاصي والقبائح.
والثاني: رعاية للجزء النظري منها، وايصاله بكماله الذي هو المقصود من وجود الإنسان، وهو اكتساب المعارف الحقة الباقية معه أبداً مخلداً.
وحيث كان كمال الإنسان ومنزلته عند الله، وحصوله المثوبة الأخروية له، منوطاً بثمرة استكمال كل من هاتين القوتين، فلا بد لكل من آمن بالله واليوم الآخر، أن لا يتوانى عن اكتساب الأحوال والأعمال، واقتناء العلوم والمَلَكات المؤدية إلى هاتين الثمرتين.
أما ثمرة الأعمال الصالحة، فالتخلص من ذمائم الأخلاق ورداءة الأوصاف والتعلقات الدنيوية المانعة عن قبول الرحمة والهداية، وإلاَّ فالجود مبذول والرحمة واسعة عند عدم المانع.
وأما ثمرة العقائد الحقة، فمشاهدة الأعيان الشريفة النورية، ومنادمة الملائكة القدسية، وأهل الصفوة، وعباد الله المقربين، وقبول التجليات الإلهية.
أما صاحب رتبة العمل دون العلم، فهمّته متوجهة نحو لذّات الجنان، والمشتهيات من الحور والغلمان، وكل ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين بقوة التخيّل وتصل همّتها إليه - وان كان نازلاً عما يهمّه ويقصده المقرّبون من العرفاء، كالسِدر المخضود والطلْح المنضود.
واما صاحب المعرفة، فهمّته متوجهة نحو عالم القدس والوحدة، ومشاهدة الجمال والجلال، فله المثوبة الكبرى والدرجة الكبرى والدرجة العظمى، والمشرب الكافوري - وما هو دون ذلك إن أراد كالمشرب الزنجبيلي -
فلما أمر سبحانه أهل الإيمان بالتقوى والمعرفة، وكل منهما ينتج ثمرة خاصة ونصيباً مخصوصاً من فيضه ورحمته، وقعت الإشارة إلى حصول النصيبين لهم من الرحمة، نصيباً لأجل العلم، ونصيباً لأجل العمل.
ولما كانت ثمرة العلم أجلّ رتبة وأفضل قدراً من ثمرة العمل - فضيلة الإدراك على الحركة، وشرافة العين على القدم -، أشار أولاً إلى ذكر ثمرة العلم وتعيين ماهيّتها بقوله: { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد:28]، فإن هذا النور بعينه هو النور المذكور في قوله:
{ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ } [التحريم:8].
ثم أشار إلى ثمرة العمل بقوله: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ }، ثم أشار إلى كون ذاته تعالى منشأ جميع الخيرات ومبدأ فنون المبرّات بقوله: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ }، نظراً إلى إمداد لطفه في اجتناب الإنسان عن الرذائل، وقبول توبته { رَّحِيمٌ }، نظراً إلى إفاضة جوده في تلبّس الإنسان للفضائل.