القراءة: قرأ أهل المدينة وعاصم ربما يود خفيفة الباء والباقون بالتشديد وروى محمد بن حبيب الشموني عن الأعشى عن أبي بكر ربتما بالتاء.
الحجة: قال أبو علي أنشد أبو زيد:
مــاوِيِّ بَلْ رُبَّتَما غارةٍ شَعْواءُ كَاللَّذعَةِ بِالْميسَمِ
وأنشد أيضاً:
يــا صاحِبا رُبَّتَ إنْسانٍ حَسَنْ يَسْألُ عَنْكَ الْيَوْمَ أَوْ تَسْأَلُ عَنْ
وقال السكري ربَّما وربَّتما ورُبَما ورُبَتما ورُبَّ ورُبَ ست لغات قال سيبويه: رب حرف ويلحقها ما على وجهين أحدهما: أن يكون نكرة بمعنى شيء وذلك كقوله:
رُبْما تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِن الأَمْرِ لَــهُ فَرْجَــةٌ كَحـَـــلِّ العِقَـــالِ
فما في هذا البيت اسم لما يقدر من حذف الضمير إليه من الصفة والمعنى رب شيء تكرهه النفوس وإذا عاد إليه الهاء كان اسماً ولم يجز أن يكون حرفاً كما أن قوله أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين لما عاد إليه الذكر علمت بذلك أنه اسم وقوله فرجْوة يرتفع بالظرف في قول الناس جميعاً ولا يرتفع بالابتداء وقد يقع أيضاً لفظة من بعد رب في مثل قوله:
ألا رُبَّ مَنْ تَغْتشُّهُ لَكَ ناصِح وَمـُـؤْتَمَنٍ بِالْغَيـْبِ غَيْرُ أَمينِ
فكما دخلت رب على مَنْ وكانت نكرة في معنى شيء كذلك تدخل على ما والآخران تدخل كافة كما في الآية ونحو قول الشاعر:
رُبَــما أَوفَيـْتُ في عَلَمٍ تَرْفَعَنْ ثَوْبي شِمالاتُ
والنحويون يسمّون ما هذه كافة يريدون أنها بدخولها كفت الحرف عن العمل الذي كان له وهيأته لدخوله على ما لم يكن يدخل عليه, ألا ترى أن رب إنما تدخل على الاسم المفرد نحو رب رجل كريم يقول ذلك وربه رجلاً يقول ذلك, ولا يدخل على الفعل فلما دخلت ما عليها سوَّغتْ لها الدخول على الفعل فمن ذلك قوله { { ربما يود الذين كفروا } [الحجر: 2] فوقع الفعل بعدها في الآية وهو على لفظ المضارع ووقع في قوله ربما أوفيت في علم على لفظ الماضي وهكذا ينبغي في القياس لأنها تدل على أمر قد مضى وإنما وقع في الآية على لفظ المضارع لأنه حكاية لحال آتية كما أن قولـه { إن ربك ليحكم بينهم } حكاية لحال آتية ومن حكاية الحال قول القائل:
جارِيةٌ في رَمَضانِ الماضي تُقَطـِّعُ الحَدِيــثَ باِلإِيماضِ
ومن زعم أن الآية على إضمار كان وتقديره ربما كان يود فقد خرج بذلك عن قول سيبويه. ألا ترى إن كان لا يضمره ولم يجز عبد الله المقتول وأنت تريد "كن عبد الله المقتول" فأما إضمارها بعد إن في قولهم إن خيراً فخير فإنما جاز ذلك لاقتضاء الحرف له فصار اقتضاء الحرف له كذكره فأما ما أنشده ابن حبيب لنبهان بن مسور:
لَقَدْ رُزِيَتْ كَعْبُ بْنُ عَوْفٍ وَرُبَّما فَتًى لَمْ يَكُنْ يَرْضى بِشَيْءٍ يَضيمُها
فإن قوله فتى في ربما فتى يحتمل ضروباً أحدها: أن يكون لما جرى ذكر رزيت استغنى بجري ذكره من أن يعيده فكأنه قال ربما رزيت فتى فيكون انتصاب فتى برزيت هذه المضمرة كقوله { { الآن وقد عصيت قبل } [يوسف: 91] فاستغنى بذكر آمنت له المتقدم عن اظهاره بعد وقد يجوز أن ينتصب فتى برزيت هذه المذكورة كأنه قال لقد رزيت كعب بن عوف فتى وربما لم يكن يرضى أي رزئت فتى لم يكن يضام ويكون هذا الفصل في أنه أجنبي بمنزلة قوله:
أَبــو أُمِّــه حــيٌّ أَبــوهُ يُقَارِبُــه
وقد يجوز أن يكون مرتفعاً بفعل مضمر كأنه قال ربما لم يرض فتى كقولـه:
وَقَلَّما وِصالٌ عَلى طول الصُّدُودِ يَدُومُ
ويجوز أن يكون ما نكرة بمنزلة شيء فيكون فتى وصفاً لها لأنها لما كانت كالأسماء المبهمة في إبهامها وصفت بأسماء الأجناس كأنه قال رب شيء فتى لم يكن كذا فهذه الأوجه كلها ممكنة ويجوز في الآية أن يكون ما بمنزلة شيء ويود صفة له لأن ما لعمومها يقع على كل شيء فيجوز أن يعني بها الود كأنه قال رب ودٍ يوده الذين كفروا ويكون يود في هذا الوجه أيضاً حكاية حال ألا ترى أنه لم يكن بعد وهذه الآية في المعنى كقوله: { { فارجعنا نعمل صالحاً } [السجدة: 12] وكقولـه { { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون } [المؤمنون: 99] وكتمنيهم الرد في قوله { { يا ليتنا نرد ولا نكذب } [الأنعام:27] وأما قول من قال ربما بالتخفيف فلأنه حرف مضاعف والحرف والحروف المضاعفة قد تحذف وإن لم يحذف غير المضاعف فمن المضاعف الذي حذف أن وإن ولكن وليس كل المضاعف يحذف لم أعلم الحذف في ثم وأما دخول التاء في ربتما فإنه الحروف ما يدخل عليه حرف التأنيث نحو ثم وثمت ولا ولات قال:
ثُمَّــتَ لا يَجْزُونَني عنْد ذاكُمُ وَلكِنْ سَيَجزينِي المَلِيكُ فَيَعْقبا
فكذلك ألحقت التاء في قولهم ربتما وأنشد الزجاج في تخفيف رب قول الحادرة:
أَسُمي ما يدْرِيكَ أَنْ رُبَ فِتْيَةٍ باكَرْتُ لَذَّتَهُمْ بأَدكـَنَ مَتْـــرعِ
قال وقد يسكنون في التخفيف يقولون رب رجل جاءني وأنشدوا بيت الهذلي:
أَزُهَيـْــرُ إنْ يَشِــبِ القَذالُ فَإنَّني رُبَّ هَيْضَلٍ مَرِسٍ لَفَفْتُ بِهَيْضَلِ
ويقولون ربْت رجل ورَبت رجل بفتح الراء ورب رجل وربما رجل جاءني وربتما رجل فيفتحون حكى ذلك قطرب.
الإعراب: قرآن عطف على الكتاب وإنما عطفه عليه وإن كان الكتاب هو القرآن لاختلاف اللفظين وما فيهما من الفائدتين وإن كانا لموصوف واحد لأن وصفه بالكتاب يفيد أنه مما يكتب ويدوّن ووصفه بالقرآن يفيد أنه مما يؤلف ويجمع بعض حروفه إلى بعض كما قال الشاعر:
إلى الملكِ القَرْمِ وابْنِ الهِمامِ وَلَيـْـثِ الْكَتِيبَـةِ في الْمُزْدَحَمْ
وذي الــرَّأْيِ حينَ تَغُمُّ الأُمُورُ بِــذاتِ الصَّليــلِ وَذاتِ اللُّجمْ
ويقال لم جاز ربما يود الذين كفروا ورب للتقليل وجوابه على وجهين أحدهما: أنه أبلغ في التهديد كما تقول ربما ندمت على هذا وأنت تعلم أنه يندم ندماً طويلاً أي يكفيك قليل الندم فكيف كثيره والثاني: أنه يشغلهم العذاب عن تمني ذلك إلا في أوقات قليلة.
المعنى: { الر } قد تقدَّم الكلام في هذه الحروف وأقوال العلماء فيها { تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } أي هذه آيات الكتاب وآيات القرآن مميز بين الحق والباطل, وقيل المبين البين الواضح عن أبي مسلم وقيل هو المبين للحلال والحرام والأوامر والنواهي والأدلة وغير ذلك. وقيل المراد بالكتاب التوراة والإِنجيل عن مجاهد وقيل المراد به الكتب المنزلة قبل القرآن عن قتادة.
{ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } أي ربما يتمنى الكفار الإِسلام في الآخرة إذا صار المسلمون إلى الجنة والكفار إلى النار ويجوز أن يتمنوا ذلك وقت اليأس. وروى مجاهد عن ابن عباس قال ما يزال الله يدخل الجنة ويرحم ويشفع حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين وقال الصادق (ع) ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم فثمّ يود سائر الخلائق أنهم كانوا مسلمين وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين ألم تكونوا مسلمين قالوا بلى قالو فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيسمع الله عزوجل ما قالوا فأمر من كان في النار من أهل الاسلام فأخرجوا منها فحينئذ يقول الكفار يا ليتنا كنا مسلمين" .
{ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } معناه دعهم يأكلوا في دنياهم أكل الأنعام ويتمتعوا فيها بما يريدون والتمتع التلذذ وهو طلب اللذة حالاً بعد حال { ويلههم الأمل } أي وتشغلهم آمالهم الكاذبة عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن يقال ألهاه الشيء أي شغله وأنساه { فسوف يعلمون } وبال ذلك فيما بعد حين يحلَّ بهم العذاب يوم القيامة وصاروا إلى ما يجحدون به وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يكون مقصور الهمة على أمور الآخرة مستعداً للموت مسارعاً إلى التوبة ولا يأمل الآمال المؤدية إلى الصد عنها
وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان اتباع الهوى وطول الأمل فإن اتباع الهوى يصد عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة.
{ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } معناه ولم نهلك أهل قرية فيما مضى على وجه العقوبة إلا وكان لهم أجل مكتوب لا بد أن سيبلغونه يريد فلا يغرنَّ هؤلاء الكفار إمهالي إياهم إنما ينزل العذاب بهم في الوقت المكتوب المقدر لذلك { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } أي لم تكن أمة فيما مضى تسبق أجلها فتهلك قبل ذلك ولا تتأخر عن أجلها الذي قدّر لها بل إذا استوفت أجلها أهلكها الله.