الفاء فى قوله - سبحانه - { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها من فنون النعم. وجواب { إذا } محذوف يدل عليه قوله - تعالى - بعد ذلك: { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }، ويصح أن يكون جوابه قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ }.
والصاخة: الصيحة الشديدة التى تصُخُّ الآذان، أى تزلزلها لشدة صوتها، وأصل الصخ: الصك الشديد، والمراد بها هنا: النفخة الثانية التى بعدها يبعث الناس من قبورهم..
أى: فإذا جاءت الصيحة العظيمة التى بعدها يخرج الناس من قبورهم للحساب والجزاء، كان ما كان من سعادة أقوام، ومن شقاء آخرين.
وقوله - سبحانه -: { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } بدل مما قبله وهو قوله { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } والفرار: الهروب من أجل التخلص من شئ مخيف.
والمعنى: يوم يقوم الناس من قبورهم للحساب والجزاء يكونون فى كرب عظيم، يجعل الواحد منهم، يهرب من أخيه الذى هو من ألصق الناس به، ويهرب كذلك من أمه وأبيه، ومن صاحبته - وهى زوجه - وبنيه الذين هم فرع عنه.
والمراد بفراره منهم: عدم اشتغاله بشئ يتعلق بهم، وعدم التفكير فيهم وفى الالتقاء بهم، لاشتغاله بحال نفسه اشتغالا ينسيه كل شئ سوى التفكير فى مصيره.. وذلك لشدة الهول، وعظم الخطب.
وخص - سبحانه - هؤلاء النفر بالذكر، لأنهم أخص القرابات، وأولاهم بالحنو والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلا فى أشد حالات الخوف والفزع.
قال صاحب الكشاف: "يفر" منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه بأنهم لا يغنون عنه شيئا: وبدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين، لأنهم أقرب وأحب كأنه قال: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه..
وجملة: { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } مستأنفة. واردة لبيان سبب الفرار. وللمبالغة فى تهويل شأن هذا اليوم.
أى: لكل واحد منهم فى هذا اليوم العظيم، شأن وأمر يغنيه ويكفيه عن الاشتغال بأى أمر آخر سواه. يقال: فلان أغنى فلاناً عن كذا، إذا جعله فى غنية عنه.
وقد ساق ابن كثير -رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث، منها ما رواه النسائى عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحشرون حفاة عراة غُرْلا" - بضم فسكون - جمع أغرل، وهو الأقلف غير المختون - قال ابن عباس: "فقالت زوجته: يا رسول الله، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه }. أو قال: ما أشغله عن النظر" .
ثم بين - سبحانه أقسام الناس فى هذا اليوم فقال: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } أى: وجوه كثيرة فى هذا اليوم تكون مضيئة مشرقة، يعلوها السرور، والاستبشار والانشراح، لما تراه من حسن استقبال الملائكة لهم.
وقوله: { وُجُوهٌ } مبتدأ وإن كان نكرة، إلا أنه صح الابتداء به لكونه فى حيز التنويع و { مُّسْفِرَةٌ } خبره، وقوله { يَوْمَئِذٍ } متعلق به، والإِسفار: النور والضياء.
والمراد أن هذه الوجوه متهللة فرحا، وعليها أثر النعيم.
أما القسم المقابل لهذا القسم، فقد عبر عنه - سبحانه - بقوله: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } أى: عليها غبار، من شدة الهم والكرب والغم الذى يعلوها.
{ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أى: تغشاها وتعلوها ظلمة وسواد، وذلة وهوان، من شدة ما أصابها من خزى وخسران. يقال: فلان رهقِه الكرب، إذا اعتراه وغشيه.
{ أُوْلَـٰئِكَ } يعنى أصحاب تلك الوجوه التى يعلوها الغبار والسواد { هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } أى: الجامعون بين الكفر الذى هو فساد الاعتقاد، وبين الفجور الذى هو فساد القول والفعل.
نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا من أصحاب الوجه المسفرة، الضاحكة المستبشرة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..