التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
-الحج

خواطر محمد متولي الشعراوي

المنسك: هو العبادة، كما جاء في قول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ .. } [الأنعام: 162].
ومعنى { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً .. } [الحج: 34] لأن الشعائر والمناسك والعبادات ليس من الضروري أنْ تتفق عند جميع الأمم، بل لكل أمة ما يناسبها، ويناسب ظَرْفها الزمني والبيئي.
لذلك، فإن الرسل لا تأتي لتُغير القواعد والأسس التي يقوم عليها الدين؛ لأن هذه القواعد وهذه الأسس ثابتة في كل رسالات السماء، لا تتبدل ولا تتغير بتغيُّر الرسل.
يقول تعالى:
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ .. } [الشورى: 13].
هذا في الأصول العَقَدية الثابتة، أما في الفرعيات فنرى ما يصلح المجتمع، وما يناسبه من طاعات وعبادات.
ثم يُبيِّن الحق سبحانه الحكمة من هذه المناسك: { لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ .. } [الحج: 34] أي: يذكروا الله في كل شيء، ويشكروه على كل نعمة ينالونها من بهيمة الأنعام.
لذلك نذكر الله عند الذبح نقول: بسم الله، الله أكبر، لماذا؟ لأن الذبح إزهاق روح خلقها الله، وما كان لك أنْ تزهقها بإرادتك، فمعنى "بسم الله والله أكبر" هنا أنني لا أزهق روحها من عندي، بل لأن الله أمرني وأباحها لي، فالله أكبر في هذا الموقف من إرادتك، ومن عواطفك.
ونرى البعض يأنف من مسألة الذَّبْح هذه، يقول: كيف تذبحون هذا الحيوان أو هذه الدجاجة؟ يدَّعي الرحمة والشفقة على هذه الحيوانات، لكنه ليس أرحم بها من خالقها، وما ذبحناها إلا لأن الله أحلَّها، وما أكلناها إلا بسم الله، بدليل أن ما حرمه الله علينا لا نقرب منه أبداً.
وهل أنا أكرم القطة عن الأرنب، فأذبح الأرنب وأترك القطة؟ وهل احترم الكلب عن الخروف؟ أبداً، المسألة مسألة تشريع وأمر ثبت عن الله، فَعَليَّ أنْ أُعظِّمه وأُطيعه.
وقوله تعالى: { عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ .. } [الحج: 34] الرزق يعني: أنه تعالى أوجدها لك، وملكك إياها، وذَلَّلها لك فاستأنسْتها وسخّرها لك فانتفعتَ بها، ولولا تسخيره ما انقادتْ لك بقُوتك وقدرتك.
ثم يقول سبحانه: { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ .. } [الحج: 34] يعني: إنِ اختلفت الشرائع من أمة لأمة فإيَّاك أنْ تظنَّ أن هذا من إله، وهذا من إله آخر، إنما هو إله واحد يشرِّع لكل أمة ما يناسبها وما يصلحها؛ لأن التشريعات السماوية تأتي علاجاً لآفات اجتماعية.
والأصل الأصيل هو إيمان بإله واحد فاعل قادر مختار، يُبلِّغ عنه رسول بمعجزة تُبيِّن صدقه في التبليغ عن الله. هذا أصل كل الديانات السماوية، كذلك قواعد الدين وأساسياته واحدة مُتفق عليها، فالسرقة والزنا وشهادة الزور.. إلخ كلها مُحرَّمة في كل الأديان.
لكن، هناك أمور تناسب أمة، ولا تناسب أخرى، والمشرِّع للجميع إله واحد، الناس جميعاً من لَدُن آدم وإلى أنْ تقومَ الساعة عياله، وهم عنده سواء، لذلك يختار لكلٍّ ما يُصلحه.
ألا ترى ربَّ الأسرة كيف يُنظِّم حياة أولاده - ولله المثَل الأعلى - فيقول: هذا يفعل كذا، وهذا يفعل كذا، وإذا جاء الطعام قال: هذا يأكل كذا وكذا لأنه مريض مثلاً، لا يناسبه طعام الآخرين، ويأمر الأم أنْ تُعِدَّ لهذا المريض ما يناسبه من الطعام. ذلك لأنه رَاعٍ للجميع مسئول عن الجميع، وعليه أنْ يراعيَ مصلحة كل واحد منهم على حِدَة.
إذن: اختلاف التشريعات في هذه المسائل الجزئية بين الأمم لا يعني تعدُّد الآلهة كلاَّ وحاشا لله، بل هو إله واحد، يعطي عباده كُلاً على حسب حاجته، كي يتوازنَ المجتمع ويستقيم حاله.
نذكر أنه كان عند طبيب الوحدة الصحية دورقان، في كل منهما مزيج معين، وكان يعطي كل المرضى مع اختلاف أمراضهم من هذين النوعين فقط؛ لذلك كانت عديمة الجدوى، أما الآن فالطبيب الماهر لا بُدَّ أن يُجري على مريضه الفحوص والتحاليل اللازمة ليقف على مرضه بالتحديد، ثم يصف العلاج المناسب لهذه الحالة بمقادير دقيقة تُبرئ المرض ولا تضرُّ المريض من ناحية أخرى .. كذلك الأمر في اختلاف الشرائع السماوية بين الأمم.
وما دام أن إلهكم إله واحد، وما دُمْتم عنده سواء، وليس منكم مَنْ هو ابنٌ الله، ولا بينه وبين الله قرابة. إذن: { فَلَهُ أَسْلِمُواْ .. } [الحج: 34] يعني: أَسلِموا كل أموركم لله، فإنْ أمر فعظِّموا أمره، وخذوه على الرَّحْب والسَّعَة، فإنْ ترك مجالاً لاختيارك فاصنع ما تشاء. ولا تنسَ أن الله تعالى أعطاك فرصة للترقِّي الإيماني، وللترقِّي الإحساني، وفتح لك مجال الإحسان إنْ أردتَ.
ثم يقول سبحانه: { وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ } [الحج: 34] المخبت: في المعنى العام: يعني الإنسان الخاشع الخاضع المتواضع لكل أوامر الله، والمعنى الدقيق للمخبت: هو الذي إذا ظُلم لا ينتصر لنفسه، عملاً بقول الله تعالى :
{ { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43] هكذا بلام التوكيد.
أما في وصية لقمان لولده:
{ { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [لقمان: 17] بدون توكيد لماذا؟
قالوا: لأن لقمان يوصي ولده بالصبر على ما أصابه، والمصائب قسمان: مصيبة تصيب الإنسان، وله فيها غريم هو الذي أوقع به المصيبة، وهذه يصاحبها غضب وسعار للانتقام، ومصيبة تصيب الإنسان وليس له غريم كالمرض مثلاً، فإنْ كان له غريم فالصبر أشدُّ، لذلك احتاج إلى التوكيد، على خلاف المصيبة التي ليس أمامك فيها غريم، فهي من الله فالصبر عليها أهونُ من الأولى.
ومع ذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - للنفس البشرية منافذ تُنفِّس من خلالها عن نفسها، حتى لا يختمر بداخلها الغضب، فيتحول إلى حقد وضغينة، قد تؤدي إلى أكثر مما وقع بك؛ لذلك أباح لك الرد لكن حبَّبك في مَرَاقٍ أخرى، هي أجدى لك، فقال تبارك وتعالى:
{ { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 134].
وهذه مراحل ثلاث، تختار منها بحَسْب فَهْمك عن الله وقُربْك منه:
الأولى:
{ { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ .. } [آل عمران: 134] يعني: تكظم غيظك في نفسك، دون أنْ تترجم هذا الغيظ إلى عمل نزوعيّ فتنتقم، فالغيظ - إذن - مسألة وجدانية في القلب، وموجود في مواجيد نفسه، وهذه مرحلة.
الثانية:
{ { وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ .. } [آل عمران: 134] يعني: لا ينتقم، ولا حتى يجعل للغَيْظ مكاناً في نفسه، فيُصفِّيها من مشاعر الحَنَق والغيظ راضياً.
الثالثة:
{ { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 134] وهي أعلى المراتب، وهي ألا تكتفي بالعفو، بل وتُحسِن إلى مَنْ أساء إليك، والبعض يقول: هذا ضد طباع البشر، نعم هي ضد طباع البشر العاديين، لكن الذين يعرفون الجزاء، ويعرفون أنهم بذلك سيكونون في حضانة ربهم يهون عليهم هذا العمل، بل ويُحبون الإحسان إلى مَنْ أساء.
لذلك؛ فالحسن البصري - رضوان الله عليه - لما بلغه أنَّ شخصاً نال منه في أحد المجالس - وكان الوقت بواكير الرُّطَب - أرسل خادمه إليه بطبق من الرطب، وقال له: بلغني أنك أهديْتَ إليَّ حسناتك بالأمس.
ومعلوم أن الحسنات أغلى وأثمن بكثير من طبق الرُّطَب. ومن هنا يقولون: ما أعجب من الذي يُسيء إلى مَنْ أساء إليه، لأنه أعطاه حسناته، وهي خلاصة عمله، فكيف يُسِيء إليه؟!
وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُحدِث توازناً في المجتمع، ويقضي على دواعي الحقد وأسباب الضغائن في النفس البشرية، فحين تُحسِن إلى مَنْ يُسِيء إليك فإنك تجتثّ جذور الكُرْه والحِقْد من نفسه، كما قال سبحانه وتعالى:
{ { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34] فقد أخرجتَ خَصْمك من قالب الخصومة، إلى قالب الولاية والمحبة.
فالمخْبِت المتواضع لله. أما غير المخبِت فتراه متكبراً (يتفرعن) على مَنْ حوله، ويرى نفسه أعظم من الجميع، ولو أنه استحضر جلال ربه لخشع له، وتواضع وانكسر لخَلْقه، فالتكبر دليل غفلة عن عظمة الله، كأنه لم يشهد خالقه.
إذن: تستطيع أن تقول أن الإخبات على نوعين: إخبات لله بالخضوع والخشوع والتعظيم لأوامره، وإخبات لخَلْق الله، بحيث لا ينتصر لظلمه ولا يظلم، إنما يتسامح ويعفو؛ لأنه يعلم جيداً أنه إذا ظُلِم من مخلوق تعصَّب له الخالق.
ولك أن تنظر إلى أولادك إذا ظلم أحدهم الآخر فإلى مَنْ تنحاز، ومع مَنْ تتعاطف؟ لا شك أنك ستميل إلى المظلوم، وتحنو عليه، وتريد أنْ تُعوِّضه عَمَّا لحقه من الظلم، حتى إن الظالم ليندم على ظُلْمه؛ لأنه ميَّز أخاه المظلوم عليه، وربما تمنى أنْ يكونَ هو المظلوم لا الظالم.
كذلك حال المخبِت يرى أن الخَلْق جميعاً عيال الله، وأن أحبّهم إليه أرأفهم بعياله؛ لذلك يعفو عَمَّن ظلمَه، ويترك أمره لله رب الجميع، كما أن المظلوم إذا رَدَّ الظلم فإنه يَردُّه بقوته ومقدرته هو، إنما إنْ ترك الردَّ لله جاء الردُّ على مقدار قوته سبحانه.
مَلْحظ آخر ينبغي أن يتنبه له المظلوم قبل أن يُفكِّر في الانتقام، وهو: مَنْ يدريك لعلك ظلمتَ أنت أيضاً دون أنْ تدري، لعل للناس عندك مظالم لا تشعر بها، وليست في حُسبْانك، فالمسألة - إذن - لك وعليك.
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي:
"يا ابن آدم دعوتَ على مَنْ ظلمك" .
وهذا مباح لك بقوله تعالى: { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ .. } [النساء: 148] يعني: أعطيناك فرصة أنْ تدعو على من ظلمك.
ثم يقول سبحانه:
"ودعا عليك مَنْ ظلمتَه، فإنْ شئتَ أجبناك وأجبنا عليك، وإن شئت أخَّرتكُما للآخرة فيسعكُما عَفْوي" .
فالمخبت يستحضر هذا كله، ويركن إلى العفو والتسامح؛ ليأخذ رَبَّه عز وجل في صفه؛ لذلك يقولون: لو علم الظالم ما أعدَّه الله للمظلوم من الكرامة لضَنَّ عليه بالظلم.
فحين ترى المظلوم يعفو عنك ويتسامح معك، فلا تظن أنك أخضعته لك، إنما هو خضع لله الذي سيرفعه عليك، ويُعْلي رأسه عليك في يوم من الأيام.
لذلك من أنماط السلوك السوي إذا تشاجر اثنان يقول أحد العقلاء: لكما أب نرد عليه، أو لكما كبير نرجع إليه في هذه الخصومة.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ ... }.