التفاسير

< >
عرض

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ
٤١
-الحاقة

الدر المصون

قوله: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ }: معطوفٌ على الجوابِ فهو جواب. أَقْسَمَ على شيئين، أحدُهما مُثْبَتٌ، والآخرُ منفيٌّ وهو من البلاغةِ الرائعة.
قوله: { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } انتصبَ "قليلاً" في الموضعَيْنِ نعتاً لمصدرٍ أو زمانٍ محذوفٍ أي: إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً. والناصب تُؤْمِنون وتَذَكَّرون، و "ما" مزيدةٌ/ للتوكيدِ. وقال ابنُ عطيةَ: "ونُصِبَ "قليلاً" بفعلٍ مضمرٍ، يَدُلُّ عليه "تُؤْمِنون". وما يُحتمل أَنْ تكونَ نافيةً فيَنْتَفِيَ إيمانُهم البتةَ،ويُحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً، ويتصفَ بالقلَّةِ، فهو الإِيمانُ اللغويُّ؛ لأنَّهم قد صَدَّقوا بأشياءَ يسيرةٍ، لا تُغْني عنهم شيئاً؛ إذ كانوا يُصَدِّقون بأنَّ الخيرَ والصِّلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو حقٌّ وصوابٌ". قال الشيخ: "أمَّا قولُه: "قليلاً" نُصِبَ بفعلٍ إلى آخره فلا يَصِحُّ؛ لأن ذلك الفعلَ الدالَّ عليه "تُؤْمنون": إمَّا أن تكونَ "ما" نافيةً [أو مصدريةً] كما ذَهَب إليه. فإنْ كانَتْ نافيةً فذلك الفعلُ المضمرُ الدالُّ عليه "تُؤْمِنون" المنفيُّ بـ "ما" يكونُ منفيّاً، فيكون التقدير: ما تُؤْمِنون قليلاً ما تؤمنون، والفعلُ المنفيُّ بـ "ما" لا يجوزُ حَذْفُه ولا حَذْفُ "ما"، لا يجوز: "زيداً ما أَضْرِبُه" على تقدير: ما أضربُ زيداً ما أَضْرِبُه. وإنْ كانَتْ مصدريةً كانَتْ: إمَّا في موضع رفعٍ بـ "قليلاً" على الفاعلية، أي: قليلاً إيمانُكم، ويبقى "قليلاً" لا يتقدَّمه مَا يَعْتمد عليه حتى يعملَ، ولا ناصبَ له، وإمَّا في موضعِ رفعٍ على الابتداءِ فيكونُ مبتدأً لا خبرَ له، لأنَّ ما قبلَه منصوبٌ".
قلت: لا يريدُ ابنُ عطيةَ بدلالةِ "تُؤْمنون" على الفعلِ المحذوفِ الدلالةَ المذكورةَ في بابِ الاشتغالِ، حتى يكونَ العاملُ الظاهر مفسِّراً للعاملِ المضمرِ، بل يريدُ مجرَّدَ الدلالةِ اللفظيةِ، فليس ما أوردَه الشيخُ عليه مِنْ تمثيلِه بقولِه: "زيداً ما أَضْرِبُه" أي: ما أضربُ زيداً ما أضربه بواردٍ.
وأمَّا الردُّ الثاني فظاهرٌ. وقد تقدَّم لابنِ عطيةَ هذا القولُ في أول سورةِ الأعراف وتكلَّمْتُ معه ثَمَّة. وقال الزمشخريُّ: "والقلَّةُ في معنى العَدَمِ أي: لا تُؤْمنون ولا تَذَكَّرون البتة". قال الشيخ: "ولا يُرادُ بـ "قليلاً" هنا النفيُ المَحْض، كما زعم، وذلك لا يكونُ إلاَّ في "أقَلَّ" نحو: "أقَلُّ رجلٍ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ" وفي "قَلَّ" نحو: "قَلَّ رجلٌ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ" وقد يُستعمل في قليل وقليلة، أمَّا إذا كانا مرفوعَيْنِ، نحوُ ما جَوَّزوا في قولِه:

4323ـ ............................ قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها

أمَّا إذا كان منصوباً نحو: "قليلاً ضَرَبْتُ" أو "قليلاً ما ضَرَبْتُ" على أَنْ تكونَ "ما" مصدريةً فإنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه في "قليلاً ضربْتُ" منصوبٌ بـ "ضربْتُ". ولم تَستعمل العربُ "قليلاً" إذا انتصَبَ بالفعلِ نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأمَّا في "قليلاً ما ضربْتُ" على أَنْ تكونَ "ما" مصدريةً فتحتاج إلى رفع "قليل" لأنَّ "ما" المصدريةَ في موضعِ رفع على الابتداء" انتهى ما رَدَّ به، وهو مجردُ دَعْوى.
وقرأ ابن كثير وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان بالغَيْبة في "يؤمنون" و "يَذَّكَّرون" حَمْلاً على قولِه: "الخاطِئون"، والباقون بالخطاب حَمْلاً على "بما تُبْصِرون وما لا تُبْصرون". وأُبَيٌّ "تتذكَّرون" بتاءين.