الوسيط في تفسير القرآن الكريم
أى: قال فرعون للملأ المحيطين به - بعد أن زلزلته معجزة موسى - { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }.
أى: لساحر بارع فى فن السحر، فهو مع اعترافه بضخامة ما أتى به موسى، يسميه سحرا.
ثم يضيف إلى ذلك قوله لهم: { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ } هذا الساحر { مِّنْ أَرْضِكُمْ } التى نشأتم عليها { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أى: فبأى شىء تشيرون على وأنتم حاشيتى ومحل ثقتى؟
وفى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع لنفس هذا الطاغية وأمثاله...
إنه منذ قليل كان يرغى ويزبد. وإذا به بعد أن فاجأه موسى بمعجزته، يصاب بالذعر ويقول لمن زعم أنه ربهم الأعلى { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ }.
وهكذا الطغاة عندما يضيق الخناق حول رقابهم يتذللون ويتباكون.. فإذا ما انفك الخناق من حول رقابهم، عادوا إلى طغيانهم وفجورهم.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: "ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين، وبقى لا يدرى أى طرفيه أطول، حتى زل عنه ذكر دعوى الألوهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية. وارتعدت فرائصه، وانتفخ سَحَره - أى رئته - خوفا وفرقا، وبلغت به الاستكانة لقومه الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم: أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحس به من جهة موسى - عليه السلام -".
ورد الملأ من قوم فرعون عليه بقولهم: { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أى: أخر أمرهما، يقال: أرجأت هذا الأمر وأرجيته. إذا أخرته. ومنه أخذ لفظ المرجئة لتلك الفرقة التى تؤخر العمل وتقول: لا يضر مع الإِيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
{ وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } أى: وابعث فى مدن مملكتك رجالا من شرطتك يحشرون السحرة، أى: يجمعونهم عندك لتختار منهم من تشاء.
وقوله: { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } مجزوم فى جواب الأمر. أى: إن تبعثهم يأتوك بكل سحار فائق فى سحره، عليم بفنونه ومداخله.
ولبى فرعون طلب مستشاريه، فأرسل فى المدائن من يجمع له السحرة { فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ } أى المعرفون ببراعتهم فيه { لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أى: جمعوا وطلب منهم الاستعداد لمنازلة موسى - عليه السلام - فى وقت معين هو "يوم الزينة" أى: يوم العيد. كما قال - تعالى - فى آية أخرى: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } ثم حكى - سبحانه - ما فعله أعوان فرعون من حض الناس على حضور تلك المباراة فقال: { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } أى: فى ذلك اليوم المعلوم الذى ينازل فيه السحرة موسى فالمقصود بالاستفهام الحض على الحضور والحث على عدم التخلف.
والترجى فى قولهم { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ } المقصود به - أيضا - حض السحرة على بذل أقصى جهدهم ليتغلبوا على موسى - عليه السلام -، فكأنهم يقولون لهم: ابذلوا قصارى جهدكم فى حسن إعداد سحركم فنحن نرجو أن تكون الغلبة لكم، فنكون معكم لا مع موسى - عليه السلام -.
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما قاله السحرة لفرعون عند التقائهم به فيقول: { فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ } بعد أن التقى بهم ليشجعهم على الفوز، { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً } مجزيا { إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } لموسى - عليه السلام -.
وهنا يرد عليهم فرعون، فيعدهم. ويمنيهم { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ }. أى: نعم لكم الأجر العظيم الذى يرضيكم، وفضلا عن ذلك فستكونون عندى من الرجال المقربين إلى نفسى، والذين سأخصهم برعايتى ومشورتى.
وهكذا يعد فرعون السحرة ويمنيهم { وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله موسى للسحرة، وما قال فرعون لهم بعد أن أعلنوا إيمانهم، فقال - تعالى -: { قَالَ لَهُمْ... }.