اللغَة: { بِٱلْبِرِّ } البِرُّ: سعة الخير والمعروف ومنه البرُّ والبِّرية للسعة، وهو اسم جامع لأعمال الخير، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وفي الحديث "البِرُّ لا يبلى والذنب لا ينسى" { وَتَنْسَوْنَ }: تتركون والنسيان يأتي بمعنى الترك كقوله { { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] وهو المراد هنا ويأتي بمعنى ذهاب الشيء من الذاكرة كقوله { { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] { تَتْلُونَ }: تقرءون وتدرسون { ٱلْخَاشِعِينَ } الخاشع: المتواضع وأصله من الاستكانة والذل قال الزجاج: الخاشع الذي يُرى أثر الذل والخشوع عليه، وخشعت الأصوات: سكنت { يَظُنُّونَ } الظنُّ هنا بمعنى اليقين لا الشك، وهو من الأضداد قال أبو عبيدة: العرب تقول لليقين ظنٌّ، وللشك ظن وقد كثر استعمال الظن بمعنى اليقين ومنه { { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة: 20] { { فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53]، { شَفَاعَةٌ } الشفاعة مأخوذة من الشَّفع ضد الوتر، وهي ضم غيرك إِلى جاهك ووسيلتك ولهذا سميت شفاعة، فهي إِذاً إِظهارٌ لمنزلة الشفيع عند المشفّع { عَدْلٌ } بفتح العين فداء وبكسرها معناه: المِثْل يقال: عِدْل وعديل للذي يماثلك.
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إِلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.
سَبَبُ النّزول: نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا يفعلونه.
التفسِير: يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ } أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإِيمان بمحمد { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } أي حال كونكم تقرءون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه السلام { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أفلا تفطنون وتفقهون أن ذلك قبيح فترجعون عنه؟! ثم بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال { وَٱسْتَعِينُواْ } أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها { بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية، وبالصلاة التي هي عماد الدين { وَإِنَّهَا } أي الصلاة { لَكَبِيرَةٌ } أي شاقة وثقيلة { إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } أي المتواضعين المستكينين الذين صفت نفوسهم لله { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يخالجه شك { أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ } أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم على أعمالهم { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي معادهم إِليه يوم الدين. ثم ذكّرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } بالشكر عليها بطاعتي { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ } أي فضلت آباءكم { عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أي عالمي زمانهم بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب، وجعلهم سادة وملوكاً، وتفضيل الآباء شرفٌ للأبناء { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } أي لا تقبل شفاعة في نفس كافرة بالله أبداً { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي لا يقبل منها فداء { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.
البَلاَغَة: أولاً: { أَتَأْمُرُونَ } الاستفهام خرج عن حقيقته إِلى معنى التوبيخ والتقريع.
ثانياً: أتى بالمضارع { أَتَأْمُرُونَ } وإِن كان قد وقع ذلك منهم لأن صيغة المضارع تفيد التجدد والحدوث، وعبّر عن ترك فعلهم بالنسيان { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } مبالغة في الترك فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلقه بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة، ولا يخفى ما في الجملة الحالية { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } من التبكيت والتقريع والتوبيخ.
ثالثاً: { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } هو من باب عطف الخاص على العام لبيان الكمال، لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، فلما قال { { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } [البقرة: 40] عمَّ جميع النعم فلما عطف { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ } كان من باب عطف الخاص على العام.
رابعاً: { وَٱتَّقُواْ يَوْماً } التنكير للتهويل أي يوماً شديد الهول، وتنكير النفس { نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } ليفيد العموم والاقناط الكلي.
الفوَائِدَ: الفائدة الأولى: قال القرطبي: إِنما خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكرها وقد كان عليه السلام إِذ حزبه (أغمّه) أمرٌ فَزَع إلى الصلاة، وكان يقول: "أرحنا بها يا بلال"
).
الثانية: قال علي كرم الله وجهه: "قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك" ومن دعا غيره إِلى الهدى ولم يعمل به كان كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه قال الشاعر:
ابدأْ بنفسك فانهها عن غيّهافإِذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إِن وعظتَ ويقتدى بالرأي منك وينفع التعليم
وقال أبو العتاهية:
وصفتَ التُّقَى حتَّى كأَنَّك ذو تُقَى وريحُ الخطايا من ثيابك تَسْطَع
وقال آخر:
وغيرُ تَقيٍّ يأْمر النَّاسَ بالتُّقَى طَبيبٌ يداوي النَّاس وهُوَ عليل