التفاسير

< >
عرض

مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ
٤٦
-فصلت

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا }.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى:
{ { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7] وفي سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: { { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } [النمل: 40].
قوله تعالى: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد، ذكره في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة آل عمران
{ { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } [آل عمران: 182ـ183] الآية. وقوله في الأنفال { { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } [الأنفال: 51ـ52] الآية. وقوله في الحج: { { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ } [الحج: 10ـ11] الآية. وقوله في سورة ق: { { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق: 29].
وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن لفظة ظلام فيها صيغة مبالغة.
ومعلوم أن نفي المبالغة، لا يستلزم نفي الفعل من أصله.
فقولك مثلاً: زيد ليس بقتال للرجال لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال.
ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة، في الآيات المذكورة هو نفي الظلم من أصله.
والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه:
الأول: أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة، قد بينت آيات كثيرة، أن المراد به نفي الظلم من أصله.
ونفي صيغة المبالغة، إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل، فلا إشكال لقيام الدليل على المراد.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة، كقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [النساء: 40] الآية. وقوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [يونس: 44]. وقوله تعالى: { { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49] وقوله تعالى: { { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [الأنبياء: 47] الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه في سورة الكهف والأنبياء.
الوجه الثاني: أن الله جل وعلا نفي ظلمه للعبيد، والعبيد في غاية الكثرة.
والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد، المنفي عنهم الظلم، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ولو قليلاً، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة، كما ترى.
وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم، عن كل عبد من أولئك العبيد، الذين هم في غاية الكثرة، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحداً شيئاً، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة.
وفي الحديث:
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" الحديث.
الوجه الثالث: أن المسوغ لصيغة المبالغة، أن عذابه تعالى بالغ من العظم والشدة، أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم، ومعاصيهم لكان معذبهم به ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه، سبحانه وتعالى في ذلك علواً كبيراً.
وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة الأنفال.
الوجه الرابع: ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين، من أن المراد بالنفي في قوله { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد } [فصلت:46] نفي نسبة الظلم إليه، لأن صيغة فعال مراداً بها النسبة فتغني عن ياء النسب كما أشار له في الخلاصة بقوله:

ومع فاعل وفعَّال فِعلْ في نَسَب أغنى عَنِ اليَا فقبِلْ

ومعنى البيت المذكور، أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعَّال كظالم، وفعِل كفرح، كل منها قد تستعمل مراداً بها النسبة، فيستغنى بها عن ياء النسب، ومثاله في فاعل قول الحطيئة فيه هجوه الزبر قان بن بدر التميمي:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فالمراد بقوله الطاعم الكاسي النسبة، أي ذو طعام وكسوة، وقول الآخر وهو من شواهد سيبويه:

وغررتني وزعمت أنك لابن في الصيف تامر

أي ذو لبن وذو تمر، وقول نابغة ذبيان:

كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكبي

فقوله: ناصب أي ذو نصب، ومثاله في فعال قول امرئ القيس:

وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال

فقوله: وليس بنبال أي ليس بذي نبل، ويدل عليه قوله قبله:
وليس بذي رمح وليس بذي سيف.
وقال الأشموني بعد الاستشهاد بالبيت المذكور: قال المصنف يعني ابن مالك: وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت:46] أي بذي ظلم اهـ.
وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين، ومثاله في فعل قول الراجز وهو من شواهد سيبويه:

لست بليلى ولكني نهر لا أدلج الليل ولكن أبتكر

فقوله نهر بمعنى نهاري، وقد قدمنا إيضاحه معنى الظلم بشواهده العربية، في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، والعلم عند الله تعالى.