نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
ولما تحرر أن الكفار أحق الخلق بالعدم لأن الباطل مثلهم وحقيقة حالهم، سبب
عنه قوله: { فإذا لقيتم } أي أيها المؤمنون { الذين كفروا } ولو بأدنى أنواع الكفر في أيّ
مكان كان وأيّ زمان اتفق. ولما كان المراد القتل المجهر بغاية التحقق، عبر عنه مؤكداً
له من الاختصار بذكر المصدر الدال على الفعل مصوراً له بأشنع صوره مع ما فيه من
الغلظة على الكفار والاستهانة بهم فقال تعالى: { فضرب الرقاب } أي عقبوا لقيكم لهم
من غير مهلة بأن تضربوا رقابهم ضرباً بالصدق في الضرب بما يزهق أرواحهم، فإن
ذلك انتهاز للفرصة وعمل بالأحوط، وكذلك النفس التي هي أعدى العدو إذا ظفرت بها
وجب عليك أن لا تدع لها بقية، قال القشيري: فالحية إذا بقيت منها بقية فوضعت عليها
إصبع ثبت فيها سمها.
ولما كان التقدير: ولا يزال ذلك فعلكم، غياه بقوله: { حتى } وبشرهم بالتعبير
بأداة التحقق فقال تعالى: { إذا أثخنتموهم } أي أغلظتم القتل فيهم وأكثرتموه بحيث
صاروا لا حراك بهم كالذي ثخن فأفرط ثخنه؛ فجعل ذلك شرطاً للأسر كما قال تعالى
{ وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [الأنفال: 67] ثم قال تعالى
مبيناً لما بعد الثخن: { فشدوا } أي لأنه لا مانع لكم الآن من الأسر { الوثاق } أي
الرباط الذي يستوثق به من الأسر بالربط على أيديهم مجموعة إلى أعناقهم - مجاز عن
الأسر بغاية الاستيلاء والقهر.
ولما كان الإمام مخيراً في أسراهم بين أربعة أشياء: القتل والإطلاق مجاناً
والإطلاق بالفدية وهي شيء يأخذه عوضاً عن رقابهم والاسترقاق، عبر عن ذلك بقوله
مفصلاً: { فإما منّاً } أي أن ينعموا عليهم إنعاماً { بعد } أي في جميع أزمان ما بعد
الأسر باستبقائهم ثم بعد الإنعام باستبقائهم إما أن يكون ذلك مع الاسترقاق أو مع
الإطلاق ثم الإطلاق إما مجاناً { وإما فداء } بمال أو بأسرى من المسلمين ونحو ذلك،
فأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام أن الإبقاء غير واجب بكل جائز، ودخل في
الإبقاء ثلاث صور: الاسترقاق والإطلاق مجاناً وبالفداء فصرح سبحانه وتعالى بالفداء
الذي معناه الأخذ على وجه أن قسيم للمن، فعلم أن المراد به الإبقاء مع عدم الأخذ
فدخل فيه الإطلاق مجاناً وهو واضح والاسترقاق لأنه إنعام بالنسبة إلى القتل، وأفهم
التعبير بالمن الذي معناه الإنعام من المنان الذي هو اسمه تعالى ومعناه المعطي ابتداء
جواز القتل لأن الإنعام مخير فيه لا واجب لأنه لو كان واجباً كان حقاً لا نعمة، فقد
دخلت السور الأربع في التعبير بهاتين الكلمتين - والله الهادي، وكل هذا على ما يراه
الإمام أو نائبه مصلحة، قال القشيري: كذلك حال المجاهدة مع النفس إذا كان في إغفاء
ساعة وإفطار يوم ترويح للنفس من الكد وقوة على الجهد فيما يستقبل من الأمر على ما
يحصل به الاستصواب من شيخ المريد وفتوى لسان الوقت أو فراسة صاحب المجاهدة -
انتهى. وقد أفهم هذا السياق أن هذا الحكم ثابت غير منسوخ والأمر بالقتل وحده في
غيرها من الآيات عام غير مخصوص بما أفهمته الغاية من أن التقدير: والجهاد على هذه
الصفة باق وماض مع كل أمير براً كان أو فاجراً، لا يزال طائفة من الأمة قائمين به
ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهو - والله أعلم - المراد
بقوله تعالى: { حتى } أي افعلوا ما أمرتكم به على ما جددت لكم إلى أن { تضع
الحرب أوزارها } وهي أثقالها أي الآلات التي تثقل القائمين بها من النفقات والسلاح
والكراع ونحوه، وذلك لا يكون وفي الأرض كافر، وذلك على زمن عيسى عليه الصلاة
والسلام حين تخرج الأرض بركاتها، وتكون الملة واحدة وهي الإسلام لله رب
العالمين، فيتخذ الناس حديد السلاح سككاً ومناجل وفؤوساً ينتفعون بها في معاشهم
كما ورد في الحديث: "الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال" - رواه
في الفردوس عن أنس رضي الله عنه "الجهاد واجب عليكم مع كل بر وفاجر" رواه أبو
داود عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولما كانت الحرب كريهة إلى النفوس شديدة المشقة، أكد أمرها بما معناه: إن
هذا أمر قد فرغ منه، فقال تعالى: { ذلك } أي الأمر العظيم العالي الحسن النافع
الموجب لكل خير. ولما كان هذا ربما أوهم أن التأكيد في هذا الأمر لكون الحال لا
يمكن انتظامه إلا به، أتبعه ما يزيل هذا الإيهام فقال: { ولو } ولما كان لو عبر بالماضي
أفاد أنه كان ولم يبق، عبر بالمضارع الدال على الحال وما بعده فقال: { يشاء الله } أي
الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال والقدرة على ما يمكن { لانتصر منهم } أي
بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً بأن لا يبقى منهم أحداً { ولكن } أوجب ذلك عليكم
{ ليبلوا }.
ولما كان الابتلاء ليس خاصاً بفريق منهم بل عاماً للفريقين لأنه يكشف عن أهل
المحاسن وأهل المساوئ من كل منهم، قال تعالى: { بعضكم } من الفرقة المؤمنين
بالإنكار عليهم من الفرقة الطاغين حتى يكون لهم بذلك اليد البيضاء { ببعض } أي يفعل
في ذلك فعل المختبر ليترتب عليه الجواء على حسب ما تألفونه من العوائد.
ولما أفهم هذا أن الابتلاء بين فريقين بالجهاد، قال عاطفاً على ما تقديره: فالذين
قاتلوا أو قتلوا في سبيل الشيطان أضل أعمالهم: { والذين قتلوا } وفي قراءة البصريين
وحفص { قتلوا } وهي أكثر ترغيباً والأولى أعظم ترجية { في سبيل الله } أي لأجل
تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال.
ولما كان في سياق الترغيب، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بأن أعمالهم سببه فقال
تعالى: { فلن يضل } أي يضيع ويبطل { أعمالهم * } لكونها غير تابعة لدليل بل
يبصرهكم بالأدلة ويوفقهم لاتباعها، وهو معنى قوله تعالى تعليلاً: { سيهديهم } أي في
الدارين بوعد لا خلف فيه بعد المجاهدة إلى كل ما ينفعهم مجدداً ذلك على سبيل
الاستمرار { ويصلح بالهم } أي موضع فكرهم فيجعله مهيأ لكل خير بعيداً عن كل شر
آمناً من المخاوف مطمئناً بالإيمان بما فيه من السكينة، فإذا قتل أحد في سبيله تولى
سبحانه وتعالى ورثته بأحسن من تولي المقتول لو كان حياً.