{ إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ } نصب بإضمار «اذكر»، أو هو متعلق بقوله { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي بعلم المصالح إذ يقللهم في عينك { فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } أي في رؤياك، وذلك أن الله تعالى أراه إياهم في رؤياه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فكان ذلك تشجيعاً لهم على عدوهم { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وهبتم الإقدام { وَلَتَنَـٰزَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ } أمر القتال وترددتم بين الثبات والفرار { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ } عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } الضميران مفعولان أي وإذ يبصركم إياهم { إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ } وقت اللقاء { فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } هو نصب على الحال. وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا. قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة وكانوا ألفاً { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور. قيل: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ثم كثرهم فيما بعده ليجترئوا عليه قلة مبالاة بهم ثم تفجأهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، ويجوز أن يبصروا الكثير قليلاً بأن يستر الله بعضهم بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين، قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الواحد اثنين وكان بين يديه ديك واحد فقال: مالي لا أرى هذين الديكين أربعة: { لّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مفعولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } فيحكم فيها بما يريد { تَرْجَعُ } شامي وحمزة وعلي.
{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } إذا حاربتم جماعة من الكفار وترك وصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء اسم غالب للقتال { فَٱثْبُتُواْ } لقتالهم ولا تفروا { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في الأمر بالجهاد والثبات مع العدو وغيرهما { وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } فتجبنوا وهو منصوب بإضمار «أن» ويدل عليه { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي دولتكم يقال: «هبت رياح فلان» إذا دالت له الدولة ونفذ أمره، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته بالريح وهبوبها. وقيل: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث
"نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" { وَٱصْبِرُواْ } في القتال مع العدو وغيره { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } أي معينهم وحافظهم { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ ٱلنَّاسِ } هم أهل مكة حين نفروا لحماية العير فأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدراً ونشرب بها الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان ونطعم بها العرب، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا كأس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيام، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله مخلصين أعمالهم لله. والبطر أن تشغله كثرة النعمة عن شكرها. { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } دين الله { وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } عالم وهو وعيد. { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ } واذكر إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون. وغالب مبني نحو «لا رجل» و { لَكُمْ } في موضع رفع خبر «لا». تقديره: لا غالب كائن لكم { وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } أي مجير لكم أوهمهم أن طاعة الشيطان مما يجيرهم { فَلَمَّا تَرَاءتِ ٱلْفِئَتَانِ } فلما تلاقى الفريقان { نَكَصَ } الشيطان هارباً { عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } أي رجع القهقرى { وَقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ } أي رجعت عما ضمنت لكم من الأمان. روي أن إبليس تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم في جند من الشياطين معه راية، فلما رأى الملائكة تنزل نكص فقال له الحارث بن هشام: أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: { إِنّي أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ } أي الملائكة وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة. فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان { إِنّي أَخَافُ ٱللَّهَ } أي عقوبته { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } اذكروا { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ } بالمدينة { وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هو من صفة المنافقين، أو أريد والذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام { غَرَّ هَٰـؤُلاءِ دِينُهُمْ } يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. ثم قال جواباً لهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } يكل إليه أمره { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي { حَكِيمٌ } لا يسوي بين وليه عدوه.
{ وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت لأن «لو» ترد المضارع إلى معنى الماضي كما ترد «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال { إِذْ } نصب على الظرف { يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بقبض أرواحهم { ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } فاعل { يَضْرِبُونَ } حال منهم { وُجُوهُهُمْ } إذا أقبلوا { وَأَدْبَـٰرَهُمْ } ظهورهم وأستاههم إذا أدبروا، أو وجوههم عند الإقدام وأدبارهم عند الانهزام. وقيل: في { يَتَوَفَّى } ضمير الله تعالى، و { ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } مرفوعة بالابتداء و { يَضْرِبُونَ } خبر والأول الوجه، لأن الكفار لا يستحقون أن يكون الله متوفيهم بلا واسطة دليله قراءة ابن عامر { تتوفى } بالتاء { وَذُوقُواْ } ويقولون لهم ذوقوا معطوف على { يَضْرِبُونَ } { عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أي مقدمة عذاب النار، أو ذوقوا عذاب الآخرة بشارة لهم به، أو يقال لهم يوم القيامة: ذوقوا. وجواب «لو» محذوف أي لرأيت أمراً فظيعاً.
{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي كسبت وهو رد على الجبرية، وهو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة. و { ذٰلِكَ } رفع بالابتداء و { بِمَا قَدَّمَتْ } خبره { وَأَنَّ ٱللَّهَ } عطف عليه أي ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم، وبأن الله { لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } لأن تعذيب الكفار من العدل. وقيل: ظلام للتكثير لأجل العبيد، أو لنفي أنواع الظلم. الكاف في { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } في محل الرفع أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، ودأبهم عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي داوموا عليه { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قريش أو من قبل آل فرعون { كَفَرُواْ } تفسير لدأب آل فرعون { بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } والمعنى جروا على عادتهم في التكذيب فأجرى عليه مثل ما فعل بهم في التعذيب { ذٰلِكَ } العذاب أو الانتقام { بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } بسبب أن الله لم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حتى يغيروا مابهم من الحال، نعم لم يكن لآل فرعون ومشركي مكة حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة، لكن لما تغيرت الحال المرضية إلى المسخوطة تغيرت الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات فكذبوه وسعوا في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب { وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لما يقولوا مكذبو الرسل { عَلِيمٌ } بما يفعلون { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } تكرير للتأكيد، أو لأن في الأولى الأخذ بالذنوب بلا بيان ذلك، وهنا بين أن ذلك هو الإهلاك والاستئصال { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبِّهِمْ } وفي قوله { بآيَـٰتِ رَبِّهِمْ } زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق { فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَونَ } بماء البحر { وَكُلٌّ } وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش { كَانُواْ ظَـٰلِمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي.
{ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي أصروا على الكفر فلا يتوقع منهم الإيمان { ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتَّ مِنْهُمْ } بدل من { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا وجعلهم شر الدواب، لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون وشر المصرين الناكثون للعهود { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } في كل معاهدة { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون بما فيه من العار والنار.