التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ
٦
-الصف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: واذكر - أيضا - أيها الرسول الكريم - وذكِّر الناس ليعتبروا ويتعظوا، وقت أن قال عيسى ابن مريم، مخاطبا من أرسله الله إليهم بقوله: { يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم } لكى أخرجكم من ظلمات الكفر والشرك، إلى نور الإِيمان والتوحيد.
ولم يقل لهم يا قوم - كما قال لهم - موسى - عليه السلام - بل قال: { يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ } لأنه لا أب له فيهم، وإن كانت أمه منهم، والأنساب إنما تكون من جهة الآباء، لا من جهة الأمهات.
وفى قوله { إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم } إخبار صريح منه لهم، بأنه ليس إلها وليس ابن إله - كما زعموا وإنما هو عبد الله ورسوله.
وقوله { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } جملة حالية لإِثبات حقيقة رسالته، وحضهم على تأييده وتصديقه والإِيمان به.
أى: إنى رسول الله - تعالى - إليكم بالكتاب الذى أنزله الله علىَّ وهو الإِنجيل، حال كونى مصدقا للكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - وهذا الكتاب هو التوراة، وما دام الأمر كذلك فمن حقى عليكم، أن تؤمنوا به، وأن تتبعونى، لأنى لم آتكم بشىء يخالف التوراة، بل هى مشتملة على ما يدل على صدقى، فكيف تعرضون عن دعوتى.
وقوله: { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ } فيه نوع مجاز، لأن ما بين يدى الإِنسان هو ما أمامه، فسمى ما مضى كذلك لغاية ظهوره واشتهاره. واللام فى "لما" لتقوية العامل، نحوه قوله - تعالى -
{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } وقوله - سبحانه -: { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } معطوف على ما قبله.
والتبشير: الإِخبار بما يسر النفس ويبهجها، بحيث يظهر أثر ذلك على بشرة الإِنسان، وكان إخباره بأن نبيا سيأتى من بعده اسمه تبشيرا، لأنه سيأتيهم بما يسعدهم، ويرفع الأغلال عنهم، كما قال - تعالى -:
{ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ولفظ { أَحْمَدُ } اسم من أسماء نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو علم منقول من الصفة، وهذه الصفة يصح أن تكون مبالغة من الفاعل. فيكون معناها: أنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر حمدا لله - تعالى - من غيره.
ويصح أن تكون من المفعول، فيكون معناها أنه يحمده الناس لأجل ما فيه من خصال الخير، أكثر مما يحمدون غيره.
قال الآلوسى: وهذا الاسم الجليل، علم لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصح من رواية مالك، والبخارى، ومسلم.. عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن لى أسماء؛ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى، وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر، وأنا العاقب" .
وبشارة عيسى - عليه السلام - بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثابتة ثبوتا قطعيا بهذه الآية الكريمة، وإذا كانت بعض الأناجيل قد خلت من هذه البشارة، فبسبب ما اعتراها من تحريف وتبديل على أيدى علماء أهل الكتاب.
ومع ذلك فقد وجدت هذه البشارة فى بعض الأناجيل، كإنجيل يوحنا، فى الباب الرابع عشر، قال الإِمام الرازى: فى الإِصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: وأنا أطلب لكم إلى أبى، حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد.
والفارقليط هو روح الحق واليقين.
ومنهم من يرى أن لفظ فارقليط معناه باليونانية: أحمد أو محمد.
ومن أصرح الأدلة على أن صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - موجودة فى التوراة والإِنجيل، قوله - تعالى -
{ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } وقوله - سبحانه -: { فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } بيان لموقف بنى إسرائيل الجحودى من أنبياء الله - تعالى -.
والضمير فى قوله { جَاءَهُم } يرى بعضهم أنه يعود لعيسى، ويرى آخرون أنه يعود لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أى: فلما جاء عيسى - عليه السلام - أو محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى إسرئيل بالآيات البينات الدالة على صدقه، قالوا على سبيل العناد والجحود: هذا سحر واضح فى بابه. لا يخفى على أى ناظر أو متأمل.
ومن المعروف أن بنى إسرائيل قد كذبوا عيسى - عليه السلام - وكفروابه، ونسبوا إلى أمه الطاهرة، ما هى بريئة منه، ومنزهة عنه.
كما كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكفروا به، وصدق الله إذ يقول:
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } ووصفوا ما جاء به بأنه سحر مبين، على سبيل المبالغة فكأنهم يقولون إن ما جاء به هو السحر بعينه، مع أنهم يعرفون أن ما جاء به هو الحق كما يعرفون أبناءهم، ولكن ما جلبوا عليه من جحود وعناد، حال بينهم وبين النطق بكلمة الحق.
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين هم أشد الناس ظلما للحق، وأنه - سبحانه - سيظهره لا محالة، رضوا بذلك أم كرهوا وأن هذا الدين سيظهره الله - تعالى - على بقية الأديان، مهما كره الكافرون. فقال - تعالى -: { وَمَنْ أَظْلَمُ... }.