والعجب كل العجب ينكرن بنا، مع أنا متصفون بجميع أوصاف الكمال، منعمون لهم بالنعم الجليلة الجزيلة { وَيَجْعَلُونَ } ويعينون { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي: لآلهتهم التي لا يعلمون ولا يفهمون منهم حصول الفائدة لهم، وجلب النفع إليهم أصلاً؛ إذ هي جمادات نحتوها بأيديهم { نَصِيباً } أي: حظاً كاملاً { مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } وسقنا نحوهم جهلاً وعناداً، ومع ذلك خيلوا أنهم لا يسألون عنها، ولا يؤاخذون عليها، بل يثابون بها على زعمهم الفاسد، ورأيهم الكاسد { تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ } أيها المسرفون { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } [النحل: 56] علينا بإثبات الشركاء، وإسناد نعمنا إليهم افتراءً ومراءً.
{ وَ } من جملة متفرياتهم بالله المنزه عن الأشياء والأولاد: إنهم { يَجْعَلُونَ } ويثبتون { لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } حيث يقولون: الملائكة بنات الله، مع أنهم يكرهونها لأنفسهم { سُبْحَانَهُ } وتعالى عما يقولون علواً كبيراً { وَلَهُمْ } أي: يثبتون لأنفسهم { مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل: 57] من البنين.
{ وَ } الحال أنهم { إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ } أي: بولادتها { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } أي: صار وجهه أسود من غاية الحزن والكراهة { وَهُوَ } حينئذٍ { كَظِيمٌ } [النحل: 58] ممتلئ من الغيظ والبغض على الزوجة والوليدة.
وصار من شدة الغم والهم إلى حيث { يَتَوَارَىٰ } ويستتر { مِنَ ٱلْقَوْمِ } استحياءً { مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } أي: الوليدة المبشرة بها، وتردد في أمرها { أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ } أي: هوان ومذلة { أَمْ يَدُسُّهُ } ويخفيه { فِي ٱلتُّرَابِ } غيرةً وحميةً { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [النحل: 59] لأنفسهم ما يشتهون، والله المنزه عن الولد ما يكرهون.
ثمَّ قال سبحانه: { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } المعدة لعرض الأعمال على الله والجزاء منه على مقتضاها { مَثَلُ ٱلسَّوْءِ } في حق الله المنزه عن الأهل والولد، سيما نسبتهم إليه ما يستقبحه نفوسهم من إثبات البنات له، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } هو الغني عن العالم ما فيها، فكيف الزواج الإيلاد، واللذين هما من أقوى أسباب الإمكان النافي للوجوب الذاتي الذي هو من لوازم الألوهية والربوبية { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب المتفرد، المنيع ساحة عزته عن الاحتياج إلى غيره مطلقاً، فكيف إلى الزجة والولد { ٱلْحَكِيمُ } [النحل: 60] المتصف بكمال الحكمة المتقنة، كيف يختار لذاته ما لا يخلو عن وصمة النقصان؟!.
ثمَّ قال سبحانه: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ } الحكيم المتقن في أفعاله { ٱلنَّاسَ } الناسين عهود العبودية على مقتضى عدله وانتقامه { بِظُلْمِهِمْ } ومعاصبهم الصادرة عنهم دائماً { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي: على وجه الأرض { مِن دَآبَّةٍ } أي: ذي حركة تتحرك عليها؛ إذ ما من متحرك إلاَّ وينحرف عن جادة العدالة كثيراً { وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ } ويمهلهم على مقتضى فضل وحكمته ولطفه { إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } أي: سمّاه الله وعينه في علمه لموتهم { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } المسمى المبرم المقضى به { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [النحل: 61] أي: لا يسع لهم الاستئخار والاستقدام، بل لا بدَّ أن يموتوا فيه حتماً مقضياً.
{ وَ } من خبث باطنهم { يَجْعَلُونَ } وينسبون { لِلَّهِ } المنزه عن الأنداد والأولاد { مَا يَكْرَهُونَ } مايستقبحون لنفوسهم، وهو إثبات البنات له سبحانه { وَ } مع ذلك { تَصِفُ } وتقول { أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } تصريحاً وتنصيصاً { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي: بأن لهم المثوبة العظمى، والدرجة العليا عند الله، بل { لاَ جَرَمَ } أي: حقّاً عله وحتماً { أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } أي: جزاؤه مقصورُ على النار، مخلدون فيها { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } [النحل: 62] ي العذاب، مقدَّمون على جميع العصاة والطغاة الداخلين في النار، المجزين بها؛ لاستكبارهم على الله ورسله.
{ تَٱللَّهِ } يا أكمل الرسل { لَقَدْ أَرْسَلْنَآ } رسلاً { إِلَىٰ أُمَمٍ } مضوا { مِّن قَبْلِكَ } حين فشا الجدال والمراد بينهم، فانحرفوا عن جادة الاعتدال، وأيدنا الرسل بالكتب المبينة لطريق العدالة والاستقامة، فبينوا لهم على أبلغ وجه { فَزَيَّنَ } وحسّن { لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ } المغوي المضل { أَعْمَالَهُمْ } التي كانوا عليها، فأصروا على أعمالهم، فلم يقبلوا قول الأنبياء؛ لذلك نزل عليهم من العذاب ما نزل في الدنيا، وسينزل في الآخرة بأضعافه وآلافه { فَهُوَ } أي: الشيطان { وَلِيُّهُمُ } أي: متولي أمور هؤلاء عنهم { ٱلْيَوْمَ } لذلك لم يقبلوا قولك، ولم يسمعوا بيانك، بل أصروا على ما عليه أسلافهم من الغواية والضلالة { وَلَهُمْ } أيضاً مثل أسلافهم، بل أشد منهم { عَذَابٌ } في النشأة الأولى والأخرى { أَلِيمٌ } [النحل: 63] مؤلم أشد إيلام؛ لأن بيانك وتبليغك أكمل من بيان سائر الأنبياء.
{ وَمَآ أَنْزَلْنَا } من مقام جودنا وفضلنا { عَلَيْكَ } يا أكمل الرسل { ٱلْكِتَابَ } الجامع لما في الكتب السالفة مع زيادات خلت عنهم تلك الكتب { إِلاَّ لِتُبَيِّنَ } وتوضح { لَهُمُ } أي: للناس الأمر { ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي: التوحيد الذاتي وأحوال النشأة الأخرى، والمكاشفات والمشاهدات الواقعة فيها { وَ } أنزلناه أيضاً { هُدًى } أي: هادياً، يهديهم إلى التوحيد ببيان براهنيه وحججه الموصلة إليه بالنسبة إلى أرباب المعاملات والمجاهدات، من الأبرار السائرين إلى الله بارتكاب الرياضات القالعة لدرن الإمكان، ورين التعلقات.
{ وَرَحْمَةً } أي: كشفاً وشهوداً بالنسبة إلى المجذوبين المنجذبين نحو الحق، المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بغتة، بلا صنعٍ صدر عنهم، وأمرٍ ظهر منهم، بل جذبهم الحق عن بشريتهم، وبدَّلهم تبديلاً، كل ذلك { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل: 64] ويوقنون بتوحيد الله وصفاته الذاتية، ويتأملون في آثار مصنوعاته تأملاً صادقاً، ويعتبرون منها اعتباراً حقّاً إلى أن ينكشفوا ويفوزوا بما فازوا، وينالوا بما نالوا، وليس وراء الله مرمى ولا منتهى.