لباب التأويل في معاني التنزيل
{ قال } يعني قال لهم يعقوب { لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله } يعني لن أرسل معكم بنيامين حتى تؤتون عهد الله وميثاقه والموثق العهد المؤكد باليمين، وقيل هو المؤكد بإشهاد الله عليه { لتأتنني به } دخلت اللام هنا لأجل اليمين وتقدريه حتى تحلفوا بالله لتأتنني به { إلا أن يحاط بكم } قال مجاهد:إلا أن تهلكوا جميعاً فيكون عذراً لكم عندي، لأن العرب تقول أحيط بفلان إن هلك أو قارب هلاكه.
وقال قتادة: إلا أن تغلبوا جميع فلا تقدروا على الرجوع { فلما آتوه موثقهم } يعني فلما أعطوه عهدهم وحلفوا له { قال الله على ما نقول وكيل } يعني قال يعقوب الله شاهد على ما نقول كأن الشاهد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد، وقيل وكيل بمعنى حافظ.
قال كعب الأحبار: لما قال يعقوب { فالله خير حافظاً } [يوسف: 64] قال الله تعالى: "وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما بعد ما توكلت علي وفوضت أمرك إليّ" وذلك أنه لما اشتد بهم الأمر وضاق عليهم الوقت وجهدوا أشد الجهد لم يجد يعقوب بداً من إرسال بنيامين معهم فأرسله معهم متوكلاً على الله ومفوضاً أمره إليه.
قوله عز وجل إخباراً عن يعقوب { وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } وذلك أنهم لما خرجوا من عند يعقوب قاصدين مصر قال لهم يا بني لا تدخلوا يعني مدينة مصر من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان لمدينة مصر يومئذ أربعة أبواب، وقال السدي: أراد الطرق لا الأبواب يعني من طرق متفرقة وإنما أمرهم بذلك لأنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا قد أعطوا جمالاً وقوة وامتداد قامة وكانوا أولاد رجل واحد فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم المدينة لئلا يصابوا بالعين فإن العين حق، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين (ق).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن العين حق" زاد البخاري "ونهى عن الوشم"(م) عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت "كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين" أخرجه أبو داود.
قال الشيخ محيي الدين النوويرحمه الله تعالى: قال المازري: أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقال العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل على فساد عقولهم ان كل معنى يكون مخالفاً في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول وإذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه وإنكاره وقيل لا بد من فرق بين تكذيبهم بهذا وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة قال وقد زعم بعض الطبائعيين مثبتين للعين تأثيراً أن العين تنبعث من عينيه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد قالوا ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب تتصل بالملدوغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا فكذا العين، قال المازري: وهذا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أنه لا فاعل إلا الله تعالى وبينا فساد القول بالطبائع وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئاً، فإذا تقرر هذا بطل ما قالوه ثم تقول هذا المنبعث من العين إما جوهر وإما عرض فباطل أن يكون عرضاً لأنه لا يقبل الانتقال وباطل ان يكون جوهراً لأن الجواهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسداً لبعض بأولى من عكسه فبطل ما قالوه وأقرب طريقة قالها من ينتحل الإسلام منهم إن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من عين العائن لتتصل بالمعين فتتخلل مسام جسمه فيخلق الله عز وجل الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السموم عادة أجراها الله عز وجل وليست ضرورة ولا طبيعية ألجأ الفعل إليها قال ومذهب أهل السنة أن المعين إنما يفسد ويهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى الله تعالى العادة بأن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص شخصاً آخر، وهل ثم جواهر أم لا فهذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وإضافته إلى الله تعالى فمن قطع من أطباء الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه وإنما هو من الجائزات هذا ما يتعلق بعلم الأصول وأما ما يتعلق بعلم الفقه فإن الشرع قد ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله رواه مالك في الموطأ.
وأما صفة وضوء العائن فمذكور في كتب شرح الحديث ومعروف عند العلماء فيطلب من هناك فليس هذا موضعه والله أعلم.
وقال وهب بن منبه: في قوله { لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } أنه خاف أن يغتالوا لما ظهر لهم في أرض مصر من التهمة حكاه ابن الجوزي عنه وقيل إن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان قد علم أن ملك مصر هو ولده يوسف عليه الصلاة والسلام إلا أن الله تعالى لم يأذن له في إظهاره ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال لهم: لا تدخلوا من بابا واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى أخيه يوسف في وقت الخلوة قبل إخوته والقول الأول أصح أنه خاف عليهم من العين ثم رجع إلى علمه وفوض أمره إلى الله تعالى بقوله: { وما أغني عنكم من الله من شيء } يعني إن كان الله قد قضى عليكم بقضاء فهو يصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين فإن المقدور كائن ولا ينفع حذر من قدر { إن الحكم إلا لله } يعني وما الحكم إلا لله وحده لا شريك له فيه وهذا تفويض من يعقوب في أموره كلها إلى الله تعالى: { عليه توكلت } يعني عليه اعتمدت في أموري كلها لا على غيره { وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } يعني من الأبواب المتفرقة وكان لمدينة مصر وقيل مدينة الفرماء أربعة أبواب فدخلوا من أبوابها كلها { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } وهذا تصديق من الله سبحانه وتعالى ليعقوب فيما قال وما أغني عنكم من الله من شيء { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } هذا استثناء منقطع ليس من الأول في شيء ومعناه لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها وهو أنه أشفق عليهم إشفاق الآباء على الأبناء وذلك أنه خاف عليهم من العين أو خاف عليهم حسد أهل مصر أو خاف أن لا يردوا عليه فأشفق من هذا كله أو بعضه { وأنه } يعني يعقوب { لذو علم } يعني صاحب علم { لما علمناه } يعني لتعليمنا إياه ذلك العلم، وقيل: معناه وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه والمعنى أنا لما علمناه هذه الأشياء حصل له العلم بتلك الأشياء، وقيل: إنه لذو حفظ لما علمناه وقيل إنه كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل، وقيل: إنه لعامل بما علمناه قال سفيان من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالماً { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يعني لا يعلمون ما كان يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم وقال ابن عباس: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه.