هميان الزاد إلى دار المعاد
{ ولمَّا دخلُوا مِنْ حيثْ أمرهُم أبوهُم } أى من الأبواب المتفرقة { مَا كانَ } أى يعقوب { يُغنى عنْهم منَ اللّهِ من شىْءٍ } أى ما أغنى عنهم ربه فى دخولهم متفرقين إزاحة للضر عنهم بالعين بل أصابهم الضر من حيث لم يدروا ذلك أنهم نسبوا إلى السرقة، وأخذ بنيامين وذلك أن الصاع وجد فى رحله وتضاعفت المصيبة على أبيهم فوقع الأمر على طبق قوله: { وما أغنى عنكم من الله من شىء } { إلا حاجةً فى نفْس يعقُوب قَضَاها } يعقوب أى أظهر ما لهم ووصلهم بها، وهى أن يدخلوا من أبواب متفرقة شفقة عليهم والاستثناء منقطع، ويجوز عود ضمير قضى إلى الله سبحانه، أى لكن حاجة قضاها الله له هى تسهيل دخولهم من أبواب متفرقة تطيبا لنفسه ونظيره أنه صلى الله عليه وسلم سد كوة فى قبر بحجر وقال: "إن هذا لا يغنى شيئا ولكن لتطييب نفس الحى" وقيل أراد بالحاجة الغصة من فراق يوسف قضاها الله، ثم جاءت غصة أخرى من فراق بنيامين، فحملته الغصتان على الأمر بالتفريق.
{ وإنَّه لذو علمٍ لما عَلَّمناه } بالوحى والإلهام، ونصب الدلائل، ولذلك علم أن القدر لا يدفعه الحذر، فقال: وما أغنى عنكم من الله من شئ، واللام للتقوية دخلت على مفعول المصدر المنون وهو ما، ويجوز كون اللام تعليلية، وما مصدرية، أى لأجل تلعمنا إياه، ويجوز أن يكون معنى علم عملا، واللام بوجهها مع ما أو بمعنى الباء، أى لذو عمل للذى علمناه إياه، أو لأجل الذى علمناه أو لأجل تعليمنا إياه يقال عمل علما أى أنفذه وأتبعه، ويقال: عمل به، وكما صح إطلاق الجهل على عمل السوء، صح إطلاق العلم على العمل بالخير، قال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالما ولكن ذلك بعيد حتى قال عياض، هذا لا يعطيه اللفظ، ولو كان صحيحا فى نفسه.
{ ولكنَّ أكْثر النَّاسِ } الموحدين والمشركين { لا يعْلَمونَ } ما علم يعقوب إذ لم يسلكوا طريقه، ولا يعلمون شر القدر، وأنه لا يغنى عنه الحذر حقيقة العلم، أو أكثر الناس هم المشركون لا يعلمون ما ألهم الله أولياءه، وهو المروى عن ابن عباس رضى الله عنهما.
روى أنهم لما بلغوا مصر تفرقوا، ودخل كل أخوين من باب واحد، وبقى بنيامين وحده عند باب الشام، ولم يدر أين يذهب، ولم يعرف أحد لسانه، فنزل ملك من السماء على يوسف عليه السلام وقال له: قم يا يوسف والبس ثياب الغرباء، واركب ناقتك لكيلا يعرفك أحد، واقصد باب الشام، فإن أخاك ابن أبيك وأمك واقف على ناقته يسأل من يمر به، ولا يعرفون كلامه.
فركب ناقته وعليه برقع، وتنكر بحيث لا يعرفه أحد، وقصد باب الشام، فوجد بنيامين فلما رآه يوسف ذرفت عيناه بالدموع، فسلم يوسف عليه وقال له بالعبرانية: من أين؟ وإلى أين؟ وماذا تريد؟ قال: جئت من الشام أطلب الميرة. فخلع سوارا فى يده يساوى خمسين ألف دينار من يقاوت أحمر، ودفعه إلى أخيه بنيامين، فأخذه ولم يدر ما هو؟ ولا ما قيمته؟ فقال له: يا أخى ماذا أصنع به، فتبسم من قوله، وعلم أنه لا يعرف ذلك، فقال اجعله فى عضدك وتعال معى حتى أريك إخوتك، فوجدا إخوتهما قياما على الباب ركبانا، فقال: امض نحو إخوتك، فبكى وقال: لا أريد فراقك، قد والله مال قلبى إليك.
فقال له يوسف: كيف تقدر ترافقنى وأنا عبد مملوك، أى عبد الله أو أراد تعريض إخوته إذ باعوه، فذهب بنيامين نحوهم فرحا، فقالوا له: يا بنيامين ما رأيناك أبدا مستبشرا مثل هذه الساعة؟ قال لهم: نعم، قد طلب قلبى براكب أتانى على ناقة، وكلمنى بالعبرانية، وأعطانى سوارا من زجاج، فقال له يهود: أرنيه، فأراه إياه قال له: ما أحسن هذه الزجاجة يا أخى، اجعلها فى عضدى لئلا تضيع منك قال له: أفعل، فجعلها فى عضده فذهبت إلى عضد بنيامين، فقال له شمعون، وقد خرج إليهم من موضع فى مصر إذا ارتهنه يوسف: أرنى هذه الزجاجة فتناولها فجعلها فى عضده، فذهبت إلى عضد بنيامين، وكذلك من جعلها فى عضده منهم رجعت منه إلى عضد بنيامين.
وروى أنه لما علم يوسف بقدومهم مع بنيامين سر غاية السرور، وأمر بتزيين مجلسه، وزين وبخر وجلس على سرير، وأمر بأوانى الذهب فصفت مملوءة بالطيب عن يمين وشمال إلى كرسيه، وأمر بدخولهم، فقدموا بنيامين ليعلم الملك بوصوله، ودخلواعقبه، فجعل يأخذ الطيب من تلك الأوانى ويمسح به، وجعل إخوته يلومونه ويزجرونه، ويقولون ما أجهلك! ألك وضعت هذه الأوانى؟ أو لأجلك ملئت طيبا؟ هذا سوء أدب، لأنك لم تتعود الدخول على الملوك، إنما تعودت صحبة النعم.
فقال: يا إخوتى ليس الأمر كذلك، هذا أعز الملوك وأطبعهم نفسا، وقد تعود من الطيب فتغيره أدنى رائحة، ونحن قوم سفر تغيرت روائحنا، فقالوا: صدقه، وأخذوا وتمسحوا ويوسف ينظر إليهم، وقد امتلأ سرورا، ولما وقفوا بين يديه نظروا إلى بهاء ملكه، ووقار سلطانه، وزيادة زينته، وتعجبوا وقال بعضهم لبعض: لعل هذا الملك غير الملك الذى كنا لقينا.
وقال الترجمان: يقول لكم الملك: من أنتم؟ ومن أى بلد جئتم؟
فقالوا: نحن الذين أمرتنا أن نجئ بأخينا، فقال: نعم، فهل جئتم به، فاستبشروا وعرفوا أنه الملك الأول، فقالوا: يا أيها العزيز إنا قد امتثلنا أمرك وأتيناك به وبكتاب من أبينا، فقال لترجمانه: خُذه منهم، فأخذه منهم، فقرأ يوسف ففاضت عيناه بالدموع، وأمر بإنزالهم وإكرامهم.
وبعد أيام قليلة أمر بطعام كثير فصنع، وجعل على موائد عظيمة، ونصبت أمام السرير ثم أمر بإحضارهم، فأجلسوا على الموائد فى عز وشرف، والولدان والوصائف وقوف على رءوسهم بألوان الأشربة، وأنواع الزينة الحسنة، ولما أرادوا التناول قال الترجمان: إن الملك يأمركم أن يجلس على كل مائدة أخوان من أب وأم، فجلسوا اثنين اثنين وبقى بنيامين [وحده] فتأخر عن الطعام وبكى ونادى: يا حسرتاه لفراقك يا يوسف، لو كنت موجودا لجلست معك، وسمع يوسف وأشفق، وأقبل عليه بالكلية، وقال: مالك تأخرت عن الطعام؟ قال: مالى أخ من أب وأم كان لى أخ منهما يسمى يوسف، لا أدرى أحى أم ميت وتذكرته فتجددت أشجانى، وتحركت أحزانى، فصاح وصعق، فوقعت الصيحة فى منزل يوسف أن أحد العبرانيين مات، فنزل يوسف عن سريره، والبرقع على وجهه، فرفع رأسه وجعله فى حجره وبكى حتى أفاق.
فقام يوسف وأمر الخدم بحمله إلى سريره حتى يجلس معه، ففعلوا، وأمر بإحضار مائدة من ذهب مرصعة بالجواهر واللآلئ فوضعت بين يديه، ثم أمر الخدم أن يجعلوا عليها من ألوان الأطعمة ما يليق بالملك، ثم قال: كل معى كالأخ إذ بقيت منفردا، فعظم ذلك على الإخوة وقالوا: انظروا إلى بنى راحيل أخوة الأول قال: أنتم عبيدى، وهذا الثانى إذا رجع إلى كنعان افتخر علينا وقال: جلست على سرير الملك، وأكلت معه.
ثم قال يوسف: ألك زوجة؟ قال: نعم. قال: ألك ولد؟ قال: ثلاثة. قال: فما سميت الأكبر؟ قال: ذئبا. قال لِمَ والذئب سبع عاقر؟ قال: لأن إخوتى زعموا أن أخى يوسف أكله الذئب، فأحب أن أذكر ذلك. قال: فما سميت الثانى قال: دماً. قال ولِومَ قال: لأن إخوتى جاءوا بقميصه ملطخا بالدم، فأنا أحب أن أذكر ذلك الدم. قال: فما سميت الثالث؟ قال: يوسف. قال: ولِمَ؟ قال: لئلا يندرس اسمه من فمى، فاهتز لذلك حتى كاد يفشى السر، ثم قال: قم يا فتى إلى البيت لأخلو معك فيه، فدخلا البيت، وأرخى الستر، وكشف البرقع، وأزال النقاب، وأبدى الوجه الجميل، وقال: أتعرفنى؟ قال: أرى وجها جميلا يشبه وجه حبيبى المفقود، فقال يوسف ما ذكر الله عنه عز وجل فى قوله: { ولمَّا دَخَلواعلى يُوسفَ... }