خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً
٦٩
-الأحزاب

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أن تكلم الحق سبحانه عن الذين آذوا الله، وآذوا رسول الله، وآذوا المؤمنين دَلَّ على أن المسألة ليست تعصُّباً لمحمد، إنما هذا مبدأ سائد في كل رسل الله، وليس معنى منع إيذاء محمد أن تؤذوا غيره من إخوانه الرسل، فقال سبحانه: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ .. } [الأحزاب: 69]
وموسى - عليه السلام - كانت له في رحلة دعوته علاقتان: علاقة مع الفراعنة، وعلاقة مع بني إسرائيل، ولم يكُنْ موسى - عليه السلام - رسولاً إلى الفراعنة، إنما أُرسل إلى بني إسرائيل؛ لذلك قال موسى وهارون لفرعون:
{ { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ .. } [طه: 47] فهدفه تخليص بني إسرائيل من استعباد فرعون.
أما دعوته لفرعون إلى الإيمان بالله وإظهار المعجزة أمامه لعله يؤمن، فجاءت على هامش دعوته الأساسية لبني إسرائيل، ومع ذلك لم يَسْلم موسى عليه السلام من إيذاء فرعون، فقال عنه
{ { سَاحِرٌ كَـذَّابٌ } [غافر: 24].
وقال:
{ { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء: 27].
وقال:
{ { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52].
وطبيعي أنْ يُؤْذّى موسى عليه السلام من فرعون، وقد جاء ليبطل ألوهيته المزعومة، لكن كيف يُؤْذَى من بني إسرائيل، وهو الذي جاء لينقذهم من قبضة فرعون، ومما كانوا فيه من العذاب والاستعباد؟
قال العلماء: إن بني إسرائيل آذوا موسى حين آذوا مَنْ بعثه، الله سبحانه وتعالى، فقالوا له:
{ { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً .. } [النساء: 153].
وقالوا:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ .. } [آل عمران: 181].
وآذَوْا موسى حين قالوا معترضين على ما رزقهم الله من المنِّ والسَّلْوى، فقالوا:
{ { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ .. } [البقرة: 61].
ومعلوم أن المنَّ هو سائل يشبه العسل، يتساقط مثل الندى في الصباح من الأشجار، والسَّلْوى طائر يشبه السّمان يسوقه الله إليهم دون تعب منهم، لكنهم قوم لا يؤمنون بالغيب، ولا يريدون هذا الطعام الجاهز، فهم يريدون شيئاً محسوساً يزرعونه، ويُعدونه بأنفسهم.
ثم آذَوْا موسى عليه السلام في شخصه، حين اتهموه بقتل أخيه هارون حين صَعَدا الجبل، ومات هارون هناك، فقالوا: إن موسى حقد على أخيه فقتله، فجعل الله الملائكة تحمل جسد هارون وتمرُّ به على بني إسرائيل وهو سليم لا جُرْحَ فيه، وهذا معنى قوله تعالى: { فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ .. } [الأحزاب: 69].
وقال آخرون: بل اتهموا موسى عليه السلام بمرض في جسده؛ لأنه عليه السلام كان شديد الحياء، سِتِّيراً، يحتاط في ستر نفسه عند استحمامه وعند قضاء حاجته، فَقالوا: ما فعل ذلك إلا لعيب يريد أنْ يستره.
ومنهم مَنْ قال: به برص. ومنهم من تجرَّأ واتهمه بعيب في أعضائه التناسلية، فشاء الله أنْ يبرئه مما قالوا، فنزل ذات يوم النهرَ ليستحم، فأمر الله حجراً فأخذ ثيابه بعيداً عنه، فجرى موسى عليه السلام خلف الحجر وهو يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر فرأوه مُبراً من العيوب التي اتهموه بها.
أو: أن قارون لما حصلتْ الخصومة بينه وبين موسى عليه السلام استأجر امرأة بغيّاً، وقال لها: اتهمي موسى على مَشْهد من الناس، فشاء الله أنْ يجتمع الناس وتنطق هي وتقول: قارون فعل كذا وكذا، فبرَّأه الله بذلك.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ .. } [الأحزاب: 69] فينفي عنه العيب، ثم يُثبت له الوجاهة والشرف.
{ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } [الأحزاب: 69] وأيٌّ وجاهة بعد أنْ أظهر الله براءته، وبيَّن كذب أعدائه، فالوجاهة هيئة تدل على أنه مقبول الرجاء، مقبول الدعاء، لا يجرؤ أحد أنْ يرميه بعيب بعد ذلك، ولا أنْ يتهمه بذنب لم يفعله؛ لأنهم علموا أن لموسى رباً يحميه، ويدافع عنه.
ومن عدالته سبحانه وتعالى مع خَلْقه أن مَنْ يُرْمَى بذنب لم يفعله يُعوِّضه عنه بأنْ يستر عليه ذنباً فعله، ولا يفضحه به، فواحدة بواحدة، إلا شيئاً واحداً كان مع موسى - عليه السلام - فحين لقي جواب الله، فكأنه غرَّه كرم ربه معه فقال: يا رب ما داموا قالوا فيَّ كذا وكذا، أسألُكَ ألاَّ يُقال فيَّ ما ليس فيَّ، فقال: يا موسى، أنا لم أفعل ذلك لنفسي، فكيف أفعله لك؟ والمعنى أنهم يقولون في حقِّ الله تعالى أكثر من ذلك.
إذن: أبقى الله الكفر ليطمئن كل مَنْ أُنكر جميله، وكأنه يقول له: لا تحزن فأنا الخالق، وأنا الرازق، ومع ذلك كفروا بي وأنكروا الجميل.