كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - يرون أن أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود؛ لأنهم موحدون ومصدقون بالوحي والبعث في الجملة؛ ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجا؛ لأنه مصدق لما معهم في الجملة، ومجل لجميع شبهات الدين، وحال لجميع إشكالاته بالتفصيل، وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عسرا { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [الأعراف: 157].
كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيا على وجه نظري معقول، لولا أنهم اكتفوا بجعل الدين رابطة جنسية، ولم يجعلوه هداية روحية؛ ولذلك كانوا يتصرفون فيه باختلاف المذاهب والآراء، ويحرفون كلمه عن مواضعها بحسب الأهواء، وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا إلا بعد ما قص عليهم من نبأ بني إسرائيل، الذين كانوا على عهد التشريع، وشاهدوا من الآيات ما علم به أنهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة لا يكفي في زلزالها كون القرآن مبينا في نفسه لا يتطرق إليه ريب، ولا يتسرب إليه شك؛ ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا وكونه هدى للمتقين من أهل الكتاب وغيرهم، وثنى ببيان أن من الناس من يعانده ويباهته، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين فلا يثبت مع أحد الفريقين، ثم أفاض في شرح حال بني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا قليل من أهل العلم والتقوى، وكان الأكثرون أشد الناس استكبارا عن الإيمان وإيذاء للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين. وبعد هذا كله أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجا، ووصل الإنكار بحجة واقعة ناهضة، تجعل تلك الحجة النظرية داحضة، فعلم بهذا أن الكلام لا يزال متصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان، كلما بعد العهد جاء ما يذكر به تذكيرا.
قال - تعالى -: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } كان الظاهر أن يكون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ولكن خاطب المؤمنين معه؛ لأنهم كانوا يشاركونه في الألم من إيذائهم والطمع بهدايتهم فأشركهم بالتسلية كما سبق؛ ولأن طمع المؤمنين بإيمانهم كان يحملهم على الانبساط معهم في المعاشرة إلى حد الإفضاء إليهم ببعض الشئون الملية المحضة واتخاذهم بطانة، وكان يعقب ذلك من الضرر ما يعقب حتى نهاهم الله - تعالى - عن اتخاذ البطانة من دون المؤمنين إذا كانوا موصوفين بأوصاف هؤلاء، وذلك قوله - تعالى -: { { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } [آل عمران: 118] والآية التالية تدل على هذا الإفضاء أيضا.
أما الحجة التي وصلها بإنكار الطمع بإيمانهم للدلالة على أنه طمع في غير مطمع؛ فهي تعمد تحريف كلام الله ممن سمعه منهم. وذلك أن موسى اختار بأمر الله سبعين رجلا من قومه لسماع الوحي ومشاهدة الحال التي يكلمه الله - تعالى - بها، وقد سمعوا كلام الله - تعالى - على الوجه الذي لا نعرفه، وإنما نعرف أنهم صحبوه إلى حيث كان يناجي الله - تعالى -، وكان من شأن الله - تعالى - معهم أن صدقوا بأن ما جاء به موسى - عليه السلام - هو وحي من الله - تعالى -، والتصديق بذلك لا يتوقف على معرفة كيفيته وكنهه، فإن أكثر ما نصدق به تصديق يقين لا نعرف حقيقته وكنهه ولا كيفية تكوينه وإيجاده. وقد كان من أولئك المختارين أنهم لما رجعوا إلى قومهم، حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وأذعنوا له، بأن صرفوه عن وجهه بالتأويل - كما حققه ابن جرير الطبري وغيره - وهذا التحريف ثابت عندهم، منصوص في التوراة والتاريخ الديني الذي يسمى التاريخ المقدس.
فدل هذا ما سبقه على أن القسوة المانعة من التأثر والتدبر ومكابرة الحق والتفصي من عقال الشريعة، كان شنشنة قديمة فيهم، ثم تأصل فصار غريزة مطبوعة، فإعراضهم عن القرآن لا يستلزم الطعن عليه، ولا القول بجواز تسلق شيء من الريب إليه، فإنهم قد حرفوا وبدلوا وعاندوا وجاحدوا وهم يشاهدون الآيات الحسية، ويؤخذون بالعقوبات المعاشية، فكيف يستنكر بعد هذا أن يعرضوا عن دين دلائله عقلية، وآيته الكبرى معنوية! وهي القرآن المعجز بما فيه من علوم الهداية، ودقائق البلاغة، وأنباء الغيب، على أنه من أمي عاش أربعين سنة لم يؤثر عنه فيها شيء من العلم، ولم يزاحم فحول البلاغة في نثر ولا نظم، وفهم تلك الدلائل إنما يكون من ذوي العقول الحرة والقلوب السليمة، الذين لطف شعورهم ورق وجدانهم، وصحت أذواقهم.
قال ابن جرير: لو كان المراد بما هنا تحريف كلام التوراة المكتوب لما قال: { يسمعون كلام الله ثم يحرفونه }، فزيادة { يسمعون } هنا لا بد لها من حكمة، ولولا ذلك لجاء الكلام على نسق الآيات الأخرى التي ذكر فيها التحريف، كأن يقول: وقد كان فريق منهم يحرف كلام الله. وقوله - تعالى -: { من بعد ما عقلوه } نص في التعمد وسوء القصد، وإبطال لما عساه يعتذر لهم به من سوء الفهم. ثم قال: { وهم يعلمون } أي كانوا يفعلون فعلتهم الشنعاء في حال العلم بالصواب واستحضاره، لا أنهم كانوا على نسيان أو ذهول، وفي هذين القيدين من النعي والتشنيع عليهم ما لا مزيد عليه، وكيف وقد بطل بهما عذر الخطأ والنسيان وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان.
ثم بعد هذا الاحتجاج انتقل إلى بيان بعض أحوال الذين كانوا في زمن التنزيل وقد غير الأسلوب هنا، فإنه كان يحكي سيئاتهم مبتدئا بكلمة { وإذ } لأنه تذكير بما كان في الزمان الماضي، والابتداء بكلمة { إذا } هنا هو المناسب في الحكاية عن حال واقعة في الحال مستمرة في الاستقبال، والمراد من حكاية أحوال الحاضرين بيان أنها مساوية لأحوال سلفهم الغابرين، وأنه لا يرجى من هؤلاء أفضل مما كان من أولئك، قال: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون }؟.
ترشد هذه الآية إلى طور من أطوار البشر في زمن الإصلاح، وهي أن جماهير الناس يقعون في الحيرة بين الهداية الجديدة والتقاليد القديمة، لا ينظرون إلى الحق فيتحروا اتباعه أين كان، ولكنهم يفكرون في منفعتهم الخاصة، يقولون: نخشى أن نجهر بالجديد فيخذل حزبه ويتفرق شمله فنكون من الخاسرين، ولا نأمن إن بقينا على القديم أن يتقلص ظله، ويذل أهله فنكون مع الضالين. فالحزم أن نوافق كل حزب نخلو به، ونعتذر إلى الآخر إذا هو علم بما كان منا إلى أن نتبين الفوز في أحد الفريقين، فيكونون هكذا مذبذبين، كما قال الله - تعالى -: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم }... إلخ. الضمير في قالوا الثانية غير الضمير في قالوا الأولى كما هو ظاهر من السياق ولا لبس فيه ولا اشتباه، ومثله مستفيض في كلام البلغاء، وفي التنزيل أيضا كقوله - تعالى -: { { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } [البقرة: 232] فإن المنهي عن العضل الأولياء لا المطلقون. والكلام في القرآن للمكلفين كافة، فيوجه كل كلام إلى صاحبه الذي يتعين أن يكون له بقرينة الحال أو المقال. فإذا وجه الخطاب بالطلاق إلى الأزواج؛ لأنه لا يكون إلا منهم، فكذلك يوجه الخطاب بالنهي عن العضل - وهو منع المرأة من التزوج - إلى الأولياء؛ لأنه لا يكون إلا منهم. وعلى هذه الطريقة يتخرج قوله: { قالوا آمنا } وقوله: { قالوا أتحدثونهم } فالكلام في مجموع اليهود، ويوجه الأول إلى الذين يلاقون المؤمنين (والثاني) إلى الذين يلاقيهم هؤلاء من قومهم ويعذلونهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما فتح الله عليهم.
المراد بالفتح هنا: الإنعام بالشريعة والأحكام، والبشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، شبه الذي يعطى الشريعة بالمحصور يفتح عليه فيخرج من الضيق، أو معنى { بما فتح الله عليكم } بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ونصره، وقوله: { ليحاجوكم به عند ربكم } معناه يقيمون به عليكم الحجة من كتاب ربكم وهو التوراة من حيث أن ما تحدثونهم به موافق لما في القرآن، فلهم أن يقولوا: لولا أن محمدا نبي لما علم بهذا الذي حكاه عنكم، وقد كان مثلنا لا يعرف من أمر الكتاب شيئا. هذا ما جرى عليه المحققون في تفسير { عند ربكم } وهو أنه بمعنى في كتابه، فهو كقوله في أهل الإفك { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } [النور: 13] أي في حكمه المبين في كتابه. وذهب مفسرنا (الجلال) إلى أن معناه المحاجة في الآخرة، والنظم لا يأباه، ولكن فيه اعترافا من اللائمين المؤنبين بأن المسلمين على الحق الذي لا ينجي عند الله سواه، ومن اعتقد هذا لا يجعله تعليلا للإنكار على من يراه من قومه، يحدث المؤمنين بما يوافقهم ويقوي حجتهم، بل فيه أيضا أن ترك تحديثهم لا يمنعها في الآخرة.
مثل هذه الذبذبة تكون من الأمم في طور الضعف ولا سيما ضعف الإرادة والعلم، ولو كان لأولئك القوم إرادة قوية لثبتوا ظاهرا على ما يعتقدونه باطلا، ولم يصانعوا مخالفيهم من أهل الملة الأولى أو الملة الآخرة، وقد وبخهم الله - تعالى - وأنكر عليهم هذا التلون والدهان في الدين، ولقاء كل فريق بوجه يظهرون له ما يسرون من أمر الآخر، فقال: { أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } يعني أيقول اللائمون أو المنافقون كلهم ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كتموا، ويحرفون من كتابهم ما حرفوا، ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من إظهار إيمان وود، فإن كانوا مؤمنين بإحاطة علمه - تعالى -، فلم لا يحفلون باطلاعه على ظواهرهم، وإحاطته بما يجول في أطواء ضمائرهم، وبما يترتب على علمه من خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة.
قال - تعالى -: { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون }.
ذلك الذي تقدم هو شأن علمائهم، يحرفون كتاب الله ويخرجون من حكمه بالتأويل، وهذا هو شأن عامتهم، لا علم لهم بشيء من الكتاب، ولا معرفة لهم بالأحكام، وما عندهم من الدين فهو أماني يتمنونها وتجول صورها في خيالاتهم، وهذه الصور هي كل ما عندهم من العلم بدينهم، وما هم على بينة منها، وإنما هي ظنون يلهون بها، وهذا هو محل الذم لا مجرد كونهم أميين، فإن الأمي قد يتلقى العلم عن العلماء الثقات ويعقله عنهم بدليله فيكون علمه صحيحا، وهؤلاء لم يكونوا كذلك. فإن قيل: لم سمي ما كانوا عليه من الأماني ظنا مع أنهم أخذوه عن رؤساء دينهم الموثوق بهم عندهم وسلموه تسليما، فلم يكن في نفوسهم ما يخالفه، ومثل هذا يسمى اعتقادا وعلما؟ نقول: إنما العلم بالدليل ولا يسمي مثل ذلك علما إلا من لا يعرف معنى العلم. على أنه لم يكن راجحا ومسلما إلا لأن مقابله لم يخطر ببالهم، ولو أرد عليهم لتزلزل ما عندهم ثم زال، أو ظهر فيه الشك وتطرق إليه الاحتمال، ويصح أن يقال في مثل هؤلاء: إن الظن أو التردد كان نائما في نفوسهم، وهو عرضة لأن يوقظه نقيضه ويذهب به متى طرأ، ونوم الظن لا يصح أن يسمى اعتقادا.
قال الأستاذ الإمام: هذه الأماني توجد في كل الأمم في حال الضعف والانحطاط، يفتخرون بما بين أيديهم من الشريعة، وبسلفهم الذين كانوا مهتدين بها، وبما لهم من الآثار التي كانت ثمرة تلك الهداية، وتسول لهم الأماني أن ذلك كاف في نجاتهم وسعادتهم وفضلهم على سائر الناس. هكذا كان اليهود في زمن التنزيل، وقد اتبعنا سننهم وتلونا تلوهم، فظهر فينا تأويل الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع" وإننا نقرأ أخبارهم فنسخر منهم ولا نسخر من أنفسنا، ونعجب لهم كيف رضوا بالأماني، ونحن غارقون فيها!
ثم إن الآية تدل على بطلان التقليد وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه، وقد مضى على هذا إجماع الصدر الأول وأهل القرون الثلاثة، وإنما كان الجاهل يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها، والأحكام بروايتها، ولا يتقلد رأيه كيفما كان من غير بينة ولا برهان، وفسر بعضهم الأماني بالأكاذيب ابتداء، ومنهم من فسرها بالقراءات، أي أنهم لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة ألفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل، فهو على حد { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } [الجمعة: 5] وقد ورد التمني بمعنى القراءة، ومنه قول الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رسل
وهذا النوع من التمني قد برز فيه المسلمون حتى سبقوا من قبلهم، فقد أمسوا أكثر الأمم تلاوة لكتابهم، وأقلهم فهما له واهتداء به.
قال الأستاذ الإمام: إنما يحسن تفسير هذه الآيات من كان على علم بتاريخ اليهود في ذلك العصر ووقوف على حالهم، وإن كانت إلا نسخة من حال بعض الشعوب الموجودين الآن... كانوا أكثر الناس مراء وجدالا في الحق وإن كان بينا باهرا، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش، وغشا وتدليسا وتلبيسا، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص وأفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان، فهذه هي الأماني التي صدتهم عن قبول الإسلام.
وأما اللفظ والنظم ففيه أن قوله - تعالى -: { إلا أماني } استثناء منقطع، والعلم المنفي قاصر لا يشمل الأماني، ويصح أن يكون متعديا، والآية على حد قولهم: ما علمت فلانا إلا فاضلا، ويكون المعنى أنهم إنما يعلمون من الكتاب أنه مجموعة أماني يمنونها أنفسهم، فهم لا يأخذون منه إلا ما هو لهم ويمدهم في غرورهم، وأما ما ينبههم على سيئات أعمالهم فكأنه غير معروف لهم من الكتاب.