{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ } قال الكلبي: قالوا بعد ذلك لم نقتله، وأمكروا فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيّهم منهم عند ذلك قال الله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } الكلبي وأبو روق: يبست واشتدت وقال سائق البربري:
ولا ارى أثراً للذكر في جسديوالحبل في الجبل القاسي له أثر
أبو عبيدة: جفّت.
الواقدي: جفّت من الشّدة فلم تلن.
المؤرّخ: غلظت، وقيل: اسودّت.
قال الزجاج: تأويل القسوة ذهاب اللّين، [وقال سيبويه] والخشوع والخضوع.
{ ذٰلِكَ } أي بعد ظهور الدلالات.
{ فَهِيَ } غلظها وشدتها.
{ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أي بل أشد قسوة كقول الشاعر:
[بدت] مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل، وقيل: هو بمعنى الواو والألف صلة أي وأشد قسوة. كقوله تعالى { { آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان: 24] أيّ وكفوراً.
وقرأ أبو حياة: أو أشد قساوة، وقال الكسائي: القسوة والقساوة واحد كالشقوة والشّقاوة ثمّ عذر الحجارة وفضلها على القلب القاسي فقال { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ } وقرأ مالك بن دينار ينفجر بالنون كقوله { فَٱنفَجَرَتْ } [البقرة: 60]، وفي مصحف أُبي: منها الأنهار ـ ردّ الكناية إلى الحجارة ـ.
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } أي يتشقق هكذا قرأها الأعمش.
{ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله.
{ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } عزّ وجلّ وقلوبكم يا معاشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير.
{ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وعيد وتهديد أي بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به.
{ أَفَتَطْمَعُونَ } أي فترجون يعني محمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
{ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } لن يصدّقكم اليهود.
{ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } طائفة منهم.
{ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } يعني التوراة.
{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } أي يُغيرونه أي ما فيه من الأحكام.
{ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } علموه وفهموه كما غيّروا آية الرّجم وصفه محمّد صلى الله عليه وسلم.
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إنهم كاذبون ـ هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسّدي.
وقال ابن عبّاس ومقاتل: نزلت هذه الآية في السبعين المختارين؛ وذلك إنّهم لما ذهبوا مع موسى إلى الميقات وسمعوا كلام الله وما يأمره وما ينهاه رجعوا إلى قومهم فأمّا الصّادقون فأدّوا كما سمعوه وقالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إنْ إستطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا فأن شئم فلا تفعلوا ولا بأس.
{ وَإِذَا لَقُواْ } قرأ ابن السُّميقع لاقوا: يعني منافقي اليهود.
{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بألسنتهم لا بقلوبهم أبا بكر وأصحابه من المؤمنين.
{ قَالُوۤاْ آمَنَّا } كأيمانكم وشهدنا أنّ محمداً صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته.
{ وَإِذَا خَلاَ } رجع بعضهم إلى بعض أي كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود ولامُوهم على ذلك وـ { قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } قال الكلبي: بما قضى الله عليكم في كتابكم أنّ محمّداً حق وقوله صدق، وقال القاضي الفتاح الكسائي: بما بيّنه لكم في كتابكم [من العلم ببعث محمد والبشارة به].
الواقدي: بما أنزل الله في الدنيا والآخرة عليكم نظير { { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96] أي أنزلناه.
أبو عبيدة والأخفش: بما منّ الله عليكم وأعطاكم.
{ لِيُحَآجُّوكُم } ليخاصموكم ويحتجوا بقولكم عليكم [يعني أصحاب محمد].
{ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } وقال بعضهم: هو أنّ الرجل من المسلمين كلما يلقي قرينه وحليفه وصديقه من اليهود فيسأله عن أمر محمّد صلى الله عليه وسلم فيقولون إنّه لحق [فيقولون قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثمّ تتبعونه] وهو نبيّ. فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك.
قال السّدي: كان ناس من اليهود آمنوا ثمّ نافقوا وكان يحدثون المؤمنين بما عُذبوا به فقال لهم رؤسائهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي أنزل من العذاب ليعُيروكم به ويقولوا: نحن أكرم على الله منكم.
[ابن جرير عن] القاسم بن أبي برة: هذا قول يهود قريظة بعضهم لبعض حين سبّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا إخوان القردة والخنازير وعبدة الطّاغوت، فقالوا: من أخبر محمّداً بهذا؟ ما خرج هذا إلاّ منكم.
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أفليس لكم ذهن الإنسانيّة.
قال الله { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ما يخفون وما يبدون يعني اليهود، وقرأ ابن محيصن "ما" على الخطاب { وَمِنْهُمْ } من اليهود.
{ أُمِّيُّونَ } قال ابن عبّاس وقتادة: يعني غير عارفين معاني الكتاب. يعلمونه حفظاً وقراءة بلا فهم ولا يدرون ما فيه.
وقال الكلبي: لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته ودليل هذا التأويل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّا أُمّة أُمّية لا نكتب ولا نحاسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا" .
وقال أهل المعاني: الأُمّي منسوب إلى الأمة وما عليه العامة معنى الأُمي: العامي الذي لا تمييز له، أو هو جمع أُمي منسوب إلى الأُم كأنّه باق على [الحقيقة] حذفت منه هاء التأنيث لأنّها زائدة وياء النسبة زائدة، ونقلت فرقاً بينها وبين ياء الأضافة.
{ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } قرأ العامّة بتشديد الياء.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج { أَمَانِيَّ } بتخفيف الياء في كلّ القرآن حذفوا إحدى اليائين استخفافاً وهي ياء الجمع مثل مفاتح ومفاتيح.
وقال أبو حاتم: كل جمع من هذا الجنس واحد مشدّد فلك فيه التّضعيف والتشديد مثل فخاتي وأماني وأغاني وغيرها واختلفوا في معنى الأمانيّ، وقال الكلبي بمعنى لا يعلمون إلاّ ما تحدّثّهم بهم علماؤهم.
أبو روق وأبو عبيدة: تلاوة وقراءة على ظهر القلب ولا يقرؤنها في الكتب، يدلّ عليه قوله تعالى: { { إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } [الحج: 52] وقرآنه.
قال الشاعر:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلةوآخرها لاقى حمام المقادر
مجاهد وقتادة: كذباً وباطلاً.
الفرّاء: الأماني: الأحاديث المفتعلة.
قال بعض العرب لابن [دلب]: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟
وأراد بأماني الأنبياء التّي كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم ثمّ أضافوها إلى الله عزّ وجلّ من تغيير نعت محمّد صلى الله عليه وسلم.
الحسن وأبو العالية: يعني يتمنوّن على الله الباطل والكذب مثل قولهم { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [البقرة: 80] وقولهم: { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً } [البقرة: 111]، وقولهم { { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18].
{ وَإِنْ هُمْ } ما هم. { إِلاَّ يَظُنُّونَ } ظنّاً ووهماً لا حقيقة ويقيناً قاله قتادة والرّبيع.
وقال مجاهد: [... يكذبون].
{ فَوَيْلٌ } روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ إلى قعره" .
سعيد بن المسيب: وادٍ في جهنّم لو سرت فيه جبال الدّنيا لماعت من شدّة حرّها.
ابن بريدة: جبل من قيح ودم.
ابن عبّاس: شدّة العذاب.
ابن كيسان: كلمة يقولها كلّ مكروب.
الزجّاج: كلمة يستغلّها كل واقع في الهلكة وأصلها العذاب والهلاك.
وقيل: هو دعاء الكفّار على أنفسهم بالويل والثّبور.
{ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } وذلك إنّ أحبار اليهود خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة واحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوّراة وكان صفته فيها حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العين،
ربعة فغيروها وكتبوا مكانها طويل أزرق، سبط الشعر. فإذا سألهم سفلتهم عن محمّد صلى الله عليه وسلم قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لصفة محمّد صلى الله عليه وسلم فيكذبونه قال الله تعالى: { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } من تغيير نعت محمّد.
{ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } من المأكول ولفظة الأيدي للتأكيد كقولهم مشيت برجلي ورأيت بعيني. قال الله تعالى: { { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38].
قال الشّاعر:
نظرت فلم تنظر بعينك منظراً
وقال أبو مالك: "نزلت هذه الآية في الكاتب الّذي يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قرأ البقرة وآل عمران، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يملي: غفوراً رحيماً، فيكتب: عليماً حكيماً، فيقول له النبيّ صلى الله عليه وسلم اكتب كيف شئت ويملي عليه: عليماً حكيماً، فيكتب: سميعاً بصيراً، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم اكتب كيف شئت قال: فارتدّ ذلك الرّجل عن الإسلام ولحق بالمشركين. قال: أما يعلمكم محمّد صلى الله عليه وسلم أن كنت لأكتب ما شئت أنا، فمات ذلك الرّجل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ الأرض لا تقبله.
قال: فأخبرني أبو طلحة: إنّه أتى الأرض الّتي بات فيها فوجده منبوذاً، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا؟ قالوا: دفنّاه مراراً فلم تقبله الأرض" .