المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
اختلف المفسرون في قوله { ما أنذر }، فقال عكرمة { ما } بمعنى الذي، والتقدير الشيء الذي
أنذره الآباء من النار والعذاب، ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية على هذا القول من أن الآباء أنذروا.
قال القاضي أبو محمد: فـ"الآباء" على هذا كله هم الأقدمون على مر الدهور، وقوله تعالى:
{ فهم }، مع هذا التأويل بمعنى فإنهم دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة، وقال قتادة { ما } نافية أي أن
آباءهم لم ينذروا، فالآباء على هذا هم القريبون منهم، وهذه الآية كقوله تعالى: { { وما أرسلنا إليهم قبلك
من نذير } [سبأ: 44]، وهذه النذارة المنفية هي نذارة المباشرة والأمر والنهي، وإلا فدعوة الله تعالى من
الأرض لم تنقطع قط، وقوله { فهم } على هذا، الفاء منه واصلة بين الجملتين، ورابطة للثانية بالأولى،
و { حق القول } معناه وجب العذاب وسبق القضاء به هذا فيمن لم يؤمن من قريش كمن قتل ببدر وغيرهم،
وقوله تعالى: { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الآية قال مكي: قيل هي حقيقة في أحوال الآخرة وإذا دخلوا
النار.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } يضعف هذا القول لأن بصر
الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله، وقال الضحاك: معناه متعناهم من النفقة في سبيل الله، كما
قال تعالى { { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } [الإسراء: 23]، وقال ابن عباس وابن إسحاق: الآية
استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسوء، فجعل الله تعالى هذا مثالاً لهم في
كفه إياهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ومنعهم من إذايته حين بيتوه، قال عكرمة: نزلت هذه الآية حين
أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم فمنعه الله تعالى منه، الحديث، وفي غير ذلك من المواطن وقالت فرقة:
الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى آباءهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم { لا يؤمنون } بما سبق لهم في
الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغللين، والغل ما أحاط
بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة هذا معنى
التغليل، وقوله تعالى: { فهي } يحتمل أن يعود على "الأغلال" أي هي عريضة تبلغ بحرفها { الأذقان }،
والذقن مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء وذلك هو "الإقماح" وهو نحو الإقناع في الهيئة ونحوه ما يفعله الإنسان والحيوان عند شرب الماء البارد وعند الملوحات والحموضة القوية ونحوه،
ويحتمل وهو قول الطبري أن تعود "هي" على الأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين، وروي أن في مصحف ابن مسعود وأبيّ "إنا جعلنا في
أيمانهم"، وفي بضعها "في أيديهم"، وقد ذكرنا معنى "الإقماح"، وقال قتادة: المقمح الرافع رأسه، وقال
قتادة: { مقمحون } مضللون عن كل خير، وأرى الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه الإقماح فجعل
يديه تحت لحييه وألصقها ورفع رأسه، وقرأ الجمهور "سُداً" بضم السين في الموضعين، وقرأ حمزة
والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وطلحة وابن وثاب وعكرمة والنخعي وابن كثير "سَداً" بفتح
السين، وقال أبو علي: قال قوم هما بمعنى واحد أي حائلاً يسد طريقهم، وقال عكرمة: ما كان مما يفعله
البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح.
قال القاضي أبو محمد: والسد ما سد وحال، ومنه قول الأعرابي في صفة سحاب: طلع سد مع
انتشار الطفل، أي سحاب سد الأفق، ومنه قولهم: جراد سد، ومعنى الآية أن طريق الهدى سد دونهم،
وقرأ جمهور الناس "فأغشيناهم" بالغين منقوطة أي جعلنا على أعينهم غشاوة، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن
يعمر وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين "فأعشيناهم" بالعين غير منقوطة، ورويت عن النبي صلى
الله عليه وسلم وهي من العشى أي أضعفنا أبصارهم والمعنى { فهم لا يبصرون } رشداً ولا هدى، وقرأ
يزيد البربري "فأغشيتهم" بتاء دون ألف وبالغين منقوطة.