التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
-الجمعة

تفسير صدر المتألهين

وفيه إشراقات:
الإشراق الأوّل
في القراءة
قرأ زيد بن علي (ع): "إنّه ملاقيكم" بدون الفاء، وفي قراءة ابن مسعود: "تفرّون منه ملاقيكم" وهي ظاهرة. وأمّا التي بالفاء فلتضمّن الذي معنى الشرط. وقيل: إنّ التقدير: قل إنّ الموت هو الذي تفرّون منه، فجعل الذي في موضع الخبر، لا صفة للموت، ويكون "فإنّه" مستأنفاً، وكذلك في قراءة زيد قد جعل: إنّ الموت الذي تفرّون منه، كلاماً برأسه، أي إنّ الموت هو الشيء الذي تفرّون منه، ثمّ استؤنف: إنّه ملاقيكم.
الإشراق الثاني
لا ينفع الفرار من الموت
قُلْ - يا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) - إنَّ الْمَوتَ الذي تَفِرّونَ مِنْهُ - لاعتباركم بصحبة أهل الدنيا وأبنائِها وشهواتِها ونسائها ومالِها وأسبابِها وبنائِها - فَأِّنَّهُ مُلاَقيكُمْ - أي إنّكم وإن فررَتم من الموت أو القتل بتقوية المزاج، وأكل الأغذية الجيّدة والمشروبات المقوية، والتداوي بالأدوية والترياقات لدفع السموم والآفات، وتحصيل الوقايات من الأسلحة الدافعة والدروع الواقية، واتّخاذ الأبنية والحُصُن الرفيعة والقلاع العالية الحصينة والبروج المشيدة الحارسة عن العدوّ - إلى غير ذلك من التدابير البشريّة والحيل الآدميّة لمدافعة الموت -، فإنّه لا ينفعكم عند حلول الأجل المعلوم عند الله، ولا بدّ أن ينزل بكم الموت ويلاقيكم ويدرككم، ولا ينفعكم الهرب منه
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء:78].
وإنّما قال بالفاء وحرف التأكيد والجملة الاسميّة مبالغة في الدلالة على أنّه لا ينفع الفرار منه، فسواء فّروا منه أو لم يفرّوا فإنّه ملاقيهم، بل ربما كان نفس الفرار من أسباب الموت، كما يشاهَد في بعض مواضع الاحترازات والعلاجات الطبيّة والنجوميّة حيث يصير بعينه سبباً من أسباب الوقوع فيما وقع الفرار منه. فإذا كان الفرار كالسبب في ملاقاة ما يفرّ منه فلا معنى للتعرّض للفرار لأنّه لا يباعدهم على أيّ وجه.
وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (ع): كلّ امرئ لاقٍ ما يفرّ منه والأجَل مساق النفس، والهرب منه موافاته.
وقال زهير:

ومن هابَ أسباب المنايا ينلنه ولو نالَ أسبابَ السماء بسْلّم

ولا شكّ أنّها تناله هابَها أو لم يهبَها، ولكنّها ذا كانت بمنزلة السبب للمنيّة فالهيبة لا معنى لها.
الإشراق الثالث
في حكمة الموت
إعلم أنّه قد تقرّر في العلوم الكليّة بيان حكمة الموت، وحكمة نفرة النفس عنه، أمّا حكمة الموت، فلأنّ كون النفس في هذه الدنيا حال نقص دون التمام، وكونها في الآخرة حال تمام، فالبقاء على حال التمام أفضل وأكمل وألذّ وأشرف، كما ان حال الأبدان في الأرحام حال نقص عن التمام والكمال، وحالها بعد الولادة حال تمام وكمال كما لا يخفى على أحد، ولا يجوز في العناية الربّانيّة إهمال شيء من الكمالات والخيرات، وعدم الإجادة به على مستحقّه، فيجب بمقتضى جوده ورحمته إكمال كلّ ناقص بكماله اللائق بحاله.
وكما أنّه لا يمكن الوصول إلى تمام الخلقة البديّة في الدنيا إلاّ بعد تقدّم حال النقص في الرحم، والجواز عليه، والخروج عنه، فهكذا حال الأرواح في تمام تكوّنها الأخرويّ ونشأتها الثانويّة، فإنّها لا يصل إليها إلاّ بعد تقدم حال النقص في رحم الدنيا والورود فيها والجواز عليها والخروج عنها، فحال الأرواح بعد الموت على موازنة حال الأبدان بعد مفارقتها الأرحام، لأنّ الموت ليس معناه سوى مفارقة الروح الجسد والدنيا كما أنّ الولادة ليست سوى مفارقة الجسد المشيمة والرحم، فالدنيا كالرحم، والبدن كمالمشيمة، والروح كالجنين. وألَم النزع كألَم الولادة، ومَلَك الموت كالقابلة، والقبر كالمهد، وفضاء الآخرة وأنوارها الإلهيّة والجبروتيّة والملكوتيّة بالنسبة إلى ضيق الدنيا وظلماتها الثلاث التي بعضها فوق بعض، ظلمة الهيولى وظلمة الطبيعة وظلمة النفس بدواعيها الشهويّة والغضبيّة والوهميّة، كفضاء الدنيا وأنوارها الشمسيّة والقمريّة والسراجيّة بالنسبة إلى ضيق الجوف وظلماته الثلاث ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن، أو ظلمات الجماديّة والنباتيّة والحيوانيّة.
وأمّا حكمة كراهة الموت للأرواح: فإنّ الله - جلّ ثناؤه - جعل بواجب حكمته في طبع النفوس محبّة الوجود والبقاء أبداً سرمداً، وجعل في جبلّتها كراهة الفناء والعدم، لأنّ الوجود خير محض مؤثَر عند الكلّ، فيحبّه كلّ أحد ويبغض زواله، والموت يزيل هذا الوجود الدنيويّ، فيكون مكروهاً. هذا هو السبب الفاعلي، وأمّا السبب الغائي وحكمته، فلتحرص النفوس بطباعها وغرايزها على حفظ البقاء وتهرب عن الأضداد والمفسدات قبل بلوغها إلى درجة الكمال.
وهاهنا وجهان آخران:
أحدهما: أنّ الباري جلّ مجده لمّا كانت ذاته بذاته علّة الموجودات ومقوّم الحقائق ومقيّم الكائنات وممسك السموات والأرض، وهو باقٍ أبداً، صارت الموجودات كلّها تحبّ البقاء وتشتاق إليه لأنّه صفة موجِدها وعلّتها والمعلول يحبّ علّته وصفاتها ويشتاق إليها، فمحبّة البقاء وكراهة الفناء من فروع محبّة الباري جلّ ذكره، فمن أجل هذا قالَ الحكماء الأقدمون والعرفاء المحقّقون: إنّ الباري جل ثناؤه هو المعشوق الأوّل، تشتاقه ساير الخلايق جِبلّة وفطرة، ويدور عليه الكلّ طبعاً وإرادة.
وثانيهما: أنّ أكثر النفوس لا تدري بأنّ لها وجوداً خلواً عن الأجسام، فتتوهّم أنّ الموت فناء الذات بالكليّة.
قيل: لِم لا يلهم الله النفوس بأنّ لها وجوداً مستقلاً ولا حاجة فيه إلى هذا البدن؟
قلنا: لأنّه لا يصلح لها العلم بهذه المعاني، إذ لو علمت لفارقت أجسادها قبل أن تتم وتكمل، أو تهاونت في تدبيرها كما ينبغي فأدّت الأجساد إلى الفساد قبل استعداها للمعاد، وهذا ممّا يبطل حكمة الإيجاد.
وأيضاً: إذا فارقت النفوس الأجساد قبل ذلك، بقيت فارغة معطّلة بلا شغل وعمل، ولا معطّل في الوجود، والحكمة تقتضي أن لا يكون شيء من الموجودات مهملاً معطّلاً، كما أنّ الباري - جلّ ذكره - لم يخل أبداً من تدبير وصنعة حتّى يكون فارغاً بلا تدبير وإفاضة، بل كلّ يوم هو في شأن.
فظهر أنّ الموت لا بدّ وان يلاقيه الإنسان من جهة القضيّة الربّانية مع كونه مكروهاً تفرّ وتنفر منه النفوس بحسب ما هو مركوز في غرايزها من جهة التدبير الإلهي، ولذلك سلّط عليها دواعي هي أسباب دوامها الدنيوي، وهي بعينها أسباب عَطَبِها وهلاك هياكلها وشقاوة نفوسها، وهذا من عجائب حكمة الله في هذا العالَم، حيث يكون سبب البقاء بعينه سبب الهلاك والشقاوة، وتلك الأسباب والدواعي المسلّطة هي مثل الجوع والعطش والشهوات المختلفة والأشواق واللذّات الزايلة.
أمّا قصد الباري في تكوين الجوع والعطش وتسليطهما على النفوس، ليدعوها إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها من الكيموسات الصالحة بدلاً عمّا يتحلّل منها ساعة فساعة، ليبقى بها الشخص والنوع، إذ كانت أجسامها دائماً في التحلّل والذوبان والسيلان.
وأمّا الشهوات المستولية، فلأن يدعوها إلى الأغذية الجيّدة والمأكولات المختلفة الموافقة لامزجة أبدانها، وما تحتاج إليه طباعها مدّة الكون.
وأمّا اللذّة: فلأن يكون ما يأكل ويشرب بقدر الحاجة ولا يزيد ولا ينقص، وأمّا الذي يعرض لها من الآلام والأوجاع عند الأمراض والعاهات العارضة لأجسادها فلأن تحرص النفوس على حفظ أجسادها من الآفات لتبقى إلى وقت معلوم ولا تفسد قبل بلوغ النفس إلى كمالها اللائق بحالها، فإنّ استكمالها بالعلم والعمل، وبلوغها إلى درجة العقل والمعقول بالفعل، إنّما يحصل بآلات البدن واستعمال حواسّه الظاهرة والباطنة مدّة مديدة، ولذا قيل: "مَن فقدَ حِسّاً فَقَدَ عِلَماً".
الإشراق الرابع
لميِّة لحوق الموت الطبيعي
إعلم أنّا بيّنا في بعض فصول أسفارنا علّة لحوق الموت الطبيعي لكلّ نفس منفوسة بوجه تحقيقي غير ما اشتهر في الكتب الطبيعيّة والطبيّة، واستنبطنا ذلك من بعض الآيات القرآنيّة حسبما ألهمني الله، وأثبتناه بالبيان البرهاني على نهج الحكماء الإلهيّين، لا بالبيانات التي هي مسلك الأطبّاء والطبيعيّين.
وحكاية القول فيه: أن في جِبِلّة النفوس بل المكوّنات العنصريّة كلّها الترقي من حال إلى حال، والتدرّج إلى كمال بعد كمال، والتوجّه والسير الحثيث إلى المبدأ الفعّال والقيّوم المتعال، وهذا أمر مشاهَد في النبات والحيوان فضلاً عن الإنسان، وقد أقيم في مواضعه عليه البرهان.
أوَ لا ترى أنّ النفس الإنسانيّة منذ أوّل تكوّنها النطفي قبل حين تكوّنها النطقي، كانت لها قوّة قابلة هيولانيّة شبيهة بالعدم، كما قال تعالى:
{ { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [الإنسان:1]. ثمّ دخلت في دائرة النبات، ثمّ في دائرة الحيوان، ثمّ ظهرت منها آثار البشريّة حتّى بلغ غاية النموّ وكمال الخِلقة حين أشدّها الصوري، فصارت قويّة القوى الشهويّة والغضبيّة. ثمّ إذا جاوزت عن وقت بلغ غاية النمو فشرعت في الذبول الخَلْقي والفتور البدني، ولم يكن منشأ ذلك آفة خارجيّة وردت عليها، أو قصور عرض لها في حين حركتها نحو الكمال.
وقد علمت أنّ الفائض من المبدأ الحقّ ليس إلاّ خيراً وكمالاً، لا عَدَماً وشرّا، واستدعاء القابل منه ليس إلاّ البقاء والدوام لا الذبول والفساد، بل منشؤه توجّه الطبيعة النفسانيّة نحو نشأة ثانية، وسلوكها مسلكاً آخر إلى عالَم آخر، كما سننبّه عليه تنبيهاً يليق بهذا الموضع.
وأمّا حديث تناهي القوى الجسمانيّة في فعلها وانفعالها، وكلال الآلات عن تمادي الحركات والتغيّرات إلى ما لا نهاية، فهو إنّما يصدق فيما تكون الأفعال والانفعالات صادرة عنها على الاستقلال، وأمّا على سبيل الاستمداد عمّا هو أرفع منها فيحتمل اللانهاية كما حركات الأفلاك على رأيهم.
وأمّا حديث قصور مزاج الغذاء الذي يصير بدلاً عمّا يتحلّل بحسب الكيفيّة عن مزاج أصل البدن من جهة نقصان مراتب الهضم والتعديل فيه عن مراتبهما في مادّة البدن بمرتبة واحدة، وذلك لأنّ النطفة ممّا وردت عليه خمسة هضوم وتعديلات: أحدها في المعدة. والثاني في الكبد، والثالث في العروق. والرابع عند الأعضاء، والخامس في أوعية المني مثل الأنثيين والرحم. بخلاف الغذاء، فإنّه يقصر عن المني في تلك المراتب بمرتبة واحدة أخيرة، وهي التي يصير المنيّ بها تامُّ الاستعداد لقبول الصورة الحيوانيّة، فلا يكاد فيما يزيد منها على البدن لما ينقص من الأعضاء عنه، فلهذا يعرض الفناء، فهو أيضاً أمر تخمينيّ مبناه على الظنون والترجيحات الخياليّة - لا على المقدّمات الاضطراريّة البرهانيّة - والبرهان هو المتّبع.
{ { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة:111والنمل:64].
وأمّا حكاية النجوم وأحكامها في باب مقادير الأعمار: فأكثرها مجازفات وتخمينات.
{ { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [يونس:36].
بل الحقّ الحقيق بالتصديق: أنّ الطبيعة بحسب ما أودعه الله في جبلتها إذا جاوزت النوع الأخسّ - وقد بقيت بعد - فلا بدّ وأن تتخطّى النوع الأشرف، وإلاّ لكانت معطّلة لا معطّل في الوجود. وقد تقرّر أيضاً في العلوم الإلهيّة أنّ الطبيعة العنصريّة ما لم يُوَفّ النوع الأخسّ لم يتجاوز منه إلى النوع الذي فوقه.
ثمّ لا شبهة في أنّ الإنسان بحسب كمال خلقته البدنيّة أشرف الأنواع الحيوانيّة، لكونه تامّ الحواسّ مع قوّتين آخريين يخصّان به، وهما نظريّة وعملية، فمعلوم أنّ طبيعته قد تجاوزت عن جميع الحدود المترتبّة التي في سائر الحيوانات، بعدما تجاوزت عن سائر الدرجات النباتيّة المتجاوزة عن الجماديّة والجسميّة والجوهريّة المطلقة والشيئيّة العامّة، وهي بعد في الحركة المعنويّة، ولم يبق من الصور والأنواع الممكنة في عالَم الطبيعة والنشأة الدنيويّة إلا وتجاوزت عنه متوجّهة نحو غيره، فلا بدّ من توجّهها ورجوعها إلى عالَم الآخرة عند الله، سواء كانت سعيدة مسرورة أو شقيّة مخذولة معذّبة منكوسة، لأنّ هذه الحركة من النفس ليست اختياريّة بل اضطراريّة جِبِليّة.
فالموت الطبيعي عبارة عن تجاوز الطبيعة الإنسانيّة عن مراتب الاستكمالات الحيوانيّة المناسبة لها في هذه الدار، وهي عالم الشهادة، إلى أوّل نشأة تكون لها في الدار الآخرة وعالَم الغيب.
فهذا هو السبب البرهاني اللّمي لعروض الموت، كما أنّ ما ذكرناه أوّلاً هو السبب الغائي له. فافهم واغتنم، فانّه مع كمال وثاقته وقوّته ووضوحه وجلائه ربما خفي على الأذهان القاصرة الغير المناسبة لمطالعة المبادئ الإشراقيّة وأخذ النتائج المطلوبة منها، لاعتيادها بالتلقّف والاكتساب عن المبادئ التقليديّة الحسيّة - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم -.
تذكرة تمثيلية
يجب الاستغناء عن البدن قبل خرابه
إنّ معنى الموت في الحقيقة يرجع إلى ترك النفس اسعمال الجسد، لأنّ البدن للنفس بمنزلة الدكّان للصانع، والأعضاء بمنزلة الآلات، فإذا كلّت آلات الصانع أو انكسرت أو خرب الدكّان وانهدم بناؤه فإنّ الصانع لا يقدر على عمل شيء من الصنعة إلاّ أن يجدّد دكّاناً آخر وأدوات متجدّدة أخرى.
فكلّ صانع حكيم، إذا فكر في أمره، ونظر في عواقب عمره، علم بأنّه لا بّد وأن يخرب يوماً دكّانه، وتكلّ أدواته، وتضعف قوّة بدنه، وتذهب أيّام شبابه، فمن بادَر واجتهد قبل خراب الدكّان وكسر الآلات وذهاب القوّة، واكتسب مالاً يغنيه عن الدكّان واستغنى عن السعي، فإنّه لا يحتاج بعد ذلك إلى دكّان آخر وأدوات أخرى مجدّدة، بل يستريح من العمل ويتسقلّ بالتمتّع والالتذاذ بما كسب وادّخر، فهكذا تكون حال النفوس الفاضلة بعد خراب أبدانها وعطب أجسامها.
فتفكّر - يا مسكين - وبادِر واجتهِد وتزوَّد قبل خراب هذا الدكّان وفساد الآلات، فإنّ خير الزاد التقوى.
شك وتحقيق
حكمة بقاء النفوس الكاملة في الدنيا
إن قيل: ما العلّة في بقاء النفوس الكاملة المجرّدة بذاتها المتسغنية عن البدن وقواه مدّة في هذه الدار، مع ما يعتري اصحابها من المحن والآلام، وما يحلقهم من الأوجاع والشدائد وعداوة الجهّال وفتنة الأشرار؟
يقال: الحكمة في ذلك كون تلك النفوس مشغولة بتدبير النفوس الناقصة المتجسدة كيلا تتم هذه وتتخلص من النفس، وتكمل تلك وتصير فوق التمام وبالغة إلى كمال بعد الكمال، والى حال أشرف وأعلى من ذلك الحال
{ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم:42].
والمثال في ذلك: الأب الشفيق والأستاذ الرفيق في تعليم التلامذة والأولاد وإخرجه إياهم من الظلمات والجهالات إلى فسحة العلوم والمعارف ليتموّن هؤلاء ويكمل أولئك الآباء والأساتذة ويخرجوا ما في قوّة نفسهم من العلوم والصنايع والحِكم إلى الفعل والظهور اقتداء بالباري سبحانه، وتشبّها بالحكيم الأوّل في حكمته وجوده، إذ هو السبب في إخراج الموجودات من القوّة والبطون إلى الفعل والظهور، فكلّ نفس هي أكثر علوماً وأحكم صنعة وأجود عملاً، وعلى غيرها أكثر إفاضة وجوداً وإفادة، فهي أقرب إلى الله نسبة وأشدّ تشبّهاً.
وهذه أوّلا هي مرتبة الملائكة الذين
{ { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6] { { يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء:57].
ولهذا قال أئمّة الحكمة القديمة في تعريفها: إنّها هي التشبّه بالإله بقدر الطاقة البشرية.
وفي الحكمة المحمديّة - على الصادع وآله أفضل التقديسات والتسليمات -: تخلٌّوا بأخلاق الله. يعني من تكون علومه حقيقيّة وصنائعه محكمة وأعماله صالحة صافية من الغشّ والدغل، وأخلاقه جميلة وآراؤه صحيحة وفيضه على مَن دونه متّصلاً فهو من أولياء الله المؤمنين المقرّبين منه وأحبّائه المزدلفين لديه.
الإشراق الخامس
التوحيد الأفعالي
في قوله تعالى: { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ }.
إعلم أنّه قد وقعت نسبة قبض الأرواح وجذب النفوس وردِّها إلى عالَم الآخرة تارة إلى الله تعالى كما في قوله:
{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر:42]. وتارة إلى بعض ملائكة الله المقرّبين كما في قوله تعالى: { { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [السجدة:11] وتارة إلى رسل الله كما في قوله تعالى: { { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [الأنعام:61]. وتارة إلى النفس ذاتها كما في قوله تعالى: { { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر:27 - 28]. وتارة لم ينسب إلى فاعلٍ معيّن وقابض معلوم كما في هذه الآية، ونحن قد ذكرنا في تفسير سورة يس ما يستفاد منه وجه في تعدّد هذه النسبة وتكثّر المبادئ في هذا الفعل، فليرجع إليه من أراد ذلك، ولكن لا نَسكت هنا عن ذكر شيء يسير من المقال يشير إلى لِميّة الحال.
فنقول: إنّ بين الذّات الأحديّة الإلهيّة وبين كلّ موجود طبيعي أمور متوسّطة هي أسباب تحقّقه ووسائط تكوينه، ومنها ما هو أسباب جذب الأرواح والنفوس من أسفل سافلين، كما أنّها بعينها أسباب وجودها وورودها من أعلى عليّين.
فأوّلها اسم الله القابض في العالَم الإلهي، ثمّ المَلَك المقرّب الذي يجذب الأرواح في عالم القدس، ثمّ نفوس رسل الله وهم الدعاة إلى الله، ثمّ النفوس المطمئنّة الراجعة إلى ربّها راضية مرضيّة في عالم النفوس، ثمّ الطبيعة الإنطباعيّة في عالَم الطبائع، وإن كان لكلّ إنسان قوّة محرّكة جاذبة للجسم الغذائي الترابي إلى درجة الطبيعة النباتيّة، وله قوّة أخرى حيوانيّة فاعلة للحسّ والحركة الإراديّة بجذب لطائف الأخلاط إلى أفق الأرواح البخاريّة، وله قوّة نطقيّة فوق القوّة الحيوانيّة تجذبها إلى مرتبة النفس النطقيّة، وفوقها قوّة نبويّة تدعو النفس النطقيّة جاذبة إلى عالم الملكوت الغيبيّة، وفوقها قوّة جبرئيليّة ترافقها وتصعد بها إلى عالَم الربوبيّة، والله سبحانه بقوّته التي تمسك السموات والأرض أن تزولا فوق الكلّ،
{ { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } [الأنعام:61] ويقبض الكلّ باسمه "القَابِض" { { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر:67].
فللإشارة إلى هذه المراتب المقتضية لقبض الأرواح وجذب النفوس إلى الله تعالى، وقعت نسبة الترقّي تارة إلى الله تعالى، وتارة إلى الملك الروحاني، والى ملائكة هي دونه في الرتبة، وتارة إلى رسل الله، وتارة إلى النفس، وتارة إلى الطبيعة المسخّرة - كما في هذه الآية -، تنبيهاً على اختلاف هذه النشآت، وتعدّد العوالِم، وتفاوت الدرجات للإنسان.
لكن يجب على الناظر المتأمّل أن يعلم ممّا أكثرنا ذِكره وكرّرنا إثباته في توضيح أسرار بعض الآيات، أنّ كلّ فعل إذا نسب إلى الباري القيّوم يكون بالحقيقة لا بالمجاز، وإن نسب إلى ما سواه يكون بالمجاز، وذلك لأنّ الأسباب مستهلكة الذوات والمهيّات عند مسبّبها، فإذا سمعت مثل قوله تعالى:
{ { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر:42]، فاحمله على الحقيقة في التوفّي، وإذا سمعت مثل قوله: { { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ } [السجدة:11] فاحمله على المجاز.
فالكامل في العرفان من كان في حدقة عرفانه نوران: نور التوحيد، ونور الحكمة. ولا يطفئ أحدهما نور الآخر، فبأحد النورين ينظر إلى توحيده تعالى، وبالنور الآخر ينظر إلى حكمته في ترتيب الأسباب للمسبّبات، ويرى كثرة صور الأعيان التي هي مظاهر الأسماء في وحدة وجوده وفيض جوده.
وأكثر الناس ممّن يشغلهم شأن عن شأن، فمنهم من راعى جانب التوحيد في الأفعال فأهمل رعاية الحكمة والترتيب، كالأشاعرة المنكرين للقول بالعلّة والمعلول وترتيب الأسباب، أو لم يتدبّروا في خلق السموات والأرض وما بينهما من عجائب الحكمة وبدائع الفطرة، وقد قال سبحانه:
{ { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [الدخان:38]. وقال تعالى: { { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ * مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأعراف:185 - 186].
فهذه الآية ناصّة على وجوب النظر في المسائل الحِكَميّة على من وفّق له، ومنهم من راعى جانب الحكمة في إثبات والوسائط، لكن أهمل جانب التوحيد الأفعالي، وصارت رؤية الأسباب القريبة حجاباً له عن رؤية مسبّب الأسباب، وهذا كالمعتزلة المثبتين للعبد قوة مستقلة.
وأمّا الذي تزيّن به محقّقو الإسلام وحكماء شريعة سيّد الأنام - عليه وآله السلام - وهم الراسخون في علم القرآن، والعالمون بتأويل الأحاديث، فهو الجمع بين التوحيد والشريعة الحِكَميّة، ولأجل هذا الجمع والتوفيق نسب الله الأفعال في القرآن مرّة إلى الملائكة أو العباد، ومرّة إلى نفسه، فقال في القبض تارة
{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [السجدة:11] وتارة: { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر:42] وتارة: { { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر:28] وقال في باب الحراثة: { { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } [الواقعة:63]. ثمّ قال: { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً } [عبس:25 - 28]. وقال في باب نفخ الأرواح في الأجساد مرّة: { { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [مريم:17]. ومرّة: { { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم:12] ومرّة: { { فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [آل عمران:49].
وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصف مَلَك الأرحام:
"إنّه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده، ثمّ يصوّرها جسداً فيقول: يا ربِّ أذَكَر أم انثى أسويّ أم معوج؟ فيقول الله ما شاء، ويخلق المَلَك" .
وفي لفظ آخر: يصوّر المَلَك فيها الروح بالسعادة والشقاوة. وقال بعض السلف: إنّ الملك الذي يقال له الروح، هو الذي يولج الأرواح في الأجسام، وإنّه يتنفّس بوصفه فيكون كلّ نفَس من أنفاسه روحاً يلج في جسمٍ، ولذلك سُمّي روحاً.
وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته فهو حقّ يشاهده أصحاب القلوب ببصائرهم، وهذا بعينه كحال المتكلّم بالكلام الحِكَمي، حيث إنّ كلّ نفَس من أنفاسه يفيد معنى عقليّا يلج في تشكّل كلامه، وكذلك ذكر الله في القرآن الآيات الدالاّت على وجوده ووحدانيّته، مثل قوله تعالى:
{ { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [آل عمران:190].
ومثل قوله:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت:53]. فنسب الدلالة على وجود ذاته، والشهادة على وحدانيته إلى الموجودات الآفاقيّة والأنفسيّة، ثمّ قال: { { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت:53].
وقال أيضاً:
{ { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران:18]. فبيّن أنّه الدليل على نفسه.
وليس ذلك بمتناقض، بل طرق المعرفة مختلفة، بعضها من جهة الحكمة والترتيب في النظام، وبعضها من جهة التوحيد وأحديّة الجمع، فكم من سالك عرف ذاته بوسيلة النظر إلى الموجودات، وكم من طالب عرف بالنظر إليه كلّ الموجودات، فقال: عرفت ربّي بربّي، ولولا ربّي لما عرفت ربّي، وهذا بعينه مسلك الصِدّيقين، والأوّل مسلك ذوي الأنظار.
وأيضاً قد وصف الله نفسه بأنّه المحيي والمميت، ثمّ فوّض الموت والحياة إلى مَلكين. ففي الخبر:
"إنّ ملك الموت وملك الحياة تناظرا فقال ملك الموت: أنا أميت. وقال ملك الحياة: أنا أحيي الأموات. فأوحى الله إليهما: كونا على عملكما وما سُخّرتما له من الصنع، فأنا المحيي والمميت، ولا محيي ولا مميت سواي" .
فالمحقّق العارف هو الذي ينشكف له بنور معرفته أن لا قوام للأشياء عنده بأنفسها، وإنّما قوامها بغيرها، فهي باعتبار أنفسها باطلات الذوات هالكات الهويّات والإنيّات، وإنّما حقيّتها بغيرها لا بأنفسها من حيث هي هي، فإذاً لا حقّ عند المحقّق المحقّ إلاّ الحقّ القيّوم الذي ليس كمثله شيء، فهو القائم بذاته، وكلّ ما سواه قائم بقدرته، فهو الحقّ وما سواه باطل.
ولمّا جرى هذا المعنى لسان بعض الأعراب قصداً واتّفاقاً صدّقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أصدق بيت قال الشاعر قول لبيد:

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل
فكلّ شيء هالك إلاّ وجهه

الإشراق السادس
المحيي هو المميت
لما علمت أنّ للإنسان مراتب مختلفة في الوجود، لتحصيل كلّ مرتبة أسباب وعلل أوجدها الله تعالى، فاعلم أنّ محصّل كلّ مرتبة عالية للإنسان بالذات، مستتبع لزوال مرتبة دانية له بالعرض والتبعيّة، فمحيي الإنسان في كلّ نشأة هو مميته في النشأة المتقدّمة عليها، ولذا قيل لقابض الروح أنّه مَلَكَ الموت نظراً إلى هاتين الجهتين، ويسمّى بأبي يحيى على الرسم، لا من باب تسمية الشيء باسم ضدّه كما هو عادة العرب، وأمّا نسبة الإحياء إلى ملك آخر غير مَلَك الموت كما سبق، فذلك التعدّد بالقياس إلى وجود مرتبة ونشأة وعدم مرتبة ونشأة أخرى.
الإشراق السابع
في لميّة توجّه الروح الإنساني إلى الله سبحانه
إنّ من الحكمة البالغة والنعمة السابغة، أنّ الله قد جمع في سنخ حقيقة الإنسان ما أفرد به الملائكة المقرّبين والحيوانات المبعدين، فضلاً عمّا خصّ به غير هذين الجنسين من العالمين أجمعين.
فمن ذلك أنّه تعالى أفرد المَلَك بنور روحانيّ علويّ باقٍ أبديّ، لأنّه نور من أنوار الله وسر من أسرار الله، وأفرد الحيوانات بروح سفليّ فان ظلماني، فأفرد الإنسان بالتركيب بين الروحين فيه: فان حيواني وباقٍ ملكي، فالحكمة في ذلك أنّ الروح المَلَكي غير متغذٍ ولا نام، وإنّما بقاؤه بالتسبيح والتقديس، وهما بمثابة النَفَس للحيوان، ولهذا ليس للملك الترقّي من مقامه لقوله:
{ { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات:164].
والروح الحيواني قابل للترقيّ لأنه متغذٍ، فجعل الإنسان مركّبا من الروحَين لتنطبع روحه الملكي بطبع روحه الحيواني في التغذّي وقبول الفناء الذي يعبّر عنه بالموت، ليصير مترقّياً كالحيوان، قابلاً لأن ينتقل من هذه الدار إلى دار البقاء، مترقّياً إلى العالَم الأعلى، وينطبع روحه الحيواني بطبع روحه الملكي ليصير مُسبّحا ومقدّسا كالمَلَك، باقياً بعد المفارقة، عارفاً بالله - بخلاف الحيوانات -.
ولكن من اختصاص الروح الحيواني بالتغذّي، أن يجعل الغذاء من جنس المتغذّي ولونه وصفته. ومن اختصاص الروح الإنساني أن يكون متلوّناً بلون الغذاء ومتّصفاً بصفته، وذلك لأنّ غذاء الروح الحيواني الطعام والشراب، وهما من الجماد والنبات، والحيوان المذبوح المطبوخ، وفيها الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة مركوزة بالطبع، والروح الحيواني غالب عليهما ومتصرّف فيهما يجعلهما من جنس المتغذي، وغذاء الروح الإنسان ذِكْر الله وطاعته والشوق إلى جنابه، والمحبّة إلى لقائه، كما قال الله تعالى في أواخر هذه السورة:
{ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وقوله: { { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد:28].
وأمثال ذلك وفيه النور والجذبة الإلهيّة، وهما غالبان عليه، فالروح يتجوهر بجوهرهما وفي تجوهره بتجوهر الروح الربّاني نوع من الفناء عن وجوده والبقاء بنوريته، فهو بمثابة ميّت ذاق الموت ثمّ أحيي بنور ربّه، كما قال تعالى:
{ { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام:122].
وقد انشكف هذا المعنى لبعض الحكماء السابقين كفرفوريوس مُقَدَّم المشّائين - وهو أعظم تلامذة أرسطاطاليس الحكيم - حيث ذهب إلى أنّ النفس الإنسانية ستصير بعد إحكام نور المعرفة عين النور العقلي الذي هو بذاته عقل بالفعل وفاعل للمعقولات التفصيليّة.
وظاهر أنّ النفس ما لم تفن عن نشأتها النفسانيّة لم تتّحد بالعقل الفعّال المنور لما في الدار الآخرة من الصور والماهيّات، فهذا الفضاء الذي استحقّ به الروح الإنساني الإحياء الأخرويّ بنور الله، إنّما استفاده بسبب النفس الحيوانيّة التي هي ذائقة الموت وقابلة الفناء، فافهم واغتنم فإنّه عزيز الجدوى.
الإشراق الثامن
ظهور صور الأعمال والملكات في الآخرة
إنّ قوله تعالى: { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إشارة إلى ظهور صور الأعمال والأخلاق يوم القيامة، فإنّ الناس يحشرون يوم القيامة على صور نيّاتهم، وهيئات ضمائرهم، وأشكال أخلاقهم وصفاتهم الحاصلة من تكرّر الأفاعيل، والمعاملات المؤثرة في القلوب إنارةً وإظلاماً فإنّ الأعمال هنا بمنزلة الحراثة والزراعة وطرح البذور في أراضي القلوب، والنيّات والاعتقادات المستورة فيها بمنزلة البذور، ومدّة الكون في الدنيا كمدّة الشتاء التي تحتجب الأرض فيها عن الشمس عن سمت رؤوس أهلها، فإذا ارتفع النهار واشتدت حرارة الشمس وقت الربيع يظهر ما كمن في باطن الأرض من البذور وتحصل الأزهار والأثمار، وانكشف ما ستر في بواطن الأشجار من الأنواع المختلفة والألوان المتضادّة، فتكون كلّ ثمره مناسباً لحبِّه وبذره ويكون بعضها حلواً وبعضها مُرّاً وبعضها حامضاً، وبعضها ترياقا نافعاً وبعضها سمّاً ناقعاً.
فهكذا يكون الحال يوم قيام الساعة وطلوع شمس الحقيقة من مغربها، وعند ذلك يكون حشر الحقائق:
{ { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف:47]. وبُروزها للحقّ تعالى: { { وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم:48]. وظهور بواطنها وسرائرها: { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق:9]. ويكون الحشر لهم على أنحاء مختلفة فلقوم على سبيل الوفد: { { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم:85]. ولقوم على سبيل الوهن والعذاب: { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } [مريم:86] { { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ } [فصلت:19]. وقوم يساقون على وجوههم كالحيوانات المؤذية.
وبالجملة، كلّ أحد يحشر إلى ما يعمل لأجله ويحبّه، كما يدلّ عليه مثل قوله تعالى:
{ { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء:84]. وقوله: { { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ } [مريم:68]. حتّى أنّه لو أحب أحدكم حَجَراً لحُشر معه - كما ورد في الحديث -، ولا شكّ أنّ المحشور مع الحجر كان من جنس الحجر. وفيه سر غامض.
وبالجملة إنّ أفاعيل الأشقياء المُدْبِرين المتوقّفين بحسب هممهم القاصرة عن الإرتقاء إلى عالم الملكوت في البرازخ الحيوانيّة وما دونها بأعمال يناسبها، فلا جرم تكون تصوّراتهم مقصورة على أغراض شهويّة أو غضبيّة، أو محبّة أجساد جماديّة كالذهب والفضّة والياقوت فيحشرون على صوَر تلك الحيوانات، وما هو أنزل منها في الدار الآخرة كما دلّ عليه قوله تعالى:
{ { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير:5] وقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القِرَدَة والخنازير" .
وربما يتصوّر بعضهم في هذه الدار بصورهم الحقيقيّة الأخرويّة لأهل الكشف والشهود وذلك لغلبة سلطان الآخرة على بواطنهم.
{ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الروم:24]