التفاسير

< >
عرض

جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
٨
-البينة

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
فيه أربع مسائل: ثلاثة مجملة جاء بيانها في القرآن. والرابعة مفصّلة ولها شواهد.
أما الثلاثة المجملة فأولها قوله: { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ }، إذ الجزاء في مقابل شيء يستوجبه، وعند ربهم تشعر بأنه تفضل منه، وإلا لقال: جزاؤهم على ربهم.
وقد بين ذلك صريح قوله تعالى:
{ { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً } [النبأ: 31-36]، فنص على أن هذا الجزاء كله من ربهم عطاء لهم من عنده.
الثانية والثالثة قوله:
{ { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [طه: 76]، فأجمل ما في الجنات، ونص على أنها تجري من تحتها الأنهار، مع إجمال تلك الأنهار، وقد فصلت آية { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } ما أعد لهم في الجنة من حدائق وأعناب وكواعب وشراب وطمأنينة، وعدم سماع اللغو إلى آخره. كما جاء تفصيل الأنهار في سورة القتال، في قوله تعالى: { { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [محمد: 15]، والخلود في هذا النعيم هو تمام النعيم.
قوله تعالى: { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }.
يعتبر هذا الإخبار من حيث رضوان الله تعالى على العباد في الجنة، من باب العام بعد الخاص.
وقد تقدم في وسورة الليل في قوله تعالى:
{ { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } [الليل: 17-18] - إلى قوله - { { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } [الليل: 21]، واتفقوا على أنها في الصديق رضي الله عنه كما تقدم، وجاء في التي بعدها سورة والضحى قوله تعالى: { { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 5]، أي للرسول صلى الله عليه وسلم.
وهنا في عموم
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [البينة: 7]، فهي عامة في جميع المؤمنين الذين هذه صفاتهم، ثم قال رضي الله عنهم، وقد جاء ما بين سبب رضوان الله تعالى عليهم وهو بسبب أعمالهم، كما في قوله تعالى: { { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } [الفتح: 18]، فكانت المبايعة سبباً للرضوان.
وفي هذه الآية الإخبار بأن الله رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولم يبين زمن هذا الرضوان أهو سابق في الدنيا أم حاصل في الجنة، وقد جاءت آية تبين أنه سابق في الدنيا، وهي قوله تعالى:
{ { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [التوبة: 100]، فقوله تعالى: { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }، ثم يأتي بعدها { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ }.
فهو في قوة الوعد في المستقبل، فيكون الإخبار بالرضى مسبقاً عليه.
وكذلك آية سورة الفتح في البيعة تحت الشجرة إذ فيها
{ { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الفتح: 18]، وهو إخبار بصيغة الماضي، وقد سميت "بيعة الرضوان".
تنبيه
في هذا الأسلوب الكريم سؤال، وهو أن العبد حقاً في حاجة إلى أن يعلم رضوان الله تعالى عليه، لأنه غاية أمانيه، كما قال تعالى:
{ { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [التوبة: 100].
أما الإخبار عن رضى العبد عن الله، فهل من حق العبد أن يسأل عما إذا كان هو راضياً عن الله أم لا؟ إنه ليس من حقه ذلك فعلاً، فيكون الإخبار عن ذلك بلازم الفائدة، وهي أنهم في غاية من السعادة والرضى فيما هم فيه من النعيم إلى الحد الذي رضوا وتجاوزوا رضاهم حد النعيم إلى الرضى عن المنعم.
كما يشير إلى شيء من ذلك آخر آية النبأ
{ { عَطَآءً حِسَاباً } [النبأ: 36]، إنهم يعطون حتى يقولوا: حسبنا حسبنا، أي كافينا.
قوله تعالى: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }.
اسم الإشارة منصب على مجموع الجزاء المتقدم، وقد تقدم أنه للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهنا يقول: إنه لمن خشي ربه، مما يفيد أن تلك الأعمال تصدر منهم عن رغبة ورهبة.
رغبة فيما عند الله، ورهبة من الله، ومثله قوله تعالى:
{ { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46]، وقوله: { { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 40- 41].
والواقع أن صفة الخوف من الله تعالى، هي أجمع صفات الخير في الإنسان، لأنها صفة الملائكة المقربين.
كما قال تعالى عنهم:
{ { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50].
وقد عم الحكم في ذلك بقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك: 12].
وفي هذه الآية السر الأعظم، وهو كون الخشية في الغيبة عن الناس، وهذا أعلى مراتب المراقبة لله، والخشية أشد الخوف.