التفاسير

< >
عرض

فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
٨٨
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَمَا لَكُمْ فِى المُنَافِقِينَ فِئَتَيِنِ }: ما مبتدأ للاستفهام التوبيخى، ولكم خبره، وفى المنافقين متعلق بفئتين على حذف مضاف، أى فى أمر المنافقين، وانما جاز التعليق بفئتين مع أنه ليس وصفا ولا مصدرا، لأنه فى تأويل الوصف، اذ معناه متفرقين بصيغة الجمع، وفئتين حال لهذا التأويل، تأويل الوصف، وصاحبها الضمير المنتقل من قولك: كائن أو مستقر أو نحوهما، المخبر به الى قوله: لكم، فاستتر فيه فعاملها لكم لنيابته عن نحو كائن أو استقر، وقيل: لا تقل فى أمر المنافقين فئتين حال من المستتر فى مختلفين أو متفرقين، أمرهم الله أن لا يختلفوا، بل يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتفقوا على كلمة واحدة، وأخبرهم الله تعالى أن المنافقين كفار.
كما قال:
{ ودوا لو تكفرون كما كفروا } وذلك أن أناساً منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخروج الى البدو لكراهة هواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون فى اسلامهم وكفرهم:
فقال بعض: هم مسلمون، وقال بعض: مشركون، فنزلت الآية.
وقيل: رجلان من قريش تكلما بالاسلام ولم يهاجرا، وهما من أهل مكة، لقيهما قوم من الصحابة وقد أقبلا الى مكة، فأحل بعض دماءهما وأموالهما، وحرمهما آخرون، فنزلت الآية.
وقيل: نزلت فى قوم من قريش هاجروا من مكة، ثم بدا لهم يتجرون بها، فاختلفوا فيهم فنزلت.
وقيل: نزلت فى قوم من قريش هاجروا من مكة، ثم بدا لهم فرجعوا، وكتبوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا على دينك وما خرجنا الا لاجتواء المدينة والاشتياق الى بلدنا، والاجتواء عدم موافقة هواء بلد لطبع من نزل به أو مر به.
وفى رواية: أن هؤلاء القوم قدموا المدينة تجارا وأسلموا، ثم ندموا على الاسلام، فخرجوا كهيئة المنتزهين، وأنهم لما بعدوا كتبوا ما ذكر اليه صلى الله عليه وسلم، ثم انهم خرجوا فى تجارة الى الشام، فبلغ ذلك المسلمين، فقال بعضهم: ندركهم ونقتلهم ونأخذ مالهم لرغبتهم عن ديننا، وقال بعضهم: كيف نفعل ذلك، وقد أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت يسمعهم فنزلت.
وقال زيد بن ثابت: نزلت فى عبد الله بن أبى ومن رجع عن قتال أحد، فقال بعض المسلمين: نقتلهم، وقال بعض: لا بل نعفوا لأنهم تكلموا كلمة الحق.
وقيل: نزلت فيه ومن معه فى حديث الإفك.
وعلى القولين: المراد بالهجرة هجرة السوء. وقيل: نزلت فى العرنيين الذين أغاروا على السرح، وقتلوا.
وقيل: فى قوم أظهروا الاسلام بمكة ولم يهاجروا وظاهروا المشركين، ونسب هذا لابن عباس بأبسط من هذا قال: هم قوم كانوا بمكة، أظهروا الايمان لأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى كتاب بعثوا به الى المدينة، ثم خرجوا به مسافرين الى الشام، وأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم: أنتم لا تخافون أصحاب محمد لأنكم تخدعونهم باظهار الايمان، فاتصل خبرهم بالمدينة، فاختلف المؤمنون فقالت طائفة: نخرج اليهم نقتلهم، وطائفة قالوا: أسلموا فلا سبيل لنا اليهم، ومثله عن مجاهد، وذكر الهجرة بعد بدل على هذا ونحوه.
{ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا }: ردهم الى حكم الكفرة من الذل والسبى والقتل، والاركاس الرد والرجع، ومنه الركس للرجيع، ومنه تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم الروثة التى جىء بها اليه يستجمر بها ركسا كما فى صحيح الربيع، قال أمية بن أبى الصلت:

فأركسوا فى جحيم النار أنهم كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا

وقيل المعنى: ردهم الى النار بعد ما كان ظاهرهم الانصراف عنها بالاسلام.
قال ابن العربى: الاركاس الرد الى حالة مكروهة، كما قال فى الروثة انها ركست أى رجعت الى حالة مكروهة.
وقال الراغب: الركس رد الشىء أوله على آخره، وقلبه على رأسه، وذلك كله كسبوه أو بكسبهم، وذلك أعمالهم الخبيثة وما أظهروا من الارتداد، وذلك أن الذنب يورث الذنب، والذنوب وقرىء ركسهم، لأنه يقال أركسه وركسه، والمعنى واحد ثلاثيا كان أو رباعيا.
{ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَ اللهُ }: أن توفقوا وتعصموا من خذل الله، والاستفهام للانكار، والخطاب للمؤمنين الذين يدافعون عن المنافقين بقولهم: انهم آمنوا لا يقتلون ولا يسبون.
{ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ }: عن الهدى.
{ فَلَن تَجِدَ لَهُ } يا محمد { سَبِيلاً } الى الهدى.