التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
-الجمعة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث عشرة مسألة:

الأولى ـ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } قرأ عبد الله بن الزبير والأعمش وغيرهما «الجُمْعة» بإسكان الميم على التخفيف. وهما لغتان. وجمعهما جُمَع وجُمُعات. قال الفرّاء: يقال الْجُمعة (بسكون الميم) والجُمُعة (بضم الميم) والجُمَعة (بفتح الميم) فيكون صفة اليوم؛ أي تجمع الناس. كما يقال: ضُحَكة للذي يضحك. وقال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرءوها جُمُعه، يعني بضم الميم. وقال الفراء وأبو عبيد: والتخفيف أقْيَس وأحسن؛ نحو غُرْفة وغُرَف، وطُرْفة وطُرَف، وحُجرْة وحُجَر. وفتحُ الميم لغة بني عقيل. وقيل: إنها لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعن سَلْمان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سُمّيت جمعة لأن الله جمع فيها من خلق آدم" . وقيل: لأن الله تعالى فرغ فيها خلق كل شيء فاجتمعت فيها المخلوقات. وقيل: لتجتمع الجماعات فيها. وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة. و «مِن» بمعنى «في»؛ أي في يوم؛ كقوله تعالى: { { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } [الأحقاف:4] أي في الأرض.

الثانية ـ: قال أبو سلمة: أول من قال: «أما بعد» كعب بن لُؤَيّ، وكان أوّل من سَمَّى الجمعة جمعة. وكان يقال ليوم الجمعة: العَرُوبة. وقيل: أول من سماها جمعة الأنصارُ. قال ابن سيرين: جمع أهل المدينة مِن قبل أن يَقْدَم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة؛ وهم الذين سموها الجمعة؛ وذلك أنهم قالوا: إن لليهود يوماً يجتمعون فيه، في كل سبعة أيام يوم وهو السبت. وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوماً لنا نذكر الله ونصلي فيه ونستذكر ـ أو كما قالوا ـ فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى؛ فاجعلوه يوم العَرُوبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زُرَارة (أبو أمامة رضي الله عنه) فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم، فسمّوْهُ يوم الجمعة حين اجتمعوا. فذبح لهم أسعد شاةً فتعشَّوْا وتغدّوْا منها لقلتهم. فهذه أوّل جمعة في الإسلام.

قلت: وروى أنهم كانوا اثني عشر رجلا على ما يأتي. وجاء في هذه الرواية: أن الذي جَمّع بهم وصلّى أسعد بن زُرَارة، وكذا في حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب على ما يأتي. وقال البَيْهَقِيّ: وروينا عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزُّهْرِيّ أن مُصْعَب ابن عمير كان أولَ من جَمّع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يَقْدَمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: يحتمل أن يكون مصعب جَمع بهم بمعونة أسعد بن زُرَارة فأضافه كعب إليه. والله أعلم.

وأما أوّل جمعة جمَّعها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه؛ فقال أهل السير والتواريخ: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً حتى نزل بقُبَاء، على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لأثنتي عشرة ليلةٍ خلت من شهر ربيع الأوّل حين اشتّد الضُّحَى. ومن تلك السنة يُعَدّ التاريخ. فأقام بقُبَاء إلى يوم الخميس وأسَّس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة؛ فأدركته الجمعة في بني سالم بن عَوْف في بطن وادٍ لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً؛ فجمّع بهم وخَطَب. وهي أوّل خُطْبة خطبها بالمدينة، وقال فيها: "الحمدُ لله. أحْمَده وأستعينه، وأستغفره وأَستهديه، وأُومن به ولا أكفُره، وأُعادي من يكفُر به. وأشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهُدَى ودِين الحق، والنور والموعظة والحكمة على فَتْرة من الرُّسل، وقلّة من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاع من الزمان ودُنُوٍّ من الساعة، وقُرْب من الأجل. من يُطِع الله ورسولَه فقد رَشَد. ومن يَعْصِ الله ورسوله فقد غَوَى وفرّط وضلّ ضلالاً بعيداً. أُوصِيكم بتَقْوى الله، فإنه خير ما أوصَى به المسلمُ المسلمَ أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله. واحذَروا ما حذّركم الله من نفسه؛ فإن تقوى الله لمن عَمل به على وَجَلٍ ومخافةٍ من ربه عَوْنُ صدقٍ على ما تبغُون من (أمر) الآخرة. ومن يُصْلِح الذي بينه وبين ربّه من أمره في السِّر والعَلاَنِية، لا ينوِي به إلا وَجْهَ الله يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذُخْراً فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قَدّم. وما كان مما سوى ذلك يَوَدّ لو أن بينه وبينه أمداً بعيداً. { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفُ بِٱلْعِبَادِ }. هو الذي صَدق قولَه، وأنجز وعده، لا خُلْف لذلك؛ فإنه يقول تعالى: { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }. فٱتقوا الله في عاجل أمركم وآجِله في السرّ والعلانية؛ فإنه { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً }. ومن يَتَّقِ الله فقد فاز فوزاً عظيماً. وإنّ تقوى الله توقّي مَقْتَه وتُوَقِّي عقوبتَه وتُوَقِّى سَخَطه. وإن تقوى الله تبيّض الوجوهَ، وتُرْضِى الربّ، وترفع الدرجة. فخُذوا بحظّكم ولا تفرِّطوا في جَنْب الله، فقد علَّمكم كتابَه، ونَهَج لكم سبيلَه؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده؛ هو اجتباكم وسمَّاكم المسلمين. لِيَهْلِك من هَلَك عن بيِّنة، ويحيا من حىّ عن بينة. ولا حول ولا قوّة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله تعالى، واعمَلوا لما بعد الموت؛ فإنه من يُصلح ما بينه وبين الله يَكْفِه الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضِي على الناس ولا يَقْضُون عليه، ويملِك من الناس ولا يملِكون منه. الله أكبر، ولا حَوْل ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم" . وأوّل جمعة جُمِّعت بعدها جمعة بقرية يقال لها: «جُوَاثى» من قُرَى الْبَحْرَين. وقيل: إن أوّل من سماها الجمعة كعب بن لؤيّ بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب؛ كما تقدم. والله أعلم.

الثالثة ـ: خاطب الله المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } ثم خصه بالنداء، وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: { { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ } [المائدة:58] ليدل على وجوبه وتأكيد فرضه. وقال بعض العلماء: كون الصلاة الجمعة ها هنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ. قال ابن العربيّ: وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة وهي قوله: { مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } وذلك يفيده؛ لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة. فأما غيرها فهو عام في سائر الأيام. ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنىً ولا فائدة.

الرابعة ـ: فقد تقدّم حكم الأذان في سورة «المائدة» مستوفىً. وقد كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سائر الصلوت؛ يؤذّن واحد إذا جلس النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر. وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعليّ بالكوفة. ثم زاد عثمان على المنبر أذاناً ثالثاً على داره التي تسمى «الزَّوْراء» حين كثر الناس بالمدينة. فإذا سمعوا أقبلوا؛ حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذّن مؤذن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يخطب عثمان. خرّجه ابن ماجه في سُنَنه من حديث محمد بن إسحاق عن الزُّهري عن السائب بن يزيد قال: ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد؛ إذا خرج أذّن وإذا نزل أقام. وأبو بكر وعمر كذلك. فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على دارٍ في السوق يقال لها «الزوراء»؛ فإذا خرج أذّن وإذا نزل أقام. خرّجه البخاري من طرق بمعناه. وفي بعضها: أن الأذان الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام. وقال الماوَرْديّ: فأما الأذان الأول فمحدَث، فعله عثمان بن عَفّان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها. وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن يؤذّن في السوق قِبَل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم، فإذا اجتمعوا أذّن في المسجد، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد. قاله ابن العربي. وفي الحديث الصحيح: أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً، فلما كان زمن عثمان زاد الأذان الثالث على الزوراء، وسمّاه في الحديث ثالثاً لأنه أضافه إلى الإقامة. كما قال عليه الصلاة والسلام: "بين كل أذانين صلاة لمن شاء" يعني الأذان والإقامة. ويتوهّم الناس أنه أذان أصْلِيّ فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وَهَماً، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وَهمَاً على وَهَم. ورأيتهم يؤذِّنون بمدينة السلام بعد أذان المنار بين يدي الإمام تحت المنبر في جماعة، كما كانوا يفعلون عندنا في الدُّوَل الماضية. وكل ذلك مُحْدَث.

الخامسة ـ: قوله تعالى { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } اختلف في معنى السَّعْي ها هنا على ثلاثة أقوال: أوّلها ـ القَصد. قال الحسن: والله ما هو بسَعْيٍ على الأقدام ولكنه سَعْيٌ بالقلوب والنيّة. الثاني ـ أنه العمل، كقوله تعالى: { { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء:19]، وقوله: { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [الليل:4]، وقولِه: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم:39]. وهذا قول الجمهور. وقال زهير:

سَعَى بعـدهم قـومٌ لِكَيْ يدركـوهمُ

وقال أيضاً:

سَعَى ساعِياً غَيْظِ بن مُرّة بعدماتَبَزَّلَ ما بين العَشِيرة بِالدّمِ

أي فاعملوا على المضي إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والتطهير والتّوجه إليه. الثالث ـ أن المراد به السَّعْي على الأقدام. وذلك فضلٌ وليس بشرط. ففي البخارِيّ: أن أبا عَبْس بن جَبْر ـ واسمه عبد الرحمن وكان من كبار الصحابة ـ مشى إلى الجمعة راجلاً وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغْبَرَّتْ قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار" . ويحتمل ظاهره رابعاً ـ وهو الجري والاشتداد. قال ابن العربي: وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون. وقرأها عمر «فامضوا إلى ذِكرِ الله» فراراً عن طريق الجَرْي والاشتداد الذي يدلّ على الظاهر. وقرأ ابن مسعود كذلك وقال: لو قرأت «فاسْعَوْا» لسعيتُ حتى يسقط ردائي. وقرأ ابن شهاب: «فامضُوا إلى ذكر الله سالكاً تلك السبيل». وهو كله تفسير منهم؛ لا قراءة قرآن منزل. وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير. قال أبو بكر الأنباري: وقد احتجّ من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود، وأن خَرَشة بن الحُرّ قال: رآني عمر رضي الله عنه ومعي قطعة فيها { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } فقال لي عمر: من أقرأك هذا؟ قلت أُبَيّ. فقال: إن أبَيّاً أقرؤنا للمنسوخ. ثم قرأ عمر «فامضُوا إلى ذِكرِ الله». حدّثنا إدريس قال حدّثنا خَلَف قال حدّثنا هُشيم عن المُغيرة عن إبراهيم عن خَرَشة؛ فذكره. وحدّثنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد وهو ابن سَعدان قال حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة عن الزُّهْري عن سالم عن أبيه قال: ما سمعت عمر يقرأ قطُّ إلا «فامضُوا إلى ذكر الله». وأخبرنا إدريس قال حدّثنا خلف قال حدّثنا هشيم عن المُغيرة عن إبراهيم أن عبد الله بن مسعود قرأ «فامضُوا إلى ذكر الله» وقال: لو كانت «فاسْعَوْا» لسعيت حتى يسقط ردائي. قال أبو بكر: فاحتج عليه بأن الأمة أجمعت على «فَاسْعَوْا» برواية ذلك عن الله ربّ العالمين ورسوله صلى الله عليه وسلم. فأما عبد الله ابن مسعود فما صحّ عنه «فَامْضُوا» لأن السَّنَد غير متصل؛ إذ إبراهيم النَّخَعيّ لم يسمع عن عبد الله بن مسعود شيئاً، وإنما ورد «فامضوا» عن عمر رضي الله عنه. فإذا انفرد أحدٌ بما يخالف الآية والجماعة كان ذلك نسياناً منه. والعرب مُجْمِعة على أن السعي يأتي بمعنى المُضِيّ؛ غير أنه لا يخلو من الجِدّ والانكماش. قال زهير:

سَعَى ساعيا غيْظِ بن مُرّة بعدماتَبَزّلَ ما بين العَشِيرةِ بالدَّمِ

أراد بالسّعْي المضيَّ بِجِدٍّ وانكماش، ولم يُقصد للعَدْوِ والإسراع في الخَطْو. وقال الفرّاء وأبو عبيدة: معنى السعي في الآية المضيّ. واحتج الفرّاء بقولهم: هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله؛ معناه هو يمضي بجد واجتهاد. واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر:

أسْعَى على جُلّ بني مالِكٍكلّ امرِىءٍ في شأنه ساعِي

فهل يحتمل السعي في هذا البيت إلا مذهب المضي بالإنكماش؛ ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود على فصاحته وإتقان عربيّته.

قلت: ومما يدل على أنه ليس المراد ها هنا العَدو: قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعَون ولكن ائتوها وعليكم السكينة" . قال الحسن: أما والله ما هو بالسّعي على الأقدام، ولقد نُهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار؛ ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك. وهذا حسن، فإنه جمع الأقوال الثلاثة. وقد جاء في الاغتسال للجمعة والتطيّب والتزيّن باللباس أحاديث مذكورة في كتب الحديث.

السادسة ـ: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } خطاب للمكلفين بإجماع. ويخرج منه المَرْضَى والزَّمْنَى والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة. روى أبو الزبير " عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلَهْوٍ أو تجارةٍ استغنى الله عنه والله غنيٌّ حميد" خرّجه الدَّارَقُطْني وقال علماؤنا رحمهم الله: ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه منه الإتيان إليها؛ مثل المرض الحابس، أو خوف الزيادة في المرض، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوَحَل عذر إن لم ينقطع. ولم يره مالكٌ عذراً له؛ حكاه المهدوِيّ. ولو تخلّف عنها متخلف على وَلِيّ حَمِيم له قد حضرته الوفاة، ولم يكن عنده من يقوم بأمره رَجَا أن يكون في سَعَة. وقد فعل ذلك ابن عمر. ومن تخلف عنها لغير عذر فصلّى قبل الإمام أعاد، ولا يجزيه أن يصلّي قبله. وهو في تخلفه عنها مع إمكانه لذلك عاصٍ لله بفعله.

السابعة ـ: قوله تعالى: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ } يختص بوجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء، فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب. واختلف فيمن يأتي الجمعة من الدّاني والقاصي، فقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس: تجب الجمعة على من في المِصْر على ستة أميال. وقال ربيعة: أربعة أميال. وقال مالك والليث: ثلاثة أميال. وقال الشافعي: اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صَيِّتاً، والأصوات هادئة، والريح ساكنة وموقف المؤذن عند سُور البلد. وفي الصحيح عن عائشة: أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العَوَالي فيأتون في الغُبَار ويصيبهم الغُبار فتخرج منهم الريح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو اغتسلتم ليومكم هذا" قال علماؤنا: والصَّوْت إذا كان منيعاً والناس في هدوء وسكون فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال. والعَوَالي من المدينة أقربها على ثلاثة أميال. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: تجب الجمعة على من سمع النداء. وروى الدَّارَقُطْنيّ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الجمعة على من سمع النداء" . وقال أبو حنيفة وأصحابه: تجب على مَن في المصْر، سَمِع النداء أو لم يسمعه، ولا تجب على من هو خارج المصر وإن سمع النداء. حتى سئل: وهل تجب الجمعة على أهل زبارة ـ بينها وبين الكوفة مجرى نهر ـ؟ فقال لا. وروي عن ربيعة أيضاً: أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة. وقد روي عن الزُّهْرِي: أنها تجب عليه إذا سمع الأذان.

الثامنة ـ: قوله تعالى: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } دليل على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت، بدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا حضرت الصلاة فأذِّنا ثم أقِيما ولْيَؤُمّكما أكبركما" قاله لمالك بن الحُوَيْرِث وصاحبِه. وفي البخاري عن أنس بن مالك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. وقد روي عن أبي الصِّديق وأحمد بن حنبل أنها تُصَلّى قبل الزوال. وتمسّك أحمد في ذلك بحديث سَلَمة بن الأكْوَع: كنا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف وليس للحيطان ظِلّ. وبحديث ابن عمر: ما كنا نَقِيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة. ومثلُه عن سَهْل. خرّجه مسلم. وحديث سَلَمة محمول على التبكير. رواه هشام بن عبد الملك عن يَعْلَى بن الحارث عن إياس بن سلمة بن الأكْوَع عن أبيه. وروى وَكِيع عن يَعْلَى عن إياس عن ابيه قال: كنا نُجَمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفَيْء. وهذا مذهب الجمهور من الخَلَف والسَّلَف، وقياساً على صلاة الظهر. وحديث ابن عمر وسَهْلٍ، دليلٌ على أنهم كانو يبكِّرون إلى الجمعة تبكيراً كثيراً عند الغداة أو قبلها، فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة. وقد رأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. وتأوّل: قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بَدَنَة..." الحديث بكماله. إنه كان في ساعة واحدة. وحَمَله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتي عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادة النهار ونقصانه. ابن العربيّ: وهو أصحّ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ما كانوا يَقِيلون ولا يتغدّون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها.

التاسعة ـ: فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم؛ ردَّا على من يقول: إنها فرض على الكفاية؛ ونقل عن بعض الشافعية. ونقل عن مالك من لم يُحَقّق: أنها سنة. وجمهور الأمة والأئمة أنها فرض على الأعيان؛ لقول الله تعالى: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ }. وثبت: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَيَنْتَهِيَنّ أقوام عن وَدْعِهم الجُمُعات أو لَيَخْتِمنّ الله على قلوبهم ثم ليكونُنّ من الغافلين" . وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها. وفي سُنن ابن ماجه عن أبي الجَعْد الضَّمْرِيّ ـ وكانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه" . إسناده صحيح. وحديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة طَبَع الله على قلبه" . ابن العربي: وثبت: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرَّواح إلى الجمعة واجبٌ على كل مسلم" .

العاشرة ـ: أوجب الله السَّعْي إلى الجمعة مطلقاً من غير شَرْط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات؛ لقوله عز وجل: { { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } [المائدة:6] الآية. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" . وأغْرَبت طائفة فقالت: إن غسل الجمعة فرض. ابن العربيّ: وهذا باطل؛ لما روى النسائي وأبو داود في سننهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ يوم الجمعة فبِها ونِعْمَتْ. ومن اغتسل فالغسل أفضل" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم راح إلى الجمعة فاستمع وأنصت غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ومن مَسّ الحَصَى فقد لَغَا" وهذا نَصٌ. وفي الموطأ: أن رجلاً دخل يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب... ـ الحديث إلى أن قال: ـ ما زدتُ على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا؟ وقد علمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. فأمر عمر بالغسل ولم يأمره بالرجوع، فدّل على أنه محمول على الاستحباب. فلم يمكن وقد تلبّس بالفرض ـ وهو الحضور والإنصات للخطبة ـ أن يرجع عنه إلى السُّنة، وذلك بمحضر فحول الصحابة وكبار المهاجرين حوالي عمر، وفي مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم.

الحادية عشرة ـ: لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد، خلافاً لأحمد بن حَنْبل فإنه قال: إذا اجتمع عِيدٌ وجمعة سقط فرض الجمعة؛ لتقدّم العيد عليها واشتغال الناس به عنها. وتعلّق في ذلك بما روي أن عثمان أذِن في يوم عِيد لأهل العَوَالي أن يتخلّفوا عن الجمعة. وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه. والأمر بالسَّعْي متوجّه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وفي صحيح مسلم عن النُّعمان بن بَشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بـ { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } و { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ } قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

الثانية عشرة ـ: قوله تعالى: { إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي الصلاة. وقيل الخطبة والمواعظ؛ قاله سعيد بن جُبير. ابن العربيّ: والصحيح أنه واجب في الجميع؛ وأوّله الخطبة. وبه قال علماؤنا؛ إلا عبد الملك بن الماجِشُون فإنه رآها سُنّة. والدليل على وجوبها أنها تُحَرِّم البيع ولولا وجوبها ما حَرّمته؛ لأن المستحب لا يُحَرِّم المباح. وإذا قلنا: إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة. والعبد يكون ذاكراً لله بفعله كما يكون مُسَبِّحاً لله بفعله. الزَّمَخْشَرِيّ: فإن قلت: كيف يفسَّر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك! قلت: ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله. فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك؛ فهو من ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل.

الثالثة عشرة ـ: قوله تعالى: { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة، وحرّمه في وقتها على من كان مخاطَباً بفرضها. والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله تعالى: { { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [النحل:81]. وخصّ البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. ومن لا يجب عليه حضور الجمعة فلا يُنهى عن البيع والشّراء.

وفي وقت التحريم قولان: إنه من بعد الزوال إلى الفراغ منها، قاله الضحاك والحسن وعطاء. الثاني ـ من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة، قاله الشافعي. ومذهب مالك أن يترك البيع إذا نُودِيَ للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك من البيع في ذلك الوقت. ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره، إذ ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع. قالوا: وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ. ابن العربيّ: والصحيح فسخ الجميع، لأن البيع إنما مُنع منه للاشتغال به. فكل أمرٍ يَشْغَل عن الجمعة من العقود كلّها فهو حرام شرعاً مفسوخ رَدْعاً. المهدوِيّ: ورأى بعض العلماء البيعَ في الوقت المذكور جائزاً، وتأوّل النّهْي عنه ندباً، واستدل بقوله تعالى: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ }.

قلت: ـ وهذ مذهب الشافعي؛ فإن البيع ينعقد عنده ولا يفسخ. وقال الزَّمَخْشَرِيّ في تفسيره: إن عامة العلماء على أن ذلك لا يؤدّي فساد البيع. قالوا: لأن البيع لم يَحْرُم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب؛ فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب. وعن بعض الناس أنه فاسد.

قلت: والصحيح فساده وفسخه: لقوله عليه الصلاة والسلام: "كلُّ عملٍ ليس عليه أمْرُنَا فهو رَدّ" . أي مردود. والله أعلم.