التفاسير

< >
عرض

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
٩
-النجم

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (9) فَكَانَ قابَ قَوْسَيْنِ } قدرهما القمّي قال كان من الله كما بين مقبض القوس إلى رأس السية.
أقولُ: ويأتي بيان ذلك وتأويله { أَوْ أَدْنَى } قال بل ادنى من ذلك.
وعن الصادق عليه السلام اوّل من سبق الى بلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وذلك انّه اقرب الخلق الى الله وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لمّا اسري به الى السماء تقدّم يا محمد فقد وطأت موطأ لم يطأه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولولا انّ روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر ان يبلغه وكان من الله عزّ جلّ كما قال قاب قوسين أو ادنى أي بَلْ أَدْنى.
وفي العلل عن السجّاد عليه السلام انّه سئل عن الله عزّ وجلّ هل يوصف بمكان فقال تعالى الله عن ذلك قيل فلم اسري بنبيّه محمد صلّى الله عليه وآله الى السماء قال ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدايع خلقه قيل فقول الله عزّ وجلّ ثمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو ادنى قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله دنا من حجب النّور فرأى ملكوت السماوات ثم تدلّى فنظر من تحته الى ملكوت الأرض حتّى ظنّ انّه في القرب من الأرض كقاب قوسين او ادنى.
وعنه عليه السلام فلمّا اسري بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وكان من ربّه كقاب قوسين او ادنى رفع له حجاب من حجبه.
وفي الامالي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله قال لمّا عرج بي الى السماء ودنوت من ربّي عزّ وجلّ حتّى كان بيني وبينه قاب قوسين او ادنى فقال لي يا محمّد من تحبّ من الخلق قلت يا ربّ عليّاً قال فالتفت يا محمّد فالتفت عن يساري فاذا عليّ بن ابي طالب.
وفي الاحتجاج عن السجاد عليه السلام قال انا ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى فكان من ربّه قاب قوسين او ادنى.
وعن الكاظم عليه السلام انّه سئل عن قوله دنا فتدلّى فقال انّ هذه لغة في قريش اذا اراد الرجل منهم ان يقول قد سمعت يقول قد تدلّيت وانّما التدلّي الفهم.
وعن امير المؤمنين عليه السلام انّه اسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى مسيرة شهر وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين الف عام في اقلّ من ثلث ليلة حتى انتهى الى ساق العرش فدنا بالعلم فتدلّى فدنى له من الجنّة رفرف اخضر وغشي النّور بصره فرأى عظمة ربّه عزّ وجلّ بفؤاده ولم يرها بعينه فكان كقاب قوسين بينها وبينه او ادنى.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام انّه سئل كم عرج برسول الله صلّى الله عليه وآله فقال مرّتين فأوقفه جبرئيل موقفاً فقال له مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفاً ما وقفه ملك قطّ ولا نبيّ انّ ربّك يصلّي فقال يا جبرئيل وكيف يصلّي قال يقول سبّوح قدّوس انا ربّ الملائكة والروح سبقت رحمتي غضبي فقال اللّهم عفوك عفوك قال وكان كما قال الله قاب قوسين او أدنى قيل ما قاب قوسين او ادنى قال ما بين سيتها الى رأسها قال فكان بينهما حجاب يتلألأ يخفق ولا اعلمه الاّ وقد قال زبرجد فنظر في مثل سمّ الابرة الى ما شاء الله من نور العظمة فقال الله تعالى يا محمد قال لبيّك ربّي قال من لامّتك من بعدك قال الله اعلم قال عليّ بن ابي طالب امير المؤمنين وسيّد المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين ثم قال الصادق عليه السلام والله ما جاءت ولاية عليّ من الأرض ولكن جاءت من السماء مشافهة.
أقولُ: لا تنافي بين هذه الروايات وكلّها صدر من معدن العلم على مقادير افهام المخاطبين وسية القوس بكسر المهملة قبل المثنّاه التحتانية المخفّفة ما عطف من طرفيها وهو تمثيل للمقدار المعنوي الرّوحاني بالمقدار الصوري الجسماني والقرب المكانتي بالدنوّ المكاني تعالى الله عمّا يقول المشبّهون علوّاً كبيراً فسّر الإِمام مقدار القوسين بمقدار طرفي القوس الواحد المنعطفين كأنّه جعل كلاًّ منهما قوساً على حدة فيكون مقدار مجموع القوسين مقدار قوس واحد وهي المسمّاة بقوس الحلقة وهي قبل ان يهيّأ للرمي فانّها حينئذ تكون شبه دائرة والدائرة تنقسم بما يسمّى بالقوس وفي التعبير عن هذا المعنى بمثل هذه العبارة اشارة لطيفة الى انّ السائر بهذا السّير منه سبحانه نزل واليه صعد وانّ الحركة الصعودية كانت انعطافيّة وانّها لم تقع على نفس المسافة النزولية بل على مسافة اخرى كما حقّق في محلّه فسيره كان من الله والى الله وفي الله وبالله ومع الله تبارك الله عزّ وجلّ والحجاب الذي كان بينهما هو حجاب البشرّية وانّما يتلألأ لانغماسه في نور الربّ تعالى بخفق اي باضطراب وتحرّك وذلك لما كاد ان يفنى عن نفسه بالكلية في نور الانوار بغلبة سطوات الجلال وبانجذابه بشراشره الى جناب القدس المتعال وهذا هو المعني بالتدلّي المعنوي ووصف الحجاب بالزّبرجد كناية عن خضرته وذلك لأنّ النور الالهي الذي يشبه بلون البياض في التمثيل كان قد شابته ظلمة بشرية فصار تُيَرا اي كأنّه اخضر على لون الزّبرجد وانّما سأله الله عزّ وجلّ عن خليفته لأنّه كان قد اهمه امر الامامة وكان في قلبه ان يخلّف فيهم خليفته اذا ارتحل عنهم وقد علم الله ذلك منه ولذلك سأله عنه ولمّا كان الخليفة متعيّناً عند الله وعند رسوله قال الله ما قال ووصفه بأوصاف لم يكن لغيره ان ينال وفي هذا الحديث اسرار غامضة لا ينال اليها ايدي افهامنا الخافضة فكلّما جهدنا في ابدائها زدنا في اخفائها ولا سيّما في معنى صلاة الله سبحانه وطلب العفو من نبيّه في مقابله ومع ذلك فقد اشرنا الى لمحة من ذلك في كتابنا المسمّى بالوافي في شرح هذا الحديث ومن الله الاعانة على فهم اسراره.