اختلف أهل العلم بكلام العرب في رافع «المثل»، فقال بعض نحويّ الكُوفيين الرافع للمثل قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتها الأنْهارُ} فـي المعنى، وقال: هو كما تقول حِلْـية فلان أسْمَرُ كذا وكذا، فليس الأسمر بمرفوع بالحلية، إنما هو ابتداء أي هو أسمر هو كذا. قال: ولو دخل أنّ في مثل هذا كان صواباً. قال: ومثله في الكلام مثَلك أنك كذا وأنك كذا. وقوله:
{ فَلْـيَنْظُرِ الإنْسانُ إلـى طَعامِهِ أنَّا } مَنْ وجَّهَ: {مَثَلُ الـجَنَّةِ الَّتِـي وُعِدَ الـمُتَّقُونَ فِـيهَا} ومن قال: { أَنَّا صَبَبْنا الـمَاءَ } أظهر الاسم، لأنه مردود علـى الطعام بـالـخفض، ومستأنف، أي: طعامه أنا صببنا ثم فعلنا. وقال: معنى قوله: {مَثَلُ الـجَنَّةِ}: صفـات الـجنة. وقال بعض نـحويّـي البصريـين: معنى ذلك: صفة الـجنة، قال: ومنه قول الله تعالـى: وَلَهُ الـمَثَلُ الأعْلَـى معناه: ولله الصفة العُلـيا. قال: فمعنى الكلام فـي قوله: {مَثَلُ الـجَنَّةِ التـي وُعِدَ الـمُتَّقُونَ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ} أو فـيها أنهار، كأنه قال: وَصْف الـجنة صفة تـجري من تـحتها الأنهار، أو صفة فـيها أنهار والله أعلـم. قال: ووجه آخر كأنه إذا قـيـل: مثل الـجنة قـيـل: الـجنة التـي وعد الـمتقون. قال: وكذلك قوله: { { وَإنَّهُ بسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيـمِ } } كأنه قال: بـالله الرحمن الرحيـم، والله أعلـم. قال: وقوله: { عَلـى ما فَرَّطْتُ فِـي جَنْبِ اللّهِ } فـي ذات الله، كأنه عندنا قـيـل: فـي الله. قال: وكذلك قوله: { { لَـيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } } إنـما الـمعنى: لـيس كشيء، ولـيس مثله شيء، لأنه لا مثل له. قال: ولـيس هذا كقولك للرجل: لـيس كمثلك أحد، لأنه يجوز أن يكون له مِثْل، والله لا يجوز ذلك علـيه. قال: ومثله قول لبـيد:
إلـى الـحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَـيْكُما
قال: وفسِّر لنا أنه أراد: السلام علـيكما قال أوس بن حَجَر:
وَقْتِلـي كِرَامٍ كمِثْلِ الـجُذُوعِتَغَشَّاهُمْ سَبَلٌ مُنْهَمِرْ
قال: والـمعنى عندنا: كالـجذوع، لأنه لـم يزد أن يجعل للـجذوع مثلاً ثم يُشبه القتلـى به. قال: ومثله قول أُميَّة:
زُحَلٌ وثَوْرٌ تَـحْتَ رِجْلِ يَـمِينِهِوالنَّسْرُ للأُخْرَى وَلَـيْثٌ مُرْصَدُ
قال: فقال تـحت رجل يـمينه، كأنه قال: تـحت رجله أو تـحت رجله الـيـمنى قال: وقول لبـيد:
أضَلَّ صِوَارَهُ وتَضَيَّفَتْهُنَطوفٌ أمْرُها بِـيَده الشَّمالِ
كأنه قال: أمرها بـالشَّمال وإلـى الشَّمال وقول لبـيد أيضاً:حتـى إذا ألْقَتْ يَداً فـي كافِرٍ
فكأنه قال: حتـى وقعت فـي كافر. وقال آخر منهم: هو الـمكفوف عن خبره، قال: والعرب تفعل ذلك. قال: وله معنى آخر: {للذينَ استـجابُوا لِربِّهِمُ الـحُسنَى} مَثَلُ الـجنة موصول صفة لها علـى الكلام الأوّل. قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب: أن يقال ذكر الـمثل، فقال مَثَل الـجنة، والـمراد الـجنة، ثم وصفت الـجنة بصفتها، وذلك أن مثلها إنـما هو صفتها ولـيست صفتها شيئاً غيرها. وإذا كان ذلك كذلك، ثم ذكر الـمثل، فقـيـل: مثل الـجنة، ومثلها صفتها وصفة الـجنة، فكان وصفها كوصف الـمثل، وكان كأن الكلام جرى بذكر الـجنة، فقـيـل: الـجنة تـجري من تـحتها الأنهار، كما قال الشاعر:
أرَى مَرَّ السَّنِـينَ أخَذْنَ مِنِّـيكمَا أخَذَ السَّرارُ مِنَ الهِلالِ
فذكر الـمرّ، ورجع فـي الـخبر إلـى السنـين. وقوله: {أُكُلُها دائمٌ وظِلُّها} يعنـي: ما يؤكل فـيها. يقول: هو دائم لأهلها، لا ينقطع عنهم، ولا يزول ولا يبـيد، ولكنه ثابت إلـى غير نهاية. وظلها: يقول: وظلها أيضاً دائم، لأنه لا شمس فـيها. {تِلكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} يقول: هذه الـجنة التـي وصف جلّ ثناؤه عاقبة الذين اتقوا الله، فـاجتنبوا معاصيه وأدّوا فرائضه.
وقوله: {وَعُقْبَى الكافِرِينَ النَّارُ} يقول: وعاقبة الكافرين بـالله النار.