التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي جل ثناؤه بقوله:{ وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } كما هديناكم أيها الـمؤمنون بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام، وبـما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بـالتوفـيق لقبلة إبراهيـم وملّته، وفضّلناكم بذلك علـى من سواكم من أهل الـملل كذلك خصصناكم ففضلناكم علـى غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطاً. وقد بـيّنا أن الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهم. وأما الوسط فإنه فـي كلام العرب: الـخيار، يقال منه: فلان وسط الـحسب فـي قومه: أي متوسط الـحسب، إذاأرادوا بذلك الرفع فـي حسبه، وهو وسط فـي قومه وواسط، كما يقال شاة يابسة اللبن، ويَبَسة اللبن، وكما قال جل ثناؤه: فـاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فـي البَحْرِ يَبسا. وقال زهير بن أبـي سلـمى فـي الوسط:

هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأنامُ يحُكمِهِمْ إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللَّيالي بِمُعْظَمِ

قال: وأنا أرى أن الوسط فـي هذا الـموضع هو الوسط الذي بـمعنى الـجزء الذي هو بـين الطرفـين، مثل «وسط الدار»، مـحرَّك الوسط مثقَّله، غير جائز فـي سينه التـخفـيف. وأرى أن الله تعالـى ذكره إنـما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم فـي الدين، فلا هم أهل غلوّ فـيه غلوَّ النصارى الذين غلوا بـالترهب وقـيـلهم فـي عيسى ما قالوا فـيه، ولا هم أهل تقصير فـيه تقصير الـيهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبـياءهم وكذبوا علـى ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فـيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلـى الله أوسطها.

وأما التأويـل فإنه جاء بأن الوسط العَدْل، وذلك معنى الـخيار لأن الـخِيار من الناس عدولهم. ذكر من قال: الوسط العدل.

حدثنا سالـم بن جنادة ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: ثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: { وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: "عُدُولاً" .

حدثنا مـجاهد بن موسى ومـحمد بن بشار، قالا: ثنا جعفر بن عون، عن الأعمش، عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد، عن النبـي صلى الله عليه وسلم، مثله.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفـيان عن الأعمش عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد الـخدري:{ وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: "عُدُولاً" .

حدثنـي علـيّ بن عيسى، قال: ثنا سعيد بن سلـيـمان، عن حفص بن غياث، عن أبـي صالـح، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: عُدُولاً.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد: { وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: عُدُولاً.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: { وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: عُدُولاً.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { أُمَّةً وَسَطا } قال: عُدولاً.p> > حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله:{ أُمَّةً وَسَطاً } قال: عُدولاً.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { أُمَّةً وَسَطاً } قال: عدولاً.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } يقول: جعلكم أمة عدولاً.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن راشد بن سعد، قال: أخبرنا ابن أنعم الـمعافري، عن حبـان بن أبـي جبلة بسنده إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: «الوَسَطُ: العَدْلُ».

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء ومـجاهد وعبد الله بن كثـير: { أُمَّةً وَسَطاً } قالوا: عدولاً، قال مـجاهد: عدولاً.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: هم وسط بـين النبـيّ صلى الله عليه وسلم وبـين الأمـم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاس ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيداً }.

والشهداء جمع شهيد. فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدولاً [لتكونوا] شهداء لأنبـيائي ورسلـي علـى أمـمها بـالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتـي إلـى أمـمها، ويكون رسولـي مـحمد صلى الله عليه وسلم شهيداً علـيكم بإيـمانكم به، وبـما جاءكم به من عندي. كما:

حدثنـي أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُدْعَىٰ بِنُوحٍ عَلَـيْهِ السَّلاَمُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ، فَـيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ ما أُرْسِلْتَ بِهِ؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ، فَـيُقَالُ لِقَوْمِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَـيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَعْلَـمُ ذَاكَ؟ فَـيَقُولُ مُـحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ فهو قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا" .

حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: ثنا الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه، إلا أنه زاد فـيه: "فَـيُدْعَوْنَ وَيَشْهَدُونَ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَ" .

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفـيان، عن الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد:{ وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ } بأن الرسل قد بلغوا، { ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيداً }: بـما عملتـم أو فعلتـم.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيـل، عن أبـي مالك الأشجعي، عن الـمغيرة بن عيـينة بن النهاس، أن مكاتبـا لهم حدثهم عن جابر بن عبد الله، أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّـي وأُمَّتِـي لَعَلَـىٰ كَوْمٍ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ مُشْرِفِـينَ عَلَـىٰ الْـخَلاَئِقِ مَا أحَدٌ مِنَ الأُمَـم إلاّ وَدَّ أنَّهُ مِنْهَا أيَّتُها الأُمَّةُ، وَمَا مِنْ نَبِـيَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ إلاَّ نَـحْنُ شُهَدَاؤُهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسَالاتِ رَبِّه وَنَصَحَ لَهُمْ قال: ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا" .

حدثنـي عصام بن روّاد بن الـجراح العسقلانـي، قال: ثنا أبـي، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبـي كثـير، عن عبد الله بن الفضل، عن أبـي هريرة، قال: "خرجت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي جنازة، فلـمَّا صلَّـى علـى الـميت قال الناس: نعم الرجل فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ. ثم خرجت معه فـي جنازة أخرى، فلـما صلوا علـى الـميت قال الناس: بئس الرجل فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ. فقام إلـيه أبـيّ بن كعب فقال: يا رسول الله ما قولك وجبت؟ قال: قول الله عَزَّ وجَلَّ:{ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ }" .

حدثنـي علـيّ بن سهل الرملـي، قال: ثنا الولـيد بن مسلـم، قال: حدثني أبو عمرو عن يحيى، قال: حدثني عبد الله بن أبـي الفضل الـمديني، قال: حدثنـي أبو هريرة، قال: " أُتـي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال الناس: نعم الرجل" ، ثم ذكر نـحو حديث عصام عن أبـيه.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني إياس بن سلـمة بن الأكوع، عن أبـيه، قال: "كنا مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فمرّ علـيه بجنازة فَأُثْنِيَ علـيها بثناء حسن، فقال: وَجَبَتْ، ومرّ علـيه بجنازة أخرى، فَأُثْنِيَ علـيها دون ذلك، فقال: وَجَبَتْ، قالوا: يا رسول الله ما وجبت؟ قال: الـمَلاَئِكَةُ شُهَدَاءُ اللَّهِ فـي السَّماءِ وأنْتُـمْ شُهَداءُ اللَّهِ فـي الأرْضِ فَمَا شَهِدْتُـمْ عَلَـيْهِ وَجَبَ" .

. ثم قرأ: { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَىٰ اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والـمُؤْمِنُونَ... } [التوبة: 105] الآية.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ لِتَكُونُوا شُهَدَاء علـى النَّاس } تكونوا شهداء لـمـحمد علـيه الصلاة والسلام علـى الأمـم الـيهود والنصارى والـمـجوس.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، قال: يأتـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة بإذنه لـيس معه أحد فتشهد له أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن أبـي نـجيح، عن أبـيه أنه سمع عبـيد بن عمير، مثله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثنـي ابن أبـي نـجيح، عن أبـيه قال: يأتـي النبـي صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة، فذكر مثله، ولـم يذكر عبـيد بن عمير مثله.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ }أي أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها، { وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيداً } علـى أنه قد بلّغ رسالات ربه إلـى أمته.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلـم: أن قوم نوح يقولون يوم القـيامة: لـم يبلغنا نوح. فـيدعى نوح علـيه السلام فـيسأل: هل بلغتهم؟ فـيقول: نعم، فـيقال: من شهودك؟ فـيقول: أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فتدعون فتسألون، فتقولون: نعم قد بلّغهم. فتقول قوم نوح علـيه السلام: كيف تشهدون علـينا ولـم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم، وأنزل علـيه أنه قد بلغكم، فصدقناه. قال: فـيصدق نوح علـيه السلام ويكذّبونهم. قال:{ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيداً }.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:{ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰالنَّاسِ } لتكون هذه الأمة شهداء علـى الناس أن الرسل قد بلّغتهم، ويكون الرسول علـى هذه الأمة شهيداً، أن قد بلّغ ما أرسل به.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلـم: أن الأمـم يقولون يوم القـيامة: والله لقد كادت هذه الأمة أن تكون أنبـياء كلهم لـما يرون الله أعطاهم.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: ثنا ابن الـمبـارك عن راشد بن سعد، قال: أخبرنـي ابن أنعم الـمعافري، عن حبـان بن أبـي جبلة بسنده إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا جَمَعَ اللَّهُ عِبَـادَهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ، كَانَ أوَّلَ مَنْ يُدْعَىٰ إسْرَافِـيـلُ، فَـيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: مَا فَعَلْتَ فِـي عَهْدِي، هَلْ بَلَّغْتَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلَّغْتُهُ جِبْرِيـلَ عَلَـيْهِمَا السَّلاَمُ، فَـيُدْعَىٰ جِبْرِيـلُ فَـيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ إسْرَافِـيـلَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلَّغَنِـي. فَـيُخَـلَّـى عَنْ إسْرَافِـيـلَ، ويُقَالُ لِـجِبْرِيـلَ: هَلْ بَلَّغْتَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ قَدْ بَلَّغْتُ الرُّسُلَ. فَتُدْعَىٰ الرُّسُلُ فَـيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ جِبْرِيـلُ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُونَ نَعَمْ رَبَّنا. فَـيُخَـلَّـى عَنْ جِبْرِيـلَ، ثُمَّ يُقَالُ للرُّسُلِ: ما فَعَلْتُـمْ بِعَهْدِي؟ فَـيَقُولُونَ: بَلَّغْنا أُمَـمَنا. فَتُدْعَىٰ الأُمَـمُ فَـيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ الرُّسُلُ عَهْدِي؟ فَمِنْهُمْ الـمُكَذّبُ وَمِنْهُمْ الـمُصَدّقُ، فَتَقُولُ الرُّسُلُ: إنَّ لَنَا عَلَـيْهِمْ شُهُودا يَشْهَدُونَ أنْ قَدْ بَلغْنا مَعَ شَهَادَتِكَ. فَـيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: أُمَّةُ مُـحَمَّدٍ. فَتُدْعَىٰ أُمَّةُ مُـحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَـيَقُولُ: أتَشْهَدُونَ أنَّ رُسُلِـي هَؤُلاَءِ قَدْ بَلَّغُوا عَهْدِي إلـى مَنْ أُرْسِلُوا إلَـيْهِ؟ فَـيَقُولُونَ: نَعَمْ رَبَّنا شَهِدْنَا أنْ قَدْ بَلَّغُوا. فَتَقُولُ تِلْكَ الأُمَـم: كَيْفَ يَشْهَدُ عَلَـيْنَا مَنْ لَـمْ يُدْرِكْنا؟ فَـيَقُولُ لَهُمُ الرَّبُّ تَبَـارَكَ وتَعَالَـىٰ: كَيْفَ تَشْهَدُونَ عَلَـىٰ مَنْ لَـمْ تُدْرِكُوا؟ فَـيَقُولُونَ: رَبَّنَا بَعَثْتَ إلَـيْنَا رَسُولاً، وأنْزَلْتَ إلَـيْنَا عَهْدَكَ وكِتابَكَ، وقَصَصْتَ عَلَـيْنَا أنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا، فَشَهِدْنا بِـمَا عَهِدْتَ إلَـيْنَا. فَـيَقُولُ الرَّبُّ: صَدَقُوا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" . والوسط: العدل. «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا».

قال ابن أنعم: فبلغنـي أنه يشهد يومئذ أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم إلا من كان فـي قلبه حِنَةٌ علـى أخيه.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ } يعنـي بذلك الذين استقاموا علـى الهدى، فهم الذين يكونون شهداء علـى الناس يوم القـيامة، لتكذيبهم رسل الله، وكفرهم بآيات الله.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ } يقول: لتكونوا شهداء علـى الأمـم الذين خـلوا من قبلكم بـما جاءتهم رسلهم، وبـما كذّبوهم، فقالوا يوم القـيامة وعجبوا: إن أمة لـم يكونوا فـي زماننا، فآمنوا بـما جاءت به رسلنا، وكذّبنا نـحن بـما جاءوا به. فعجبوا كلّ العجب.

قوله: { ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيداً } يعنـي بإيـمانهم به، وبـما أنزل علـيه.

حدثنا مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس:{ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ } يعنـي أنهم شهدوا علـى القرون بـما سمى الله عزّ وجلّ لهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله: { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـى النَّاسِ }؟ قال: أمة مـحمد شهدوا علـى من ترك الـحقّ حين جاءه الإيـمان والهدى مـمن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثـير. قال: وقال عطاء: شهداء علـى من ترك الـحقّ مـمن تركه من الناس أجمعين، جاء ذلك أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي كتابهم: { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيداً } علـى أنهم قد آمنوا بـالـحقّ حين جاءهم وصدّقوا به.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيداً } قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد علـى أمته، وهم شهداء علـى الأمـم، وهم أحد الأشهاد الذي قال الله عز وجلّ: { وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } [غافر: 51] الأربعة الـملائكة الذين يحصون أعمالنا لنا وعلـينا. وقرأ قوله: { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق: 21]. وقال: هذا يوم القـيامة. قال: والنبـيون شهداء علـى أمـمهم. قال: وأمة مـحمد صلى الله عليه وسلم شهداء علـى الأمـم، [قال: والأطوار: الأجساد والـجلود].

القول فـي تأويـل قوله تعالـى { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِـمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىٰ عَقِبَـيْهِ }.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا } ولـم نـجعل صَرْفَك عن القبلة التـي كنت علـى التوجه إلـيها يا مـحمد فصرفناك عنها إلا لنعلـم من يتبعك مـمن لا يتبعك مـمن ينقلب علـى عقبـيه. والقبلة التـي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علـيها التـي عناها الله بقوله: { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا }هي القبلة التـي كنت تتوجه إلـيها قبل أن يصرفك إلـى الكعبة. كما:

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { وَمَا جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا }يعنـي بـيت الـمقدس.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا }؟ قال: القبلة: بـيت الـمقدس.

وإنـما ترك ذكر الصرف عنها اكتفـاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام علـى معناه كسائر ما قد ذكرنا فـيـما مضى من نظائره.

وإنـما قلنا ذلك معناه لأن مـحنة الله أصحاب رسوله فـي القبلة إنـما كانت فـيـما تظاهرت به الأخبـار عند التـحويـل من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة، حتـى ارتدّ فـيـما ذكر رجال مـمن كان قد أسلـم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر كثـير من الـمنافقـين من أجل ذلك نفـاقهم، وقالوا: ما بـال مـحمد يحوّلنا مرّة إلـى هٰهنا، ومرّة إلـى هٰهنا؟ وقال الـمسلـمون فـيمن مضى من إخوانهم الـمسلـمين، وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت. وقال الـمشركون: تـحيَّرَ مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي دينه. فكان ذلك فتنة للناس وتـمـحيصا للـمؤمنـين، فلذلك قال جل ثناؤه:{ وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِـمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـى عَقِبَـيْهِ }أي: وما جعلنا صرفك عن القبلة التـي كنت علـيها، وتـحويـلك إلـى غيرها، كما قال جل ثناؤه: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء: 60] بـمعنى: وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التـي أريناك. وذلك أنه لو لـم يكن أخبر القوم بـما كان أرى لـم يكن فـيه علـى أحد فتنة، وكذلك القبلة الأولـى التـي كانت نـحو بـيت الـمقدس لو لـم يكن صرف عنها إلـى الكعبة لـم يكن فـيها علـى أحد فتنة ولا مـحنة.

ذكر الأخبـار التـي رويت فـي ذلك بـمعنى ما قلنا:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال: كانت القبلة فـيها بلاء وتـمـحيص صلّت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس حولـين قبل قدوم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم، وصلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه الـمدينة مهاجراً نـحو بـيت الـمقدس سبعة عشر شهراً، ثم وجهه الله بعد ذلك إلـى الكعبة البـيت الـحرام، فقال فـي ذلك قائلون من الناس: { { مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [البقرة: 142]؟ لقد اشتاق الرجل إلـى مولده قال الله عزّ وجلّ: { قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 142] فقال أناس لـما صرفت القبلة نـحو البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا الأولـى؟ فأنزل الله عز وجل:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمانَكُمْ } وقد يبتلـي الله العبـاد بـما شاء من أمره الأمر بعد الأمر، لـيعلـم من يطيعه مـمن يعصيه. وكل ذلك مقبول إذا كان فـي إيـمان بـالله، وإخلاص له، وتسلـيـم لقضائه.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يصلـي قبل بـيت الـمقدس، فنسختها الكعبة. فلـما وُجِّه قبل الـمسجد الـحرام، اختلف الناس فـيها، فكانوا أصنافـاً فقال الـمنافقون: ما بـالهم كانوا علـى قبلة زماناً ثم تركوها وتوجهوا إلـى غيرها؟ وقال الـمسلـمون: لـيت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قِبَل بـيت الـمقدس، هل تقبّل الله منا ومنهم أو لا؟ وقالت الـيهود: إن مـحمداً اشتاق إلـى بلد أبـيه ومولده، ولو ثبت علـى قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر. وقال الـمشركون من أهل مكة: تـحير علـى مـحمد دينه، فتوجه بقبلته إلـيكم، وعلـم أنكم كنتـم أهدى منه، ويوشك أن يدخـل فـي دينكم. فأنزل الله جل ثناؤه فـي الـمنافقـين: { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ } [البقرة: 142] إلـى قوله:{ وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَىٰ اللَّهُ } وأنزل فـي الآخرين الآيات بعدها.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء:{ إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِـمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىٰ عَقِبَـيْهِ }؟ فقال عطاء: يبتلـيهم لـيعلـم من يسلـم لأمره. قال ابن جريج: بلغنـي أن ناسا مـمن أسلـم رجعوا فقالوا: مرّة هٰهنا ومرّة هٰهنا.

فإن قال لنا قائل: أوَما كان الله عالـماً بـمن يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه إلا بعد اتبـاع الـمتبع، وانقلاب الـمنقلب علـى عقبـيه، حتـى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تـحويـل القبلة إلا لنعلـم الـمتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمنقلب علـى عقبـيه؟ قـيـل: إن الله جل ثناؤه هو العالـم بـالأشياء كلها قبل كونها، ولـيس قوله:{ وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِـمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىٰ عَقِبَـيْهِ } يخبر أنه لـم يعلـم ذلك إلا بعد وجوده.

فإن قال: فما معنى ذلك؟ قـيـل له: أما معناه عندنا فإنه: وما جعلنا القبلة التـي كنت علـيها إلا لـيعلـم رسولـي وحزبـي وأولـيائي من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه. فقال جل ثناؤه: { إلاَّ لِنَعْلَـمَ } ومعناه: لـيعلـم رسولـي وأولـيائي، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولـياؤه من حزبه، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتبـاع الرئيس إلـى الرئيس، وما فعل بهم إلـيه نـحو قولهم: فتـح عمر بن الـخطاب سواد العراق، وجبى خراجها، وإنـما فعل ذلك أصحابه عن سبب كان منه فـي ذلك.

وكالذي رُوي فـي نظيره عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَرِضْتُ فَلَـمْ يَعُدْنِـي عَبْدِي، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَـمْ يُقْرِضْنِـي، وَشَتَـمَنِـي وَلَـمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِـمَنِـي" .

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد عن مـحمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمٰن، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالَ اللَّهُ: اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَـمْ يُقْرِضنِـي، وشَتَـمَنِـي وَلَـمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِـمَنِـي، يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ وأنا الدَّهْرُ أنا الدَّهْرُ" .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمٰن، عن أبـيه، عن أبـي هريرة عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.

فأضاف تعالـى ذكره الاستقراض والعيادة إلـى نفسه، وقد كان ذلك بغيره إذ كان ذلك عن سببه.

وقد حُكي عن العرب سماعاً: أجوع فـي غير بطنـي، وأعرى فـي غير ظهري، بـمعنى جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم، فكذلك قوله:{ إلاَّ لِنَعْلَـمَ } بـمعنى يعلـم أولـيائي وحزبـي.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس: { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِـمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىٰ عَقِبَـيْهِ } قال ابن عبـاس: لنـميز أهل الـيقـين من أهل الشرك والريبة.

وقال بعضهم: إنـما قـيـل ذلك من أجل أن العرب تضع العلـم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلـم، كما قال جل ذكره: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1]. فزعم أن معنى: ألَـمْ تَرَ: ألـم تعلـم، وزعم أن معنى قوله:{ إلاَّ لِنَعْلَـمَ } بـمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أن قول القائل: رأيت وعلـمت وشهدت حروف تتعاقب فـيوضع بعضها موضع بعض، كما قال جرير بن عطية:

كأنّك لـمْ تَشْهَدْ لَقِـيطاً وَحاجِبـاًوعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعا يالَ دارِمِ

بـمعنى: كأنك لـم تعلـم لقـيطاً لأن بـين هَلْك لقـيط وحاجب وزمان جرير ما لا يخفـى بعده من الـمدّة. وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا فـي الـجاهلـية، وجرير كان بعد برهة مضت من مـجيء الإسلام. وهذا تأويـل بعيد، من أجل أن الرؤية وإن استعملت فـي موضع العلـم من أجل أنه مستـحيـل أن يرى أحد شيئاً، فلا توجب رؤيته إياه علـماً بأنه قد رآه إذا كان صحيح الفطرة، فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية أن يضاف إلـيه إثبـاته إياه علـماً، وصحّ أن يدلّ بذكر الرؤية علـى معنى العلـم من أجل ذلك. فلـيس ذلك وإن كان فـي الرؤية لـما وصفنا بجائز فـي العلـم، فـيدلّ بذكر الـخبر عن العلـم علـى الرؤية لأن الـمرء قد يعلـم أشياء كثـيرة لـم يرها ولا يراها، ويستـحيـل أن يرى شيئاً إلا علـمه، كما قد قدمنا البـيان، مع أنه غير موجود فـي شيء من كلام العرب أن يقال: علـمت كذا بـمعنى رأيته، وإنـما يجوز توجيه معانـي ما فـي كتاب الله الذي أنزله علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم من الكلام إلـى ما كان موجوداً مثله فـي كلام العرب دون ما لـم يكن موجوداً فـي كلامها، فموجود فـي كلامها «رأيت» بـمعنى «علـمت»، وغير موجود فـي كلامها «علـمت» بـمعنى «رأيت»، فـيجوز توجيه { إلاَّ لِنَعلـمَ }إلـى معنى: إلا لنرى.

وقال آخرون: إنـما قـيـل:{ إلاَّ لِنَعْلَـمَ } من أجل أن الـمنافقـين والـيهود وأهل الكفر بـالله أنكروا أن يكون الله تعالـى ذكره يعلـم الشيء قبل كونه، وقالوا إذ قـيـل لهم: إن قوماً من أهل القبلة سيرتدّون علـى أعقابهم، إذا حوّلت قبلة مـحمد صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة: ذلك غير كائن، أو قالوا: ذلك بـاطل. فلـما فعل الله ذلك، وحوّل القبلة، وكفر من أجل ذلك من كفر، قال الله جل ثناؤه: ما فعلت إلا لنعلـم ما عندكم أيها الـمشركون الـمنكرون علـمي بـما هو كائن من الأشياء قبل كونه، أنـي عالـم بـما هو كائن مـما لـم يكن بعد.

فكأن معنى قائل هذا القول فـي تأويـل قوله: إلا لِنَعْلَـمَ إلا لنبـين لكم أنا نعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه. وهذا وإن كان وجهاً له مخرج، فبعيد من الـمفهوم.

وقال آخرون: إنـما قـيـل: { إلاَّ لِنَعْلَـمَ } وهو بذلك عالـم قبل كونه وفـي كل حال، علـى وجه الترفيق بعبـاده، واستـمالتهم إلـى طاعته، كما قال جل ثناؤه: { قُل اللَّهُ وإنَّا أو إيَّاكُمْ لَعَلَـىٰ هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ } [سبأ: 24] وقد علـم أنه علـى هدى وأنهم علـى ضلال مبـين، ولكنه رفق بهم فـي الـخطاب، فلـم يقل: أنا علـى هدى، وأنتـم علـى ضلال. فكذلك قوله: { إلاَّ لِنَعْلَـمَ } معناه عندهم: إلا لتعلـموا أنتـم إذ كنتـم جهالاً به قبل أن يكون فأضاف العلـم إلـى نفسه رفقاً بخطابهم. وقد بـينا القول الذي هو أولـى فـي ذلك بـالـحقّ.

وأما قوله: { مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } فإنه يعنـي: الذي يتبع مـحمداً صلى الله عليه وسلم فـيـما يأمره الله به، فـيوجه نـحو الوجه الذي يتوجه نـحوه مـحمد صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله:{ مِـمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىٰ عَقِبَـيْهِ } فإنه يعنـي: من الذي يرتدّ عن دينه، فـينافق، أو يكفر، أو يخالف مـحمداً صلى الله عليه وسلم فـي ذلك مـمن يظهر اتبـاعه. كما:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله:{ وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلاَّ لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتَّبعُ الرَّسُولَ مِـمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىٰ عَقِبَـيْهِ } قال: من إذا دخـلته شبهة رجع عن الله، وانقلب كافراً علـى عقبـيه.

وأصل الـمرتدّ علـى عقبـيه: هو الـمنقلب علـى عقبـيه الراجع مستدبراً فـي الطريق الذي قد كان قطعه منصرفـاً عنه، فقـيـل ذلك لكل راجع عن أمر كان فـيه من دين أو خير، ومن ذلك قوله: { فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } [الكهف: 64] بـمعنى رجعا فـي الطريق الذي كانا سلكاه.

وإنـما قـيـل للـمرتدّ مرتدّ، لرجوعه عن دينه وملّته التـي كان علـيها. وإنـما قـيـل رجع علـى عقبـيه لرجوعه دبراً علـى عقبه إلـى الوجه الذي كان فـيه بدء سيره قبل مرجعه عنه، فـيجعل ذلك مثلاً لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره إذا انصرف عما كان فـيه إلـى الذي كان له تاركاً فأخذه، فقـيـل ارتدّ فلان علـى عقبه، وانقلب علـى عقبـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَىٰ اللَّه }ُ.

اختلف أهل التأويـل فـي التـي وصفها الله جلّ وعزّ بأنها كانت كبـيرة إلا علـى الذين هدى الله }.

فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه بـالكبـيرة: التولـية من بـيت الـمقدس شطر الـمسجد الـحرام والتـحويـل، وإنـما أنّث الكبـيرة لتأنـيث التولـية. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى قال: ثنا عبد الله بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس: قال الله: { وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } يعنـي تـحويـلها.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجل: { وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } قال: ما أمروا به من التـحوّل إلـى الكعبة من بـيت الـمقدس.

حدثنـي الـمثنى قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } قال: كبـيرة حين حوّلت القبلة إلـى الـمسجد الـحرام، فكانت كبـيرة إلا علـى الذين هدى الله.

وقال آخرون: بل الكبـيرة هي القبلة بعينها التـي كان صلى الله عليه وسلم يتوجه إلـيها من بـيت الـمقدس قبل التـحويـل. ذكر من قال ذلك.

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية:{ وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً } أي قبلة بـيت الـمقدس، { إلاَّ علـى الَّذِينَ هَدَىٰ اللَّهُ }.

وقال بعضهم: بل الكبـيرة: هي الصلاة التـي كانوا يصلّونها إلـى القبلة الأولـى. ذكر من قال ذلك.

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } قال: صلاتكم حتـى يهديكم الله عزّ وجل القبلة.

وقد حدثنـي به يونس مرّة أخرى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: { وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً } قال: صلاتك هٰهنا يعنـي إلـى بـيت الـمقدس ستة عشر شهراً وانـحرافك هٰهنا.

وقال بعض نـحويـي البصرة: أنثت الكبـيرة لتأنـيث القبلة، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله: { وَإنْ كانَتْ لَكَبِـيرَةً }. وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل أنثت الكبـيرة لتأنـيث التولـية والتـحويـلة.

فتأويـل الكلام علـى ما تأوله قائلو هذه الـمقالة: وما جعلنا تـحويـلتنا إياك عن القبلة التـي كنت علـيها وتولـيتناك عنها إلا لنعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه، وإن كانت تـحويـلتنا إياك عنها وتولـيتناك لكبـيرة إلا علـى الذين هدى الله.

وهذا التأويـل أولـى التأويلات عندي بـالصواب، لأن القوم إنـما كبر علـيهم تـحويـل النبـيّ صلى الله عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولـى إلـى الأخرى لا عين القبلة ولا الصلاة لأن القبلة الأولـى والصلاة قد كانت وهي غير كبـيرة علـيهم إلا أن يوجه موجِّه تأنـيث الكبـيرة إلـى القبلة، ويقول: اجتزىء بذكر القبلة من ذكر التولـية والتـحويـلة لدلالة الكلام علـى معنى ذلك، كما قد وصفنا لك فـي نظائره، فـيكون ذلك وجهاً صحيحاً ومذهبـاً مفهوماً. ومعنى قوله: { كَبِـيرَةً }عظيـمة. كما:

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَىٰ اللَّهُ } قال: كبـيرة فـي صدور الناس فـيـما يدخـل الشيطان به ابن آدم، قال: ما لهم صلوا إلـى هٰهنا ستة عشر شهرا ثم انـحرفوا فكبرُ ذلك فـي صدور من لا يعرف ولا يعقل والـمنافقـين، فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا فثبّت الله جل ثناؤه ذلك فـي قلوبهم. وقرأ قول الله: { وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } قال صلاتكم حتـى يهديكم إلـى القبلة.

قال أبو جعفر: وأما قوله:{ إلاَّ عَلَـىٰ الَّذِينَ هَدَىٰ اللَّهُ } فإنه يعنـي به: وإن كان تقلـيبَتُناك عن القبلة التـي كنت علـيها لعظيـمة إلا علـى من وفّقه الله جل ثناؤه فهداه لتصديقك، والإيـمان بك وبذلك، واتبـاعك فـيه وفـيـما أنزل الله تعالـى ذكره علـيك. كما:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس:{ وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاَّ عَلَـى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } يقول: إلا علـى الـخاشعين، يعنـي الـمصدّقـين بـما أنزل الله تبـارك وتعالـى.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُم } قـيـل: عنى بـالإيـمان فـي هذا الـموضع الصلاة. ذكر الأخبـار التـي رُويت بذلك وذكر قول من قاله:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع وعبـيد الله، وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى جميعاً، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس، قال: لـما وجِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة قالوا: كيف بـمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس؟ فأنزل الله جل ثناؤه:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ }.

حدثنـي إسماعيـل بن موسى، قال: أخبرنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن البراء فـي قول الله عزّ وجلّ:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ } قال: صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: ثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن البراء نـحوه.

وحدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله بن مـحمد بن نفـيـل عن الـحرّانـي، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: مات علـى القبلة قبل أن تـحوّل إلـى البـيت رجال وقُتلوا، فلـم ندر ما نقول فـيهم، فأنزل الله تعالـى ذكره: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ }.

حدثنا بشر بن معاذ العقديّ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال أناس من الناس لـما صرفت القبلة نـحو البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا؟ فأنزل الله جل ثناؤه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ }.

حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنـي عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الـمسجد الـحرام، قال الـمسلـمون: لـيت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بـيت الـمقدس، هل تقبل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنزل الله جل ثناؤه فـيهم: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضيعَ إيـمَانَكُمْ } قال: صلاتكم قبل بـيت الـمقدس، يقول: إن تلك طاعة وهذه طاعة.

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قال: قال ناس لـما صرفت القبلة إلـى البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا الأولـى؟ فأنزل الله تعالـى ذكره: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضيعَ إيـمَانَكُمْ }الآية.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي داود بن أبـي عاصم، قال: لـما صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة، قال الـمسلـمون: هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلـى بـيت الـمقدس، فنزلت:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُم }ْ.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ } يقول: صلاتكم التـي صلـيتـموها من قبل أن تكون القبلة، فكان الـمؤمنون قد أشفقوا علـى من صلـى منهم أن لا تقبل صلاتهم.

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ } صلاتكم.

حدثنا مـحمد بن إسماعيـل الفزاري، قال: أخبرنا الـمؤمل، قال: ثنا سفـيان، ثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب فـي هذه الآية:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ } قال: صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس.

قد دللنا فـيـما مضى علـى أن الإيـمان التصديق، وأن التصديق قد يكون بـالقول وحده وبـالفعل وحده وبهما جميعا فمعنى قوله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ }علـى ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة: وما كان الله لـيضيع تصديق رسوله علـيه الصلاة والسلام بصلاتكم التـي صلـيتـموها نـحو بـيت الـمقدس عن أمره لأن ذلك كان منكم تصديقاً لرسولـي، واتبـاًعا لأمري، وطاعة منكم لـي. قال: وإضاعته إياه جل ثناؤه لو أضاعه ترك إثابة أصحابه وعاملـيه علـيه، فـيذهب ضياعاً ويصير بـاطلاً، كهيئة إضاعة الرجل ماله، وذلك إهلاكه إياه فـيـما لا يعتاض منه عوضا فـي عاجل ولا آجل. فأخبر الله جل ثناؤه أنه لـم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملاً وهو له طاعة فلا يثـيبه علـيه، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه علـى ما كلفه من عمله.

فإن قال قائل: وكيف قال الله جل ثناؤه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ } فأضاف الإيـمان إلـى الأحياء الـمخاطبـين، والقوم الـمخاطبون بذلك إنـما كانوا أشفقوا علـى إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس، وفـي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية؟ قـيـل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك، فإنهم أيضاً قد كانوا مشفقـين من حبوط ثواب صلاتهم التـي صلوها إلـى بـيت الـمقدس قبل التـحويـل إلـى الكعبة، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعاً، فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ، فوجه الـخطاب بها إلـى الأحياء، ودخـل فـيهم الـموتـى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتـمع فـي الـخبر الـمخاطب والغائب أن يغلّبوا الـمخاطب، فـيدخـل الغائب فـي الـخطاب، فـيقولوا لرجل خاطبوه علـى وجه الـخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر: فعلنا بكما وصنعنا بكما، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران، ولا يستـجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فـيردّوا الـمخاطب إلـى عداد الغَيَبِ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إن اللَّهَ بـالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـم }ٌ.

ويعنـي بقوله جل ثناؤه:{ إنَّ اللَّهَ بـالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ }أن الله بجميع عبـاده ذو رأفة. والرأفة أعْلـى معانـي الرحمة، وهي عامة لـجميع الـخـلق فـي الدنـيا ولبعضهم فـي الآخرة. وأما الرحيـم، فإنه ذو الرحمة للـمؤمنـين فـي الدنـيا والآخرة علـى ما قد بـينا فـيـما مضى قبل. وإنـما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عزّ وجلّ أرحم بعبـاده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثـيبهم علـيها، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لـم يفرضه علـيهم. أي ولا تأسوا علـى موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلـى بـيت الـمقدس، فإنـي لهم علـى طاعتهم إياي بصلاتهم التـي صلوها كذلك مثـيب، لأنـي أرحم بهم من أن أضيع لهم عملاً عملوه لـي. ولا تـحزنوا علـيهم، فإنـي غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلـى الكعبة، لأنـي لـم أكن فرضت ذلك علـيهم، وأنا أرأف بخـلقـي من أن أعاقبهم علـى تركهم ما لـم آمرهم بعمله. وفـي الرءوف لغات: إحداها «رَؤُف» علـى مثال «فَعُل» كما قال الولـيد بن عقبة:

وَشَرُّ الطَّالِبِـينَ وَلاَ تَكُنْهُبِقاتِلِ عَمّهِ الرَّؤُفُ الرَّحِيـمُ

وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة. والأخرى «رءوف» علـى مثال «فَعُول»، وهي قراءة عامة قرّاء الـمدينة. و «رَئِف»، وهي لغة غطفـان، علـى مثال «فَعِل» مثل «حَذِر». و «رَأْف» علـى مثال «فَعْل» بجزم العين، وهي لغة لبنـي أسد، والقراءة علـى أحد الوجهين الأوّلـين.