التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي تعالـى ذكره بقوله:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى } فرض علـيكم.

فإن قال قائل: أفرض علـى ولـيّ القتـيـل القصاص من قاتل ولـيه؟ قـيـل: لا ولكنه مبـاح له ذلك، والعفو، وأخذ الدية.

فإن قال قائل: وكيف قال:{ كُتِبَ عَلَـيْكُم القِصَاصُ }؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى خلاف ما ذهبت إلـيه، وإنـما معناه: يا أيها الذين آمنوا كتب علـيكم القصاص فـي القتلـى، الـحرّ بـالـحرّ، والعبد بـالعبد، والأنثى بـالأنثى. أي أن الـحرّ إذا قتل الـحرّ، فدم القاتل كفء لدم القتـيـل، والقصاص منه دون غيره من الناس، فلا تـجاوزوا بـالقتل إلـى غيره مـمن لـم يقتل، فإنه حرام علـيكم أن تقتلوا بقتـيـلكم غير قاتله. والفرض الذي فرض الله علـينا فـي القصاص هو ما وصفت من ترك الـمـجاوزة بـالقصاص قتل القاتل بقتـيـله إلـى غيره لا أنه وجب علـينا القصاص فرضاً وجوب فرض الصلاة والصيام حتـى لا يكون لنا تركه، ولو كان ذلك فرضاً لا يجوز لنا تركه لـم يكن لقوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ } معنى مفهوم، لأنه لا عفو بعد القصاص فـيقال: فمن عفـي له من أخيه شيء.

وقد قـيـل: إن معنى القصاص فـي هذه الآية مقاصة ديات بعض القتلـى بديات بعض وذلك أن الآية عندهم نزلت فـي حزبـين تـحاربوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل بعضهم بعضاً، فأمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلـح بـينهم، بأن تسقط ديات نساء أحد الـحزبـين بديات نساء الآخرين، وديات رجالهم بديات رجالهم، وديات عبـيدهم بديات عبـيدهم قصاصاً، فذلك عندهم معنى القصاص فـي هذه الآية.

فإن قال قائل: فإنه تعالـى ذكره قال:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرُّ بـالـحُرّ والعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنَثى بـالأُنَثى } فما لنا أن نقتصّ للـحرّ إلا من الـحرّ، ولا للأنثى إلا من الأنثى؟ قـيـل: بل لنا أن نقتصّ للـحرّ من العبد وللأنثى من الذكر، بقول الله تعالـى ذكره: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } [الإسراء: 33] وبـالنقل الـمستفـيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الـمسلـمونَ تتكافأُ دِماؤُهُم" .

فإن قال: فإذ كان ذلك، فما وجه تأويـل هذه الآية؟ قـيـل: اختلف أهل التأويـل فـي ذلك، فقال بعضهم: نزلت هذه الآية فـي قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عبد قوم آخرين لـم يرضوا من قتـيـلهم بدم قاتله من أجل أنه عبد حتـى يقتلوا به سيده، وإذا قتلت الـمرأة من غيرهم رجلاً لـم يرضوا من دم صاحبهم بـالـمرأة القاتلة، حتـى يقتلوا رجلاً من رهط الـمرأة وعشيرتها، فأنزل الله هذه الآية، فأعلـمهم أن الذي فرض لهم من القصاص أن يقتلوا بـالرجل الرجل القاتل دون غيره، وبـالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبـالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدّوا القاتل إلـى غيره فـي القصاص. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا أبو الولـيد، وحدثنـي الـمثنى، قال: ثنا الـحجاج، قالا: ثنا حماد، عن داود بن أبـي هند، عن الشعبـي فـي قوله:{ الـحُرُّ بـالـحُرّ وَالَعبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى } قال: نزلت فـي قبـيـلتـين من قبـائل العرب اقتتلتا قتال عمية، فقالوا: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبفلانة فلان ابن فلان، فأنزل الله: { الـحُرُّ بـالـحُرِّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ وَالأنْثَى بـالأنْثَى }.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ كُتِبَ عَلَـيْكُم القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرُّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى } قال: كان أهل الـجاهلـية فـيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الـحي إذا كان فـيهم عدّة ومنعة، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حرا تعززا لفضلهم علـى غيرهم فـي أنفسهم، وإذا قتلت لهم امرأة قتلتها امرأة قوم آخرين، قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً. فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن العبد بـالعبد والأنثى بـالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالـى ذكره فـي سورة الـمائدة بعد ذلك فقال: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ }

[المائدة: 45]. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله:{ كُتِبَ عَلَـيْكُم القِصَاص فِـي القَتْلَـى } قال: لـم يكن لـمن قبلنا دية إنـما هو القتل أو العفو إلـى أهله، فنزلت هذه الآية فـي قوم كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الـحي الكثـير عبد، قالوا: لا نقتل به إلا حراً، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله:{ الـحُرُّ بـالـحُر والعَبْدُ بـالعَبْد وَالأنْثَى بـالأنْثَى }.

حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا الـمعتـمر، قال: سمعت داود، عن عامر فـي هذه الآية: { كُتِبَ عَلَـيْكُم القِصَاص فِـي القَتْلَـى الـحُرُّ بـالـحُرِّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ وَالأُنْثَى بـالأُنْثَى } قال: إنـما ذلك فـي قتال عمية إذا أصيب من هؤلاء عبد ومن هؤلاء عبد تكافآ، وفـي الـمرأتـين كذلك، وفـي الـحرين كذلك، هذا معناه إن شاء الله.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: دخـل فـي قول الله تعالـى ذكره:{ الـحُرُّ بـالـحُرِّ } الرجل بـالـمرأة، والـمرأة بـالرجل. وقال عطاء: لـيس بـينهما فضل.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية فـي فريقـين كان بـينهم قتال علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل من كلا الفريقـين جماعة من الرجال والنساء، فأمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلـح بـينهم بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقـين قصاصاً بديات النساء من الفريق الآخر، وديات الرجال بـالرجال، وديات العبـيد بـالعبـيد فذلك معنى قوله:{ كُتِب عَلَـيْكُم القِصَاص فِـي القَتْلَـى }. ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي قوله:{ كُتِبَ عَلْـيكُم القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرُّ بـالـحُرِّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ وَالأُنْثَى بـالأُنْثَى } قال: اقتتل أهل ملّتـين من العرب أحدهما مسلـم والآخر معاهد فـي بعض ما يكون بـين العرب من الأمر، فأصلـح بـينهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبـيد والنساء علـى أن يؤدي الـحرّ دية الـحرّ، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصهم بعضهم من بعض.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا عبد الله بن الـمبـارك، عن سفـيان، عن السدي عن أبـي مالك قال: كان بـين حيـين من الأنصار قتال، كان لأحدهما علـى الآخر الطَّوْل، فكأنهم طلبوا الفضل، فجاء النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـيصلـح بـينهم، فنزلت هذه الآية:{ الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْد والأُنْثَى بـالأُنْثَى } فجعل النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـحرّ بـالـحرّ والعبد بـالعبد، والأنثى بـالأنثى.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شعبة، عن أبـي بشر، قال: سمعت الشعبـي يقول فـي هذه الآية:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى } قال: نزلت فـي قتال عمية قال شعبة: كأنه فـي صلـح قال: اصطلـحوا علـى هذا.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبـي بشر، قال: سمعت الشعبـي يقول فـي هذه الآية:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرُّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى } قال: نزلت فـي قتال عمية، قال: كان علـى عهد النبـيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالـى ذكره بـمقاصة دية الـحر ودية العبد ودية الذكر ودية الأنثى فـي قتل العمد إن اقتص للقتـيـل من القاتل، والتراجع بـالفضل والزيادة بـين ديتـي القتـيـل والـمقتص منه. ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: { يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرُّ بـالـحُرِّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى } قال: حُدثنا عن علـي بن أبـي طالب أنه كان يقول: أيـما حر قتل عبدا فهو قَوَدٌ به، فإن شاء موالـي العبد أن يقتلوا الـحر قتلوه، وقاصّوهم بثمن العبد من دية الـحر، وأدوا إلـى أولـياء الـحر بقـية ديته. وإن عبد قتل حراً فهو به قود، فإن شاء أولـياء الـحر قتلوا العبد، وقاصّوهم بثمن العبد وأخذوا بقـية دية الـحر، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستـحيوا العبد. وأيّ حرّ قتل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولـياء الـمرأة قتلوه وأدّوا نصف الدية إلـى أولـياء الـحرّ. وإن امرأة قتلت حرّاً فهي به قود، فإن شاء أولـياء الـحرّ قتلوها، وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستـحيوها وإن شاءوا عفوا.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا هشام بن عبد الـملك، قال: ثنا حماد بن سلـمة، عن قتادة، عن الـحسن أن علـياً قال فـي رجل قتل امرأته، قال: إن شاءوا قتلوه وغرموا نصف الدية.

حدثنا مـحمد بن بشار قال: ثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الـحسن، قال: لا يقتل الرجل بـالـمرأة حتـى يعطوا نصف الدية.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، عن الشعبـي، قال فـي رجل قتل امرأته عمداً، فأتوا به علـياً، فقال: إن شئتـم فـاقتلوه، وردّوا فضل دية الرجل علـى دية الـمرأة.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية فـي حال ما نزلت والقوم لا يقتلون الرجل بـالـمرأة، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بـالرجل والـمرأة بـالـمرأة حتـى سوّى الله بـين حكم جميعهم بقوله:{ وكَتَبْنا عَلَـيْهِمْ فِـيها أنَّ النّفْسَ بـالنَّفْسِ } فجعل جميعهم قود بعضهم ببعض. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـمثنى قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله:{ والأُنْثَى بـالأُنْثَى } وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بـالـمرأة، ولكن يقتلون الرجل بـالرجل والـمرأة بـالـمرأة، فأنزل الله تعالـى:{ النَّفْسَ بـالنَّفْس } فجعل الأحرار فـي القصاص، سواء فـيـما بـينهم فـي العمد رجالهم ونساؤهم فـي النفس وما دون النفس، وجعل العبـيد مستوين فـيـما بـينهم فـي العمد فـي النفس وما دون النفس، رجالهم ونساؤهم.

فإذ كان مختلفـاً الاختلاف الذي وصفت فـيـما نزلت فـيه هذه الآية، فـالواجب علـينا استعمالها فـيـما دلت علـيه من الـحكم بـالـخبر القاطع العذر. وقد تظاهرت الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالنقل العام أن نفس الرجل الـحرّ قود قصاصاً بنفس الـمرأة الـحرّة، فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأمة مختلفة فـي التراجع بفضل ما بـين دية الرجل والـمرأة علـى ما قد بـينا من قول علـيّ وغيره وكان واضحاً فساد قول من قال بـالقصاص فـي ذلك والتراجع بفضل ما بـين الديتـين بإجماع جميع أهل الإسلام علـى أن حراماً علـى الرجل أن يتلف من جسده عضواً بعوض يأخذه علـى إتلافه فدع جميعه، وعلـى أن حراماً علـى غيره إتلاف شيء منه مثل الذي حرم من ذلك بعوض يعطيه علـيه، فـالواجب أن تكون نفس الرجل الـحرّ بنفس الـمرأة الـحرّة قوداً. وإذا كان ذلك كذلك كان بـيّناً بذلك أنه لـم يرد بقوله تعالـى ذكره:{ الـحُرُّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى } أن لا يقاد العبد بـالـحرّ، وأن لا تقتل الأنثى بـالذكر، ولا الذكر بـالأنثى. وإذا كان ذلك كذلك كان بـيناً أن الآية معنـيّ بها أحد الـمعنـيـين الآخرين: إما قولنا من أن لا يتعدى بـالقصاص إلـى غير القاتل والـجانـي، فـيؤخذ بـالأنثى الذكر، وبـالعبد الـحرّ. وإما القول الآخر وهو أن تكون الآية نزلت فـي قوم بأعيانهم خاصة أمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصاصاً بعضها من بعض، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله. وقد أجمع الـجميع لا خلاف بـينهم علـى أن الـمقاصة فـي الـحقوق غير واجبة، وأجمعوا علـى أن الله لـم يقض فـي ذلك قضاء ثم نسخه وإذا كان كذلك، وكان قوله تعالـى ذكره:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القصاص } ينبىء عن أنه فرض كان معلوماً أن القول خلاف ما قاله قائل هذه الـمقالة، لأن ما كان فرضاً علـى أهل الـحقوق أن يفعلوه فلا خيار لهم فـيه، والـجميع مـجمعون علـى أن لأهل الـحقوق الـخيار فـي مقاصتهم حقوقهم بعضها من بعض، فإذا تبـين فساد هذا الوجه الذي ذكرنا، فـالصحيح من القول فـي ذلك هو ما قلنا.

فإن قال قائل إذ ذكرت أن معنى قوله:{ كُتِب عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ } بـمعنى: فرض علـيكم القِصاصُ: لا يعرف لقول القائل «كُتب» معنى إلا معنى خط ذلك فرسم خطاً وكتابـاً، فما برهانك علـى أن معنى قوله «كتب» فرض؟ قـيـل: إن ذلك فـي كلام العرب موجود، وفـي أشعارهم مستفـيض، ومنه قول الشاعر:

كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتالُ عَلَـيْناوَعَلـى الـمُـحْصَناتِ جَرُّ الذُّيُولِ

وقول نابغة بنـي جعدة:

يا بِنْتَ عَمّي كِتابُ اللّهِ أخْرَجَنِـيعَنْكُمْ فَهَلْ أمْنَعَنَّ اللّهَ ما فَعَلا

وذلك أكثر فـي أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك وإن كان بـمعنى فرض، فإنه عندي مأخوذ من الكتاب الذي هو رسم وخط، وذلك أن الله تعالـى ذكره قد كتب جميع ما فرض علـى عبـاده وما هم عاملوه فـي اللوح الـمـحفوظ، فقال تعالـى ذكره فـي القرآن: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 21-22] وقال: { { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [الواقعه: 77-78] فقد تبـين بذلك أن كل ما فرضه علـينا ففـي اللوح الـمـحفوظ مكتوب.

فمعنى قول إذْ كان ذلك كذلك:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ } كتب علـيكم فـي اللوح الـمـحفوظ القصاص فـي القتلـى فرضاً أن لا تقتلوا بـالـمقتول غير قاتله.

وأما القِصاص فإنه من قول القائل: قاصصت فلاناً حقـيِّ قِبَله من حقه قِبَلـي، قصاصاً ومُقاصَّةً فَقْتُل القاتل بـالذي قتله قصاص، لأنه مفعول به مثل الذي فعل بـمن قتله، وإن كان أحد الفعلـين عدواناً والآخر حقّاً، فهما وإن اختلفـا من هذا الوجه، فهما متفقان فـي أن كل واحد قد فعل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به، وجعل فعل ولـيّ القتـيـل الأول إذا قتل قاتل ولـيه قصاصاً، إذ كان بسبب قتله استـحقّ قتل من قتله، فكأنّ ولـيه الـمقتول هو الذي ولـى قتل قاتله فـاقتصّ منه.

وأما القتلـى، فإنها جمع قتـيـل، كما الصرعى جمع صريع، والـجرحى جمع جريح. وإنـما يجمع الفعيـل علـى الفعلـى، إذا كان صفة للـموصوف به بـمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه علـى البراح من موضعه ومصرعه، نـحو القتلـى فـي معاركهم، والصرعى فـي مواضعهم، والـجرحى وما أشبه ذلك.

فتأويـل الكلام إذن: فرض علـيكم أيها الـمؤمنون القصاص فـي القتلـى أن يقتصّ الـحرّ بـالـحرّ، والعبد بـالعبد، والأنثى بـالأنثى. ثم ترك ذكر أن يقتص اكتفـاء بدلالة قوله:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ }علـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَـيْه بإحسانٍ }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: تأويـله: فمن ترك له من القتل ظلـماً من الواجب كان لأخيه علـيه من القصاص، وهو الشيء الذي قال الله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ } من العافـي للقاتل بـالواجب له قِبَله من الدية، وأداء من الـمعفوّ عنه ذلك إلـيه بإحسان. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابـي، قالا: ثنا سفـيان بن عيـينة، عن عمرو، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ } فـالعفو أن يقبل الدية فـي العمد، واتبـاع بـالـمعروف أن يطلب هذا بـمعروف ويؤدي هذا بإحسان.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا حجاج بن الـمنهال، قال: ثنا حماد بن سلـمة، قال: ثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبـاس أنه قال فـي قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَـيْه بإحْسانِ } فقال: هو العمد يرضى أهله بـالدية { وَاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ } أمر به الطالب { وأدَاءٌ إلـيه بـاحْسانٍ } من الـمطلوب.

حدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن سفـيان، قال: ثنا أبـي، وحدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد بن نصر قالا جميعاً: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن مـحمد بن مسلـم، عن عمرو بن دينار، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس، قال: الذي يقبل الدية ذلك منه عفو، واتبـاع بـالـمعروف، ويؤدي إلـيه الذي عفـي له من أخيه بإحسان.

حدثنـي مـحمد بن سعد قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوف وأدَاءٌ إلـيْه بإحْسانٍ } وهي الدية أن يحسن الطالب الطلب{ وأدَاءٌ إلَـيْهِ بإحْسانٍ } وهو أن يحسن الـمطلوب الأداء.

حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوف وأدَاءٌ إلَـيْهِ بإحْسانٍ } والعفوّ الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية.

حدثنا سفـيان، قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ } قال: الدية.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن يزيد، عن إبراهيـم، عن الـحسن:{ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ } قال: علـى هذا الطالب أن يطلب بـالـمعروف، وعلـى هذا الـمطلوب أن يؤدي بإحسان.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْروُفِ } والعَفْوُّ: الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية.

حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا أبو الولـيد، قال: ثنا حماد، عن داود بن أبـي هند، عن الشعبـي فـي قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ } قال: هو العمد يرضى أهله بـالدية.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا الـحجاج، قال: ثنا حماد، عن داود، عن الشعبـي، مثله.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ } يقول: قتل عمداً فعفـى عنه، وقبلت منه الدية، يقول:{ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ } فأمر الـمتبع أن يتبع بـالـمعروف، وأمر الـمؤدي أن يؤدي بإحسان، والعمد قود إلـيه قصاص، لا عَقْل فـيه إلا أن يرضوا بـالدية، فإن رضوا بـالدية فمائة خَـلِفَة، فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا فذاك لهم.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله:{ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ } قال: يتبع به الطالب بـالـمعروف، ويؤدي الـمطلوب بإحسان.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ } يقول: فمن قتل عمداً فعفـي عنه وأخذت منه الدية، يقول:{ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ }: أمر صاحب الدية التـي يأخذها أن يتبع بـالـمعروف، وأمر الـمؤدي أن يؤدي بإحسان.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ } قال: ذلك إذا أخذ الدية فهو عفو.

حدثنا الـحسن، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي القاسم بن أبـي بزة، عن مـجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفـا عن القصاص، فذلك قوله: { فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ }. قال ابن جريج: وأخبرنـي الأعرج عن مـجاهد مثل ذلك، وزاد فـيه: فإذا قبل الدية فإن علـيه أن يتبع بـالـمعروف، وعلـى الذي عفـى عنه أن يؤدي بإحسان.

حدثنا الـمثنى قال: ثنا مسلـم بن إبراهيـم قال: ثنا أبو عقـيـل قال: قال الـحسن: أخذ الدية عفو حسن.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وأدَاءٌ إلَـيْهِ بإحْسانٍ } قال: أنت أيها الـمعفوّ عنه.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ } وهو الدية أن يحسن الطالب، وأداء إلـيه بإحسان: هو أن يحسن الـمطلوب الأداء.

وقال آخرون معنى قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ } فمن فضل له فضل وبقـيت له بقـية. وقالوا: معنى قوله:{ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ } من دية أخيه شيء، أو من أَرْش جراحته فـاتبـاع منه القاتل أو الـجارح الذي بقـي ذلك قبله بـمعروف وأداء من القاتل أو الـجارح إلـيه ما بقـي قبله له من ذلك بإحسان.

وهذا قول من زعم أن الآية نزلت، أعنـي قوله:{ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى } فـي الذين تـحاربوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلـح بـينهم فـيقاص ديات بعضهم من بعض ويردّ بعضهم علـى بعض بفضل إن بقـي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلـي هذا القول وجهوا تأويـل العفو فـي هذا الـموضع إلـى الكثرة من قول الله تعالـى ذكره: حَتـى عَفَوْا، فكان معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قِبَل أخيه القاتل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ } يقول: بقـي له من دية أخيه شيء أو من أرش جراحته، فلـيتبع بـمعروف ولـيؤدّ الآخر إلـيه بإحسان.

والواجب علـى تأويـل القول الذي روينا عن علـيّ والـحسن فـي قوله:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ } أنه بـمعنى مقاصة دية النفس الذكر من دية النفس الأنثى، والعبد من الـحرّ، والتراجع بفضل ما بـين ديتـي أنفسهما أن يكون معنى قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ } فمن عفـي له من الواجب لأخيه علـيه من قصاص دية أحدهما بدية نفس الآخر إلـى الرضى بدية نفس الـمقتول، فـاتبـاع من الولـيّ بـالـمعروف، وأداء من القاتل إلـيه ذلك بإحسان.

وأولـى الأقوال عندي بـالصواب فـي قوله:{ فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ } فمن صفح له من الواجب كان لأخيه علـيه من القود عن شيء من الواجب علـى دية يأخذها منه، فـاتبـاع بـالـمعروف من العافـي عن الدم الراضي بـالدية من دم ولـيه، وأداء إلـيه من القاتل ذلك بإحسان لـما قد بـينا من العلل فـيـما مضى قبل من أن معنى قول الله تعالـى ذكره:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ } إنـما هو القصاص من النفوس القاتلة أو الـجارحة والشاجة عمداً، كذلك العفو أيضاً عن ذلك.

وأما معنى قوله:{ فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ } فإنه يعنـي: فـاتبـاع علـى ما أوجبه الله له من الـحق قِبَل قاتل ولـيه من غير أن يزداد علـيه ما لـيس له علـيه فـي أسنان الفرائض أو غير ذلك، أو يكلفه ما لـم يوجبه الله له علـيه. كما:

حدثنـي بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: بلغنا عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن زَادَ أو ازدَادَ بَعِيراً" يعنـي فـي إبل الديات وفرائضها «فمِنْ أمْرِ الـجاهِلِـيةِ» وأما إحسان الآخر فـي الأداء، فهو أداء ما لزمه بقتله لولـي القتـيـل علـى ما ألزمه الله وأوجبه علـيه من غير أن يبخسه حقا له قِبَله بسبب ذلك، أو يُحْوجه إلـى اقتضاء ومطالبة.

فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: { فـاتِّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ } ولـم يقل: فـاتبـاعاً بـالـمعروف وأداء إلـيه بإحسان، كما قال: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } [محمد: 4]؟ قـيـل: لو كان التنزيـل جاء بـالنصب، وكان: فـاتبـاعاً بـالـمعروف وأداءً إلـيه بإحسان، كان جائزاً فـي العربـية صحيحاً علـى وجه الأمر، كما يقال: ضربـاً ضربـاً، وإذا لقـيت فلاناً فتبجيلاً وتعظيـماً غير أنه جاء رفعاً، وهو أفصح فـي كلام العرب من نصبه، وكذلك ذلك فـي كل ما كان نظيراً له مـما يكون فرضاً عاماً فـيـمن قد فعل وفـيـمن لـم يفعل إذا فعل، لا ندبـاً وحَثّا. ورفعه علـى معنى: فمن عفـي له من أخيه شيء فـالأمر فـيه اتبـاع بـالـمعروف، وأداء إلـيه بإحسان، أو: فـالقضاء والـحكم فـيه اتبـاع بـالـمعروف. وقد قال بعض أهل العربـية: رفع ذلك علـى معنى: فمن عفـي له من أخيه شيء فعلـيه اتبـاع بـالـمعروف. وهذا مذهبـي، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام، وكذلك كل ما كان من نظائر ذلك فـي القرآن فإنّ رفعه علـى الوجه الذي قلناه، وذلك مثل قوله: { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } [المائدة: 95] وقوله: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ }

[البقرة: 229]. وأما قوله:{ فَضَرْبَ الرّقابِ } فإن الصواب فـيه النصب، وهو وجه الكلام لأنه علـى وجه الـحثّ من الله تعالـى ذكره عبـاده علـى القتل عند لقاء العدوّ كما يقال: إذا لقـيتـم العدوّ فتكبـيراً وتهلـيلاً، علـى وجه الـحضّ علـى التكبـير لا علـى وجه الإيجاب والإلزام.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ ذَلِكَ تَـخْفـيفٌ مِن رَبِّكُم وَرَحَمةٌ }.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله ذلك: هذا الذي حكمت به وسننته لكم من إبـاحتـي لكم أيتها الأمة العفو عن القصاص من قاتل قتـيـلكم علـى دية تأخذونها فتـملكونها ملككم سائر أموالكم التـي كنت منعتها مَن قبلكم من الأمـم السالفة،{ تَـخْفـيفٌ مِنْ رَبِّكم } يقول: تـخفـيف منـي لكم مـما كنت ثقلته علـى غيركم بتـحريـم ذلك علـيهم ورحمة منـي لكم. كما:

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابـي، قالا: ثنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس، قال: كان فـي بنـي إسرائيـل القصاصُ ولـم تكن فـيهم الدية، فقال الله فـي هذه الآية:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرُّ بـالـحُرِّ } إلـى قوله:{ فَمَنْ عُفِـىَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ } فـالعفو أن يقبل الدية فـي العمد،{ ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِن رَبِّكُمْ } يقول: خفف عنكم ما كان علـى من كان قبلكم أن يطلب هذا بـمعروف ويؤدي هذا بإحسان.

حدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن شقـيق، قال: ثنا أبـي، قال: ثنا عبد الله بن الـمبـارك، عن مـحمد بن مسلـم، عن عمرو بن دينار، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس، قال: كان من قبلكم يقتلون القاتل بـالقتـيـل لا تقبل منهم الدية، فأنزل الله:{ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرُّ بـالـحُرّ } إلـى آخر الآية{ ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } يقول: خفف عنكم وكان علـى من قبلكم أن الدية لـم تكن تقبل، فـالذي يقبل الدية ذلك منه عفو.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: ثنا حماد بن سلـمة، قال: أخبرنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبـاس:{ ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِن رَبِّكُم وَرَحَمةٌ } مـما كان علـى بنـي إسرائيـل، يعنـي من تـحريـم الدية علـيهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس قال: كان علـى بنـي إسرائيـل قصاص فـي القتل لـيس بـينهم دية فـي نفس ولا جرح، وذلك قول الله: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } [المائدة: 45] الآية كلها. وخفف الله عن أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم، فقبل منهم الدية فـي النفس وفـي الـجراحة، وذلك قوله تعالـى: { ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِن رَبِّكُم بـينكم.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ ذَلِكَ تَـخْفِـيف مِن رَبكُم وَرَحَمَةٌ } وإنـما هي رحمة رحم الله بها هذه الأمة أطعمهم الدية، وأحلها لهم، ولـم تـحلّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنـما هو القصاص أو العفو، ولـيس بـينهما أرش. وكان أهل الإنـجيـل إنـما هو عفو أمروا به، فجعل الله لهذه الأمة القود والعفو والدية إن شاءوا أحلها لهم، ولـم تكن لأمة قبلهم.

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله سواء، غير أنه قال: لـيس بـينهما شيء.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله:{ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاص فِـي القَتْلَـى } قال: لـم يكن لـمن قبلنا دية، إنـما هو القتل أو العفو إلـى أهله، فنزلت هذه الآية فـي قوم كانوا أكثر من غيرهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: وأخبرنـي عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس، قال: إن بنـي إسرائيـل كان كتب علـيهم القصاص، وخفف عن هذه الأمة. وتلا عمرو بن دينار:ر ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَة }.

وأما علـى قول من قال: القصاص فـي هذه الآية معناه: قصاص الديات بعضها من بعض علـى ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويـله: هذا الذي فعلت بكم أيها الـمؤمنون من قصاص ديات قتلـى بعضكم بديات بعض وترك إيجاب القود علـى البـاقـين منكم بقتـيـله الذي قتله وأخذه بديته، تـخفـيف منـي عنكم ثقل ما كان علـيكم من حكمي علـيكم بـالقود أو الدية ورحمة منـي لكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ }.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } فمن تـجاوز ما جعله الله له بعد أخذه الدية اعتداء وظلـماً إلـى ما لـم يجعل له من قتل قاتل ولـيه وسفك دمه، فله بفعله ذلك وتعدّيه إلـى ما قد حرمته علـيه عذاب ألـيـم. وقد بـينت معنى الاعتداء فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } فقتل،{ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ }.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فمن اعتدى بعد أخذ الدية فله عذاب ألـيـم.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل، فله عذاب ألـيـم. قال: وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا أعُافِـي رَجُلاً قَتَلَ بَعْدَ أخْذِهِ الدّيَة" حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } قال: هو القتل بعد أخذ الدية، يقول: من قتل بعد أن يأخذ الدية فعلـيه القتل لا تقبل منه الدية.

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ } يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فله عذاب ألـيـم.

حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنـي أبـي، عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن، قال: كان الرجل إذا قتل قتـيلاً فـي الـجاهلـية فرّ إلـى قومه، فـيجيء قومه فـيصالـحون عنه بـالدية. قال: فـيخرج الفـارّ وقد أمن علـى نفسه. قال: فـيقتل ثم يرمى إلـيه بـالدية، فذلك الاعتداء.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: ثنا أبو عقـيـل قال: سمعت الـحسن فـي هذه الآية: { فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ } قال: القاتل إذا طلب فلـم يقدر علـيه، وأخذ من أولـيائه الدية، ثم أمن فأخذ فقتل، قال الـحسن: ما أكل عدوان.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا مسلـم، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هارون بن سلـيـمان، قال: قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذا يقتل، أما سمعت الله يقول:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ }.

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } بعد ما يأخذ الدية فـيقتل، { فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ }.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية،{ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ }.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ } قال: أخذ العقل ثم قتل بعد أخذ العقل قاتل قتـيـله فله عذاب ألـيـم.

واختلفوا فـي معنى العذاب الألـيـم الذي جعله الله لـمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل ولـيه، فقال بعضهم: ذلك العذاب هو القتل بـمن قتله بعد أخذ الدية منه وعفوه عن القصاص منه بدم ولـيه. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم الدورقـي، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ } قال: يقتل، وهو العذاب الألـيـم، يقول: العذاب الـموجع.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنـي هشيـم، قال: ثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبـير أنه قال ذلك.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: ثنا القاسم، قال: حدثنا هارون بن سلـيـمان، عن عكرمة:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ } قال: القتل.

وقال بعضهم: ذلك العذاب عقوبة يعاقبه بها السلطان علـى قدر ما يرى من عقوبته. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي القاسم بن الـحسن، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي إسماعيـل بن أمية، عن اللـيث غير أنه لـم ينسبه، وقال: ثقة: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أوجب بقسم أو غيره أن لا يُعفـى عن رجل عفـا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل.

قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: فـي كتاب لعمر عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والاعتداء» الذي ذكر الله أن الرجل يأخذ العقل أو يقتصّ، أو يقضي السلطان فـيـما بـين الـجراح، ثم يعتدي بعضهم من بعد أن يستوعب حقه، فمن فعل ذلك فقد اعتدى، والـحكم فـيه إلـى السلطان بـالذي يرى فـيه من العقوبة. قال: ولو عفـا عنه لـم يكن لأحد من طلبة الـحق أن يعفو، لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فـيه قوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } .

[النساء: 59] حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الـحسن فـي رجل قتل فأخذت منه الدية، ثم إن ولـيه قتل به القاتل، قال الـحسن: تؤخذ منه الدية التـي أخذ ولا يقتل به.

وأولـى التأويـلـين بقوله:{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ } تأويـل من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فقتل قاتل ولـيه، فله عذاب ألـيـم فـي عاجل الدنـيا وهو القتل لأن الله تعالـى جعل لكل ولـيّ قتـيـل قتل ظلـماً سلطاناً علـى قاتل ولـيه، فقال تعالـى ذكره: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } [الإسراء: 33]. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الـجميع من أهل العلـم مـجمعين علـى أن من قتل قاتل ولـيه بعد عفوه عنه وأخذه منه دية قتـيـله أنه بقتله إياه له ظالـم فـي قتله، كان بـيناً أن لا يولِّـي من قتله ظلـماً كذلك السلطان علـيه فـي القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. وإذا كان ذلك كذلك كان معلوماً أن ذلك عذابه، لأن من أقـيـم علـيه حده فـي الدنـيا كان ذلك عقوبته من ذنبه ولـم يكن به متبعاً فـي الآخرة، علـى ما قد ثبت به الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما ما قاله ابن جريج من أن حكم من قتل قاتل ولـيه بعد عفوه عنه وأخذه دية ولـيه الـمقتول إلـى الإمام دون أولـياء الـمقتول، فقول خلاف لـما دلّ علـيه ظاهر كتاب الله وأجمع علـيه علـماء الأمة. وذلك أن الله جعل لولـيّ كل مقتول ظلـماً السلطان دون غيره من غير أن يخصّ من ذلك قتـيلاً دون قتـيـل، فسواء كان ذلك قتـيـل ولـي من قتله أو غيره. ومن خصّ من ذلك شيئاً سئل البرهان علـيه من أصل أو نظير وعكس علـيه القول فـيه، ثم لن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الآخر مثله. ثم فـي إجماع الـحجة علـى خلافه ما قاله فـي ذلك مكتفـى فـي الاستشهاد علـى فساده بغيره.