التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٢٠
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا مـحمد عن الـخمر وشربها. والـخمر: كل شراب خامر العقل فستره وغطى علـيه، وهو من قول القائل: خَمَرت الإناء إذا غطيته، وخَمِرَ الرجل: إذا دخـل فـي الـخَمَرِ، ويقال: هو فـي خُمار الناس وغُمارهم، يراد به: دخـل فـي عُرض الناس، ويقال للضبع: خامري أم عامر، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر، ومن ذلك أيضاً خِمار الـمرأة، وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه، ومنه يقال: هو يـمشي لك الـخَمَر، أي مستـخفـياً، كما قال العجاج:

فِـي لامِعِ الِعقْبـانِ لا يأتـي الـخَمَرْيُوجِّهُ الأرْضَ ويَسْتاقُ الشَّجَرْ

ويعنـي بقوله: لا يأتـي الـخمر: لا يأتـي مستـخفـياً ولا مسارقة، ولكن ظاهراً برايات وجيوش والعقبـان جمع عقاب، وهي الرايات.

وأما «الـميسر» فإنها «الـمفعِل» من قول القائل: يسَر لـي هذا الأمر: إذا وجب لـي فهو يَـيْسِر لـي يَسَراً ومَيْسِراً، والـياسر: الواجب، بقداح وجب ذلك أو مبـاحه أو غير ذلك، ثم قـيـل للـمقامر: ياسر، ويَسَر، كما قال الشاعر:

فَبِتُّ كأنَّنِـي يَسَرٌ غَبِـينٌيُقَلِّبُ بَعْدَما اخْتُلِعَ القِدَاحا

وكما قال النابغة:

أوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بوَفْرِهأسِفٌ نآكَلَهُ الصَّديقُ مُخَـلَّعُ

يعنـي بـالـياسر: الـمقامر، وقـيـل للقمار: ميسر، وكان مـجاهد يقول نـحو ما قلنا فـي ذلك.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله:{ يَسألُونَكَ عَن الـخَمْرِ وَالـمَيْسِر } قال: القمار، وإنـما سمي الـميسر لقولهم أيسروا واجزروا، كقولك ضع كذا وكذا.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: كل القمار من الـميسر، حتـى لعب الصبـيان بـالـجوز.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن،قال: ثنا سفـيان، عن عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، قال: قال عبد الله: إياكم وهذه الكعاب الـموسومة التـي تزجرون بها زجرا فإنهن من الـميسر.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، مثله.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن نافع، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن أبـي زياد، عن أبـي الأحوص، عن عبد الله أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التـي تزجرون بها زجراً، فإنها من الـميسر.

حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي، قال: ثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن مـحمد بن سيرين، قال: القمار: ميسر.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفـيان، عن عاصم الأحول، عن مـحمد بن سيرين، قال: كل شيء له خطر، أو فـي خطر أبو عامر شك فهو من الـميسر.

حدثنا الولـيد بن شجاع أبو همام، قال: ثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن مـحمد بن سيرين، قال: كل قمار ميسر حتـى اللعب بـالنرد علـى القـيام والصياح والريشة يجعلها الرجل فـي رأسه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين، قال: كل لعب فـيه قمار من شرب أو صياح أو قـيام فهو من الـميسر.

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا خالد بن الـحرث، قال: ثنا الأشعث، عن الـحسن، أنه قال: الـميسر: القمار.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا الـمعتـمر، عن لـيث، عن طاوس وعطاء قالا: كل قمار فهو من الـميسر، حتـى لعب الصبـيان بـالكعاب والـجوز.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، قال: الـميسر: القمار.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، عن عبـيد الله قال: إياكم وهاتـين الكعبتـين يزجر بهما زجراً فإنهما من الـميسر.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا ابن علـية، عن ابن أبـي عروبة، عن قتادة، قال: أما قوله والـميسر، فهو القمار كله.

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يحيى بن عبد الله بن سالـم، عن عبـيد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبـيد الله يقول للقاسم بن مـحمد: النرد: ميسر، أرأيت الشطرنـج ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو ميسر.

حدثنـي علـيّ بن داود، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قال: الـميسر: القمار، كان الرجل فـي الـجاهلـية يخاطر علـى أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله.

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قال: الـميسر القمار.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: الـميسر القمار.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن اللـيث، عن مـجاهد وسعيد بن جبـير، قالا: الـميسر: القمار كله، حتـى الـجوز الذي يـلعب به الصبـيان.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: سمعت عبـيد بن سلـيـمان يحدث عن الضحاك قوله: الـميسر: قال: القمار.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: الـميسر: القمار.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو بدر شجاع بن الولـيد، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع أن ابن عمر كان يقول: القمار من الـميسر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: الـميسر قداح العرب، وكعاب فـارس. قال: وقال ابن جريج، وزعم عطاء بن ميسرة أن الـميسر: القمار كله.

حدثنا ابن البرقـي، قال: ثنا عمرو بن أبـي سلـمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: قال مكحول: الـميسر: القمار.

حدثنا الـحسين بن مـحمد الذارع، قال: ثنا الفضل بن سلـيـمان وشجاع بن الولـيد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الـميسر: القمار.

وأما قوله: { قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ } فإنه يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لهم فـيهما، يعنـي فـي الـخمر والـميسر إثم كبـير. فـالإثم الكبـير الذي فـيهما ما ذكر عن السدي فـيـما:

حدثنـي به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: أما قوله: { فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ } فإثم الـخمر أن الرجل يشرب فـيسكر فـيؤذي الناس. وإثم الـميسر أن يقامر الرجل فـيـمنع الـحق ويظلـم.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ } قال: هذا أول ما عيبت به الـخمر.

حدثنـي علـيّ بن داود، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله:{ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ } يعنـي ما ينقص من الدين عند من يشربها.

والذي هو أولـى بتأويـل الآية، الإثم الكبـير الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه فـي الـخمر والـميسر، فـالـخمر ما قاله السدي زوال عقل شارب الـخمر إذا سكر من شربه إياها حتـى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظم الآثام، وذلك معنى قول ابن عبـاس إن شاء الله. وأما فـي الـميسر فما فـيه من الشغل به عن ذكر الله، وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بـين الـمتـياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: { { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ } [المائدة: 91].

وأما قوله:{ وَمَنافِعُ للنّاسِ } فإن منافع الـخمر كانت أثمانها قبل تـحريـمها، وما يصلون إلـيه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى فـي صفتها:

لنَا مِنْ صُحاها خُبْثُ نَفْسٍ وكأْبَةٌوَذِكْرَى همُومٍ ما تَفُكُّ أذَاتُها
وَعِندَ العِشاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذَّةٌومالٌ كَثِـيرٌ عِدَّةٌ نَشَوَاتُها

وكما قال حسان:

فَنَشْرَبُها فتترُكُنا مُلُوكاًوأُسْداً ما يُنَهْنِهُنا اللِّقاءُ

وأما منافع الـميسر فـيـما يصيبون فـيه من أنصبـاء الـجزور، وذلك أنهم كانوا يـياسرون علـى الـجزور، وإذا أفلـج الرجل منهم صاحبه نـحره، ثم اقتسموا أعشاراً علـى عدد القداح، وفـي ذلك يقول أعشى بنـي ثعلبة:

وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ إلـى النَّدَىونِـياطِ مُقْـفِرَةٍ أخافُ ضَلاَلهَا

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـمنافع ههنا: ما يصيبون من الـجزور.

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط عن السدي: أما منافعهما فإن منفعة الـخمر فـي لذته وثمنه، ومنفعة الـميسر فـيـما يصاب من القمار.

حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: ثنا ابن أبـي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ } قال: منافعهما قبل أن يحرّما.

حدثنا علـيّ بن داود، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس:{ وَمَنافعُ للنَّاسِ } قال: يقول فـيـما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها.

واختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه عظم أهل الـمدينة وبعض الكوفـيـين والبصريـين { قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ } بـالبـاء، بـمعنى: قل فـي شرب هذه والقمار هذا كبـير من الآثام. وقرأه آخرون من أهل الـمصرين، البصرة والكوفة: «قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَثـيرٌ» بـمعنى الكثرة من الآثام، وكأنهم رأوا أن الإثم بـمعنى الآثام، وإن كان فـي اللفظ واحداً فوصفوه بـمعناه من الكثرة.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأه بـالبـاء:{ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ } لإجماع جميعهم علـى قوله:{ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وقراءته بـالبـاء وفـي ذلك دلالة بـينة علـى أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك هو العظم والكبر، لا الكثرة فـي العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقـيـل وإثمهما أكثر من نفعهما.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }.

يعنـي بذلك عزّ ذكره: والإثم بشرب هذه والقمار هذا، أعظم وأكبر مضرّة علـيهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنـما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم علـى بعض وقاتل بعضهم بعضاً، وإذا ياسروا وقع بـينهم فـيه بسببه الشرّ، فأدّاهم ذلك إلـى ما يأثمون به.

ونزلت هذه الآية فـي الـخمر قبل أن يصرّح بتـحريـمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إلـيهما، وإنـما الإثم بأسبـابهما، إذ كان عن سببهما يحدث.

وقد قال عدد من أهل التأويـل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تـحريـمهما أكبر من نفعهما قبل تـحريـمهما. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } قال: منافعهما قبل التـحريـم، وإثمهما بعدما حرّما.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع: { وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ينزل الـمنافع قبل التـحريـم، والإثم بعد ما حرّم.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنـي عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله:{ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } يقول: إثمهما بعد التـحريـم أكبر من نفعهما قبل التـحريـم.

حدثنـي علـيّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: { وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } يقول: ما يذهب من الدين والإثم فـيه أكبر مـما يصيبون فـي فرحها إذا شربوها.

وإنـما اخترنا ما قلنا فـي ذلك من التأويـل لتواتر الأخبـار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تـحريـم الـخمر والـميسر، فكان معلوماً بذلك أن الإثم الذي ذكر الله فـي هذه الآية فأضافه إلـيهما إنـما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبـابهما علـى ما وصفنا، لا الإثم بعد التـحريـم.

ذكر الأخبـار الدالة علـى ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تـحريـم الـخمر:

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا قـيس، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما نزلت:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ } فكرهها قوم لقوله:{ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ } وشربها قوم لقوله:{ وَمَنافِعُ للنَّاسِ }، حتـى نزلت: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43] قال: فكانوا يدعونها فـي حين الصلاة ويشربونها فـي غير حين الصلاة، حتـى نزلت:{ إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ } فقال عمر: ضيعةً لك الـيوم قرنت بـالـميسر.

حدثنـي مـحمد بن معمر، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا مـحمد بن أبـي حميد، عن أبـي توبة الـمصري، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنزل الله عز وجل فـي الـخمر ثلاثاً، فكان أول ما أنزل:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ } الآية، فقالوا: يا رسول الله ننتفع بها ونشربها، كما قال الله جل وعز فـي كتابه. ثم نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ ... } [النساء: 43] الآية، قالوا: يا رسول الله لا نشربها عند قرب الصلاة قال: ثم نزلت: { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ } [المائدة: 90] الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُرّمَتِ الـخَمْرُ" .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الـحسين، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن قالا: قال الله: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43] { ويَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنَّاسٍ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فنسختها الآية التـي فـي الـمائدة، فقال: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } [المائدة: 90] الآية.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عوف، عن أبـي القموص زيد بن علـيّ، قال: أنزل الله عز وجل فـي الـخمر ثلاث مرات فأول ما أنزل قال الله:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنَّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } قال: فشربها من الـمسلـمين من شاء الله منهم علـى ذلك، حتـى شرب رجلان، فدخلا فـي الصلاة، فجعلا يهجران كلاماً لا يدري عوف ما هو، فأنزل الله عز وجل فـيهما: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43] فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتـى شربها فـيـما زعم أبو القموص رجلٌ، فجعل ينوح علـى قتلـى بدر:

تُـحَيِّـي بـالسَّلامَةِ أُمُّ عَمرووهلْ لكِ بعدَ رَهْطِكِ من سَلامِ
ذَرِيِني أصْطَبِحْ بَكْرا فإنّيرأيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشامِ
وَوَدّ بَنُو المُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُبألْفٍ مِنْ رجالٍ أوْ سَوَامِ
كأني بالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍمِنَ الشيِّزَى يُكَلّلُ بالسَّنامِ
كأني بالطَّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍمِنَ الفِتْيانِ والحُلَل الكِرَامِ

قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع حتـى انتهى إلـيه، فلـما عاينه الرجل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كان بيده ليضربه، قال: أعوذ بـالله من غضب الله ورسوله، والله لا أطعَمُها أبداً فأنزل الله تـحريـمها: { { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ... } [المائدة: 90] إلـى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91] فقال عمر بن الـخطاب رضي الله عنه: انتهينا انتهينا.

حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: ثنا إسحاق الأزرق، عن زكريا عن سماك، عن الشعبـي، قال: نزلت فـي الـخمر أربع آيات:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنَّاسِ } فتركوها، ثم نزلت: { { تَتَّـخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } فشربوها. ثم نزلت الآيتان فـي الـمائدة { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ } [المائدة: 90] إلـى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91].

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قال: نزلت هذه الآية:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ }الآية، فلـم يزالوا بذلك يشربونها، حتـى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعا ناساً من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـيهم علـيّ بن أبـي طالب، فقرأ: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } [الكافرون: 1] ولـم يفهمها، فأنزل الله عز وجل يشدّد فـي الـخمر: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43] فكانت لهم حلالاً، يشربون من صلاة الفجر حتـى يرتفع النهار أو ينتصف، فـيقومون إلـى صلاة الظهر وهم مُصْحون، ثم لا يشربونها حتـى يصلوا العتـمة وهي العشاء، ثم يشربونها حتـى ينتصف اللـيـل وينامون، ثم يقومون إلـى صلاة الفجر وقد صحوا. فلـم يزالوا بذلك يشربونها، حتـى صنع سعد بن أبـي وقاص طعاماً، فدعا ناساً من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم علـيه، فلـما أكلوا وشربوا من الـخمر سكروا وأخذوا فـي الـحديث، فتكلـم سعد بشيء، فغضب الأنصاري، فرفع لـحى البعير فكسر أنف سعد، فأنزل الله نسخ الـخمر وتـحريـمها وقال: { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ } [المائدة: 90] إلـى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .

[المائدة: 91] حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعن رجل عن مـجاهد فـي قوله:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ } قال: لـما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض، حتـى نزل تـحريـمها فـي سورة الـمائدة.

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ } قال: هذا أوّل ما عيبت به الـخمر.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنَّاسِ } فذمهما الله ولـم يحرّمهما لـما أراد أن يبلغ بهما من الـمدة والأجل، ثم أنزل الله فـي سورة النساء أشدّ منها:{ لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حَّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُوُلونَ } فكانوا يشربونها، حتـى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر علـيهم حراماً. ثم أنزل الله جل وعز فـي سورة الـمائدة بعد غزوة الأحزاب: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } [المائدة: 90] إلـى: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 100] فجاء تـحريـمها فـي هذه الآية قلـيـلها وكثـيرها، ما أسكر منها وما لـم يسكر، ولـيس للعرب يومئذ عيش أعجب إلـيهم منها.

وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنَّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }. قال: لـما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ رَبَّكُمْ يُقَدِّمُ فِـي تَـحْريـمِ الـخَمْرِ" . قال: ثم نزلت: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43] قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَبَّكُمْ يُقَدّمُ فِـي تَـحْرِيـمِ الـخَمْرِ" . قال: ثم نزلت: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ } [المائدة: 90] فحرّمت الـخمر عند ذلك.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله:{ يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ } الآية كلها، قال نسخت ثلاثةً: فـي سورة الـمائدة، وبـالـحدّ الذي حدّ النبـيّ صلى الله عليه وسلم، وضرب النبـيّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدّاً، ولكنه كان يعمل فـي ذلك برأيه، ولـم يكن حدّاً مسمى وهو حد. وقرأ:{ إنَّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ } الآية.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ }.

يعنـي جل ذكره بذلك: ويسألك يا مـحمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فـيتصدقون به، فقل لهم يا مـحمد أنفقوا منها العفو.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى:{ العَفْو } فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: معناه: الفضل. ذكر من قال ذلك.

حدثنا عمرو بن علـيّ البـاهلـي، قال: ثنا وكيع ح، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس قال: العفو: ما فضل عن أهلك.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قل العفو: أي الفضل.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو الفضل.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء فـي قوله: العفو، قال: الفضل.

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قال: العفو، يقول: الفضل.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله:{ وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } قال: كان القوم يعملون فـي كل يوم بـما فـيه، فإن فضل ذلك الـيوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا، ويتصدقون به علـى الناس.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا يونس، عن الـحسن فـي قوله:{ وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } قال: هوالفضل فضل الـمال.

وقال آخرون: معنى ذلك ما كان عفواً لا يبـين علـى من أنفقه أو تصدق به. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالـح قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس:{ وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ } يقول: ما لا يتبـين فـي أموالكم.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس فـي قول الله جل وعز:{ وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } قال: الـيسير من كل شيء.

وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة ما لـم يكن إسرافـاً ولا إقتاراً. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن الـمفضل، عن عوف، عن الـحسن فـي قوله:{ وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } يقول: لا تـجهد مالك حتـى ينفد للناس.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء، عن قوله:{ يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ } قال: العفو فـي النفقة أن لا تـجهد مالك حتـى ينفد، فتسأل الناس.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء، عن قوله { يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } قال: العفو: ما لـم يسرفوا، ولـم يقتروا فـي الـحقّ. قال: وقال مـجاهد: العفو صدقة عن ظهر غنى.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عوف، عن الـحسن فـي قوله:{ يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } قال: هو أن لا تـجهد مالك.

وقال آخرون: معنى ذلك{ قُلِ العَفْوَ } خذ منهم ما أتوك به من شيء قلـيلاً أو كثـيراً. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس:{ وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قَلِ العَفْوَ } يقول: ما أتوك به من شيء قلـيـل أو كثـير، فـاقبله منهم.

وقال آخرون: معنى ذلك ما طاب من أموالكم. ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله:{ يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقونَ قُلِ العَفْوَ } قال: يقول الطيب منه، يقول: أفضل مالك وأطيبه.

حدثت عن عمار بن الـحسن قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قال: كان يقول: العفو: الفضل. يقول: أفضل مالك.

وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة الـمفروضة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد، أو عيسى عن قـيس، عن مـجاهد شك أبو عاصم قول الله جل وعز: { قُلِ العَفْوَ } قال: الصدقة الـمفروضة.

وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى العفو: الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله فـي مؤنتهم وما لا بدّ لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالإذن فـي الصدقة، وصدقة فـي وجه البرّ.

ذكر بعض الأخبـار التـي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك:

حدثنا علـيّ بن مسلـم، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن الـمقبري، عن أبـي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله عندي دينار قال: "أنْفِقْهُ علـى نَفْسِكَ؟" قال: عندي آخر قال: "أنْفِقْهُ علـى أهْلِكَ" قال: عندي آخر قال: "أنْفِقْهُ علـى وَلَدِكَ" قال: عندي آخر قال: "فأنْتَ أبْصَرُ" .

حدثنـي مـحمد بن معمر البحرانـي، قال: ثنا روح بن عبـادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرنـي أبو الزبـير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا كانَ أحَدُكُمَ فَقِـيراً فَلْـيَبَدأ بِنَفْسِهِ، فإنْ كانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْـيَبْدأ مَعَ نَفْسِهِ بِـمَنْ يَعُولُ، ثُمَّ إنْ وَجَدَ فَضْلاً بَعْدَ ذَلِكَ فَلْـيَتَصَدَّقْ علـى غَيْرِهِمْ" .

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا مـحمد بن إسحاق، عن عاصم، عن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبـيد، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببـيضة من ذهب أصابها فـي بعض الـمعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه منـي صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيـمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: "هاتها" مغضبـاً، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره، ثم قال: "يَجِيءُ أحَدُكُمْ بِـمَالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَيجْلِسُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إنَّـمَا الصّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنَى" .

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيـم الـمخرمي، قال: سمعت أبـا الأحوص يحدث عن عبد الله، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ارْضَخْ مِنَ الفَضْلِ، وَابْدأ بِـمَنْ تَعُولُ، وَلا تُلامُ علـى كَفـافٍ" .

وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي يطول بـاستقصاء ذكرها الكتاب. فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بـالفضل عن حاجة الـمتصدق الفضل من ذلك، هو العفو من مال الرجل إذ كان العفو فـي كلام العرب فـي الـمال وفـي كل شيء هو الزيادة والكثرة، ومن ذلك قوله جل ثناؤه: { "حَتـى عَفَوْا " بـمعنى: زادوا علـى ما كانوا علـيه من العدد وكثروا، ومنه قول الشاعر:

وَلَكِنَّا يَعضُّ السَّيْفُ مِنَّابأسْوُقِ عافِـياتِ الشَّحْمِ كُومِ

يعني به كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل: خذ ما عفا لك من فلان، يراد به: ما فضل فصفا لك عن جهده بـما لـم تـجهده. كان بينا أن الذي أذن الله به فـي قوله{ قُلِ العَفْوَ } لعباده من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفـاقه هو الذي بيَّن لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "خَيْرُ الصَّدَقة ما أَنْفقت عن غِنًى" وأذنهم به.

فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة الـمفروضة؟ قـيـل: أنكرنا ذلك لقـيام الـحجة علـى أن من حلت فـي ماله الزكاة الـمفروضة، فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة، أن علـيه أن يسلـمه إلـيهم، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه فـي أداء الواجب كان لهم (فـي) ماله إلـيهم، وذلك لا شك أنه جهده إذا سلـمه إلـيهم لا عفوه، وفـي تسمية الله جل ثناؤه ما علـم عبـاده وجه إنفـاقهم من أموالهم عفواً، ما يبطل أن يكون مستـحقاً اسم جهد فـي حالة، وإذا كان ذلك كذلك فبِّـين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه ربّ الـمال إلـى إمامه، فأعطاه كائناً ما كان من قلـيـل ماله وكثـيره، وقول من زعم أنه الصدقة الـمفروضة.

وكذلك أيضاً لا وجه لقول من يقول: إن معناه ما لـم يتبـين فـي أموالكم، لأن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـما قال له أبو لبـابة: إن من توبتـي أن أنـخـلع إلـى الله ورسوله من مالـي صدقة، قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: "يَكْفِـيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ" وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال له نـحواً من ذلك. والثلث لا شك أنه بـين فقده من مال ذي الـمال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67] وكما قال جل ثناؤه لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [الإسراء: 29] وذلك هو ما حده صلـى الله علـيه وسلـم فـيـما دون ذلك علـى قدر الـمال واحتـماله.

ثم اختلف أهل العلـم فـي هذه الآية: هل هي منسوخة، أم ثابتة الـحكم علـى العبـاد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة نسختها الزكاة الـمفروضة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله:{ يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس:{ يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } قال: لـم تفرض فـيه فريضة معلومة، ثم قال: { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199] ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة.

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قوله:{ يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } هذه نسختها الزكاة.

وقال آخرون: بل مثبتة الـحكم غير منسوخة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد أو عيسى، عن قـيس، عن مـجاهد شك أبو عاصم، قال قال: العفو: الصدقة الـمفروضة.

والصواب من القول فـي ذلك ما قاله ابن عبـاس علـى ما رواه عنه عطية من أن قوله:{ قُلِ العَفْوَ } لـيس بإيجاب فرض فرض من الله حقاً فـي ماله، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مـما يسخطه جوابـاً منه لـمن سأل نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم عما فـيه له رضا، فهو أدب من الله لـجميع خـلقه علـى ما أدبهم به فـي الصدقة غير الـمفروضات ثابت الـحكم غير ناسخ لـحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده، فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتـجاوز فـي صدقات التطوّع وهبـاته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبـيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذَا كانَ عِنْدَ أحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْـيَبْدأ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بأهْلِه، ثُمَّ بِوَلَدِهِ" ثُمَّ يَسْلُكُ حِينَئذٍ فِـي الفَضْلِ مَسالِكَهُ الَّتِـي تُرْضِي اللّهَ ويُحِبُّها. وذلك هو القوام بـين الإسراف والإقتار الذي ذكره الله عز وجلّ فـي كتابه إن شاء الله تعالـى. ويقال لـمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة علـى نسخه؟ وقد أجمع الـجميع لا خلاف بـينهم علـى أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث، فما الذي دلّ علـى أن ذلك منسوخ؟ فإن زعم أنه يعنـي بقوله: إنه منسوخ أن إخراج العفو من الـمال غير لازم فرضا، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة فـي الـمال قـيـل له: وما الدلـيـل علـى أن إخراج العفو كان فرضاً، فأسقطه فرض الزكاة؟ ولا دلالة فـي الآية علـى أن ذلك كان فرضاً، إذ لـم يكن أمر من الله عز ذكره، بل فـيها الدلالة علـى أنها جواب ما سأل عنه القوم علـى وجه التعرف لـما فـيه لله الرضا من الصدقات، ولا سبـيـل لـمدعي ذلك إلـى دلالة توجب صحة ما ادّعى.

وأما القراء فإنهم اختلفوا فـي قراءة العفو، فقرأته عامة قراء الـحجاز وقراء الـحرمين وعظم قراء الكوفـيـين:{ قُلِ العَفْوَ } نصبـاً، وقرأه بعض قراء البصريـين:{ قُلِ العَفْوُ } رفعاً. فمن قرأه نصبـاً جعل «ماذا» حرفـاً واحداً، ونصبه بقوله: { يُنْفِقُونَ }علـى ما قد بـينت قبل، ثم نصب العفو علـى ذلك فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟ ومن قرأه رفعاً جعل «ما» من صلة «ذا» ورفعوا العفو فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: ما الذي ينفقون، قل الذي ينفقون العفو. ولو نصب العفو، ثم جعل «ماذا» حرفـين بـمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل ينفقون العفو، ورفع الذين جعلوا «ماذا» حرفـاً واحداً بـمعنى: ما ينفقون؟ قل الذي ينفقون خبراً كان صوابـاً صحيحاً فـي العربـية. وبأيّ القراءتـين قرىء ذلك عندي صواب لتقارب معنـيـيهما مع استفـاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ وإن كان الأمر كذلك قراءة من قرأه بـالنصب، لأن من قرأ به من القراء أكثر وهو أعرف وأشهر.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ كَذَلِكَ يُبَـينُ اللّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِـي الدُّنْـيا والآخِرَةِ }.

يعنـي بقول عز ذكره:{ كَذَلِكَ يُبَـينُ اللّهُ لَكُمْ الآياتِ } هكذا يبـين أي كما بينت لكم أعلامي وحججي، وهي آياته فـي هذه السورة، وعرفتكم فـيها ما فـيه خلاصكم من عقابـي، وبـينت لكم حدودي وفرائضي، ونبهتكم فـيها علـى الأدلة علـى وحدانـيتـي، ثم علـى حجج رسولـي إلـيكم، فأرشدتكم إلـى ظهور الهدى، فكذلك أبـين لكم فـي سائر كتابـي الذي أنزلته علـى نبـيـي مـحمد صلى الله عليه وسلم آياتـي وحججي، وأوضحها لكم لتتفكروا فـي وعدي ووعيدي وثوابـي وعقابـي، فتـجاوزوا طاعتـي التـي تنالون بها ثوابـي فـي الدار الآخرة، والفوز بنعيـم الأبد علـى القلـيـل من اللذات، والـيسير من الشهوات، بركوب معصيتـي فـي الدنـيا الفـانـية التـي من ركبها، كان معاده إلـيّ، ومصيره إلـى ما لا قبل له به من عقابـي وعذابـي.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا علـيّ بن داود، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس:{ كَذَلِكَ يُبَـيِّنُ اللّهُ لَكُمْ الآياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِـي الدُّنْـيا والآخِرَة } قال: يعنـي فـي زوال الدنـيا وفنائها، وإقبـال الآخرة وبقائها.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله:{ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِـي الدُّنْـيا والآخِرَةِ } قال: يقول: لعلكم تتفكرون فـي الدنـيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة علـى الدنـيا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قوله:{ كَذَلِكَ يُبَـيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِـي الدُّنْـيا والآخِرَةِ } قال: أما الدنـيا فتعلـمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دار جزاء ثم بقاء، فتتفكرون، فتعملون للبـاقـية منهما. قال: وسمعت أبـا عاصم يذكر نـحو هذا أيضاً.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { كَذَلِكَ يُبَـيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فـي الدُّنْـيا والآخِرَة } وإنه من تفكر فـيهما عرف فضل إحداهما علـى الأخرى وعرف أن الدنـيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا مـمن يَصْرم حاجة الدنـيا لـحاجة الآخرة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهمْ خَيْرٌ، وإنْ تُـخَالِطُوهُم فَإخْوانُكُمْ }.

اختلف أهل التأويـل فـيـما نزلت هذه الآية: فقال بعضهم نزلت.....

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيـل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال:: لـما نزلت: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] عزلوا أموال الـيتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{ وَإنْ تُـخالِطوِهمْ فإخْوَانُكُمْ وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتكُمْ } فخالطوهم.

حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: لـما نزلت { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتـيـم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه، فـيحبس له حتـى يأكله أو يفسد. فـاشتدّ ذلك علـيهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{ وَيَسألُونَكَ عَنِ الَـيتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ } فخـلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، قال: لـما نزلت:{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتِـيـمِ إلاَّ بـالَّتِـي هِيَ أحْسَنُ } قال: كنا نصنع للـيتـيـم طعاماً فـيفضل منه الشيء، فـيتركونه حتـى يفسد، فأنزل الله:{ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ }.

حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: ثنا أبو أسامة، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، قال: سئل عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى عن مال الـيتـيـم، فقال: لـما نزلت: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] اجتنبت مخالطتهم، واتقوْا كل شيء حتـى اتقوا الـمَاء، فلـما نزلت:{ وَإِنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ } قال: فخالطوهم.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى }الآية كلها، قال: كان الله أنزل قبل ذلك فـي سورة بنـي إسرائيـل: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] فكبرت علـيهم، فكانوا لا يخالطونهم فـي مأكل ولا فـي غيره. فـاشتدّ ذلك علـيهم، فأنزل الله الرخصة، فقال: { وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ }.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لـما نزلت: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] اعتزل الناس الـيتامى فلـم يخالطوهم فـي مأكل ولا مشرب ولا مال، قال: فشقّ ذلك علـى الناس، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{ وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ }.

حدثت عن عمار قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ... }الآية. قال: فذكر لنا والله أعلـم أنه أنزل فـي بنـي إسرائيـل: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [الأنعام: 152] فكبرت علـيهم، فكانوا لا يخالطونهم فـي طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فـاشتدّ ذلك علـيهم، فأنزل الله الرخصة فقال: { ويَسألُونَكَ عَن الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُم فإخْوَانُكُم } يقول: مخالطتهم فـي ركوب الدابة، وشرب اللبن، وخدمة الـخادم. يقول للولـيّ الذي يـلـي أمرهم: فلا بأس علـيه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن، أو يخدمه الـخادم.

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

حدثنـي عمرو بن علـيّ قال: ثنا عمران بن عيـينة، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [النساء: 10] الآية، قال: كان يكون فـي حجر الرجل الـيتـيـم، فـيعزل طعامه وشرابه وآنـيته، فشقّ ذلك علـى الـمسلـمين، فأنزل الله:{ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح } فأحلّ خـلطهم.

حدثنـي أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا أشعث، عن الشعبـي، قال: لـما نزلت هذه الآية: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10] قال: فـاجتنب الناس الأيتام، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه وماله من ماله، وشرابه من شرابه. قال: فـاشتدّ ذلك علـى الناس، فنزلت:{ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح }. قال الشعبـي: فمن خالط يتـيـماً فلـيتوسع علـيه، ومن خالطه لـيأكل من ماله فلا يفعل.

حدثنـي علـي بن داود، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: { وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُم خَيْرٌ } وذلك أن الله لـما أنزل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10] كره الـمسلـمون أن يضموا الـيتامى، وتـحرّجوا أن يخالطوهم فـي شيء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{ قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ }.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح عن قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ } قال: لـما نزلت سورة النساء عزل الناس طعامهم، فلـم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا يشق علـينا أن نعزل طعام الـيتامى وهم يأكلون معناه فنزلت{ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ }.

قال ابن جريج وقال مـجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم، وألبـانهم عن ألبـانهم، وأُدْمهم عن أدمهم، فشق ذلك علـيهم، فنزلت:{ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ } قال: مخالطة الـيتـيـم فـي الـمراعي والأدم. قال ابن جريج: وقال ابن عبـاس: الألبـان وخدمة الـخادم وركوب الدابة. قال ابن جريج: وفـي الـمساكن، قال: والـمساكن يومئذٍ عزيزة.

حدثنا مـحمد بن سنان، قال: ثنا الـحسين بن الـحسن الأشقر، قال: أخبرنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: لـما نزلت: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] و: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً } [النساء: 10] قال: اجتنب الناس مال الـيتـيـم وطعامه، حتـى كان يفسد إن كان لـحما أو غيره، فشق ذلك علـى الناس، فشكوا ذلك إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ }.

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد أو عيسى، عن قـيس بن سعد، شك أبو عاصم عن مـجاهد:{ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ } قال: مخالطة الـيتـيـم فـي الرِّعْي والأدم.

وقال آخرون: بل كان اتقاء مال الـيتـيـم واجتنابه من أخلاق العرب، فـاستفتوا فـي ذلك لـمشقته علـيهم، فأفتوا بـما بـينه الله فـي كتابه. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي:{ وَيَسألُونَكَ عَنِ الَـيتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ } قال: كانت العرب يشددون فـي الـيتـيـم حتـى لا يأكلوا معه فـي قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيراً، ولا يستـخدموا له خادماً، فجاءوا إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه، فقال: { قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } يصلـح له ماله وأمره له خير، وإن يخالطه فـيأكل معه ويطعمه، ويركب راحلته ويحمله، ويستـخدم خادمه ويخدمه، فهو أجود. { وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ }.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله:{ وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ }إلـى:{ إنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيـمٌ } وإن الناس كانوا إذا كان فـي حجر أحدهم الـيتـيـم جعل طعامه علـى ناحية ولبنه علـى ناحية، مخافة الوزر. وإنه أصاب الـمؤمنـين الـجهد، فلـم يكن عندهم ما يجعلون خدما للـيتامى، فقال الله:{ قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ... }إلـى آخر الآية.

حدثت عن الـحسن بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله:{ وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامى } كانوا فـي الـجاهلـية يعظمون شأن الـيتـيـم، فلا يَـمسُّون من أموالهم شيئاً، ولا يركبون لهم دابة، ولا يطعمون لهم طعاماً. فأصابهم فـي الإسلام جهد شديد، حتـى احتاجوا إلـى أموال الـيتامى، فسألوا نبـي الله صلى الله عليه وسلم عن شأن الـيتامى، وعن مخالطتهم، فأنزل الله: { وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ }يعنـي بـالـمخالطة: ركوب الدابة، وخدمة الـخادم، وشرب اللبن.

فتأويـل الآية إذًا: ويسألك يا مـحمد أصحابك عن مال الـيتامى، وخـلطهم أموالهم به فـي النفقة والـمطاعمة والـمشاربة والـمساكنة والـخدمة، فقل لهم: تفضلكم علـيهم بإصلاحكم أموالهم من غير مرزئة شيء من أموالهم، وغير أخذ عوض من أموالهم علـى إصلاحكم ذلك لهم، خير لكم عند الله، وأعظم لكم أجراً، لـما لكم فـي ذلك من الأجر والثواب، وخير لهم فـي أموالهم فـي عاجل دنـياهم، لـما فـي ذلك من توفر أموالهم علـيهم. وإن تـخالطوهم فتشاركوهم بأموالكم أموالهم فـي نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضموا من أموالهم عوضاً من قـيامكم بأمورهم وأسبـابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضاً، ويكنف بعضهم بعضاً فذو الـمال يعين ذا الفـاقة، وذو القوّة فـي الـجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالـى ذكره: فأنتـم أيها الـمؤمنون وأيتامكم كذلك إن خالطتـموهم بأموالكم، فخـلطتـم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتـم من أموالهم فضل مرفق بـما كان منكم من قـيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبـابهم علـى النظر منكم لهم نظر الأخ الشفـيق لأخيه العامل فـيـما بـينه وبـينه بـما أوجب الله علـيه وألزمه، فذلك لكم حلال، لأنكم إخوان بعضكم لبعض. كما:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:{ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ } قال: قد يخالط الرجل أخاه.

حدثنـي أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيـم، قال: ثنا سفـيان، عن أبـي مسكين، عن إبراهيـم، قال: إنـي لأكره أن يكون مال الـيتـيـم كالعُرْة.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيـم، عن عائشة، قالت: إنـي لأكره أن يكون مال الـيتـيـم عندي عُرَّة حتـى أخـلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابـي.

فإن قال لنا قائل: وكيف قال{ فإخْوَانُكُمْ } فرفع الإخوان، وقال فـي موضع آخر: { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: 239] قـيـل: لافتراق معنـيـيهما، وذلك أن أيتام الـمؤمنـين إخوان الـمؤمنـين، خالطهم الـمؤمنون بأموالهم أو لـم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تـخالطوهم فهم إخوانكم. والإخوان مرفوعون بـالـمعنى الـمتروك ذكره وهو هم لدلالة الكلام علـيه، وإنه لـم يُرد بـالإخوان الـخبر عنهم أنهم كانوا إخوانا من أجل مخالطة ولاتهم إياهم. ولو كان ذلك الـمراد لكانت القراءة نصبـاً، وكان معناه حينئذٍ وإن تـخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرىء رفعاً لـما وصفت من أنهم إخوان للـمؤمنـين الذين يـلونهم خالطوهم أو لـم يخالطوهم.

وأما قوله: { فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: 239] فنصب لأنهما حالان للفعل غير دائبـين، ولا يصلـح معهما هو، وذلك أنك لو أظهرت هو معهما لاستـحال الكلام.

ألا ترى أنه لو قال قائل: إن خفت من عدوّك أن تصلـي قائما، فهو راجل أو راكب لبطل الـمعنى الـمراد بـالكلام؟

وذلك أن تأويـل الكلام: فإن خفتـم أن تصلوا قـياماً من عدوّكم، فصلوا رجالاً أو ركبـاناً ولذلك نصبه إجراء علـى ما قبله من الكلام كما تقول فـي نـحوه من الكلام: إن لبست ثـيابـاً فـالبـياض، فتنصبه لأنك تريد إن لبست ثـيابـاً فـالبس البـياض، ولست تريد الـخبر عن أن جميع ما يـلبس من الثـياب فهو البـياض، ولو أردت الـخبر عن ذلك لقلت: إن لبست ثـيابـا فـالبـياضُ رفعاً، إذ كان مخرج الكلام علـى وجه الـخبر منك عن اللابس أن كل ما يـلبس من الثـياب فبـياض، لأنك تريد حينئذٍ: إن لبست ثـيابـاً فهي بـياض.

فإن قال: فهل يجوز النصب فـي قوله:{ فإخْوَانكُمْ }؟ قـيـل: جائز فـي العربـية، فأما فـي القراءة فإنـما منعناه لإجماع القرّاء علـى رفعه. وأما فـي العربـية فإنـما أجزناه لأنه يحسن معه تكرير ما يحمل فـي الذي قبله من الفعل فـيهما: وإن تـخالطوهم فإخوانكم تـخالطون فـيكون ذلك جائزا فـي كلام العرب.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ }.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إن ربكم وإن أذن لكم فـي مخالطتكم الـيتامى علـى ما أذن لكم به، فـاتقوا الله فـي أنفسكم أن تـخالطوهم وأنتـم تريدون أكل أموالهم بـالبـاطل، وتـجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلـى إفساد أموالهم، وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التـي لا قبل لكم بها، فإنه يعلـم من خالط منكم يتـيـمه، فشاركه فـي مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته فـي حال مخالطته إياه ما الذي يقصد بـمخالطته إياه إفساد ماله، وأكله بـالبـاطل، أم إصلاحه وتثميره، لأنه لا يخفـى علـيه منه شيء، ويعلـم أيكم الـمريد إصلاح ماله، من الـمريد إفساده. كما:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول الله تعالـى ذكره:{ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ } قال: الله يعلـم حين تـخـلط مالك بـماله أتريد أن تصلـح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق.

حدثنـي أبو السائب، قال: ثنا أشعث، عن الشعبـي:{ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح } قال الشعبـي: فمن خالط يتـيـماً فلـيتوسع علـيه، ومن خالطه لـيأكل ماله فلا يفعل.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعَنْتَكُمْ }.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولو شاء الله لـحرّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالهم، فجهدكم ذلك وشقّ علـيكم، ولـم تقدروا علـى القـيام بـاللازم لكم من حقّ الله تعالـى، والواجب علـيكم فـي ذلك من فرضه، ولكنه رخص لكم فـيه، وسهله علـيكم، رحمة بكم ورأفة.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله:{ لأَعْنَتَكُمْ } فقال بعضهم بـما:

حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد، أو عيسى، عن قـيس بن سعد، عن مـجاهد شك أبو عاصم فـي قول الله تعالـى ذكره:{ وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ } لـحرَّم علـيكم الـمرعى والأدم.

قال أبو جعفر: يعنـي بذلك مـجاهد، رعي مواشي والـي الـيتـيـم مع مواشي الـيتـيـم والأكل من إدامه، لأنه كان يتأول فـي قوله:{ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ } أنه خـلطة الولـي الـيتـيـم بـالرعي والأدم.

حدثنـي علـيّ بن داود، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس:{ وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ } يقول: ولو شاء الله لأحرجكم، فضيق علـيكم، ولكنه وسع ويسَّر، فقال: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } [النساء: 6].

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ } يقول: لـجهدكم، فلـم تقوموا بحقّ ولـم تؤدّوا فريضة.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع نـحوه، إلا أنه قال: فلـم تعملوا بحق.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي:{ وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ } لشدّد علـيكم.

حدثنـي يونس. قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول الله: { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ } قال: لشقّ علـيكم فـي الأمر، ذلك العنت.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس قوله: { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ } قال: ولو شاء الله لـجعل ما أصبتـم من أموال الـيتامى مُوبقاً.

وهذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذُكرَت عنه، وإن اختلفت ألفـاظ قائلـيها فـيها، فإنها متقاربـات الـمعانـي لأن من حرم علـيه شيء فقد ضيق علـيه فـي ذلك الشيء، ومن ضيق علـيه فـي شيء، فقد أحرج فـيه، ومن أحرج فـي شيء أو ضيق علـيه فـيه فقد جهد، وكل ذلك عائد إلـى الـمعنى الذي وصفت من أن معناه الشدة والـمشقة، ولذلك قـيـل: عَنِت فلاناً: إذا شق علـيه وجهده فهو يعنت عنتا، كما قال تعالـى ذكره: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّـمْ } يعنـي ما شقّ علـيكم وآذاكم وجهدكم، ومنه قوله تعالـى ذكره: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ } [النساء: 25] فهذا إذا عنت العانت، فإن صيره غيره كذلك قـيـل: أعنته فلان فـي كذا: إذا جهده وألزمه أمرا جهده القـيام به يعنته إعناتاً، فكذلك قوله:{ لأَعْنَتَكُمْ } معناه: لأوجب لكم العنت بتـحريـمه علـيكم ما يجهدكم ويحرجكم مـما لا تطيقون القـيام بـاجتنابه وأداء الواجب له علـيكم فـيه.

وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقكم وأهلككم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس قال: قرأ علـينا:{ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } قال ابن عبـاس: ولو شاء الله لـجعل ما أصبتـم من أموال الـيتامى موبقاً.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن فضيـل وجرير، عن منصور، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس:{ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } قال: لـجعل ما أصبتـم موبقاً.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيـمٌ }.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إن الله عزيز فـي سلطانه لا يـمنعه مانع مـما أحلّ بكم من عقوبة، لو أعنتكم بـما يجهدكم القـيام به من فرائضه، فقصرتـم فـي القـيام به، ولا يقدر دافع أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مـما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله هو، لكنه بفضل رحمته منّ علـيكم بترك تكلـيفه إياكم ذلك، وهو حكيـم فـي ذلك لو فعله بكم، وفـي غيره من أحكامه وتدبـيره لا يدخـل أفعاله خـلل ولا نقص ولا وهي ولا عيب، لأنه فعل ذي الـحكمة الذي لا يجهل عواقب الأمور، فـيدخـل تدبـيره مذمة عاقبة، كما يدخـل ذلك أفعال الـخـلق لـجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختـيارهم فـيها ابتداء.