التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٦٠
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ألـم تر إذ قال إبراهيـم ربّ أرنـي. وإنـما صلـح أن يعطف بقوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } علـى قوله: { أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ } [البقرة: 259] وقوله: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَاجَّ إِبْرٰهِيمَ فِى رِبّهِ } [البقرة: 258] لأن قوله: { أَلَمْ تَرَ } لـيس معناه: ألـم تر بعينـيك، وإنـما معناه: ألـم تر بقلبك، فمعناه: ألـم تعلـم فتذكر، فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فـيعطف علـيه أحياناً بـما يوافق لفظه من الكلام، وأحياناً بـما يوافق معناه.

واختلف أهل التأويـل فـي سبب مسألة إبراهيـم ربه أن يريه كيف يحيـي الـموت؟ فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربه، أنه رأى دابة قد تقسمتها السبـاع والطير، فسأل ربه أن يريه كيفـية إحيائه إياها مع تفرّق لـحومها فـي بطون طير الهواء وسبـاع الأرض لـيرى ذلك عيانا، فـيزداد يقـيناً برؤيته ذلك عياناً إلـى علـمه به خبراً، فأراه الله ذلك مثلاً بـما أخبر أنه أمره به. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } ذكر لنا أن خـلـيـل الله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم أتـى علـى دابة توزّعتها الدوابّ والسبـاع، فقال: { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى }.

حدثت عن الـحسن، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } قال: مرّ إبراهيـم علـى دابة ميت قد بلـي وتقسمته الرياح والسبـاع، فقام ينظر، فقال: سبحان الله، كيف يحيـي الله هذا؟ وقد علـم أن الله قادر علـى ذلك، فذلك قوله: { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ }.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغنـي أن إبرهيـم بـينا هو يسير علـى الطريق، إذا هو بجيفة حمار علـيها السبـاع والطير قد تـمزّعت لـحمها وبقـي عظامها. فلـما ذهبت السبـاع، وطارت الطير علـى الـجبـال والآكام، فوقـف وتعجب ثم قال: ربّ قد علـمت لتـجمعنها من بطون هذه السبـاع والطير { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ } ولكن لـيس الـخبر كالـمعاينة.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مرّ إبراهيـم بحوت نصفه فـي البرّ، ونصفه فـي البحر، فما كان منه فـي البحر فدوابّ البحر تأكله، وما كان منه فـي البرّ فـالسبـاع ودوابّ البرّ تأكله، فقال له الـخبـيث: يا إبراهيـم متـى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتىٰ قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئنّ قلبي.

وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربه ذلك، الـمناظرة والـمـحاجة التـي جرت بـينه وبـين نـمروذ فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: لـما جرى بـين إبراهيـم وبـين قومه ما جرى مـما قصه الله فـي سورة الأنبـياء، قال نـمروذ فـيـما يذكرون لإبراهيـم: أرأيت إلٰهك هذا الذي تعبد وتدعو إلـى عبـادته وتذكر من قدرته التـي تعظمه بها علـى غيره ما هو؟ قال له إبراهيـم: ربـي الذي يحيـي ويـميت. قال نـمروذ: أنا أحيـي وأميت. فقال له إبراهيـم: كيف تـحيـي وتـميت؟ ثم ذكر ما قصّ الله من مـحاجته إياه. قال: فقال إبراهيـم عند ذلك: { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } من غير شكّ فـي الله تعالـى ذكره ولا فـي قدرته، ولكنه أحبّ أن يعلـم ذلك وتاق إلـيه قلبه، فقال: لـيطمئنّ قلبـي، أي ما تاق إلـيه إذا هو علـمه.

وهذان القولان، أعنـي الأول وهذا الآخر، متقاربـاً الـمعنى فـي أن مسألة إبراهيـم ربه أن يريه كيف يحيـي الـموتـى كانت لـيرى عياناً ما كان عنده من علـم ذلك خبراً.

وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التـي أتته من الله بأنه اتـخذه خـلـيلاً، فسأل ربه أن يريه عاجلاً من العلامة له علـى ذلك لـيطمئن قلبه بأنه قد اصطفـاه لنفسه خـلـيلاً، ويكون ذلك لـما عنده من الـيقـين مؤيدا. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما اتـخذ الله إبراهيـم خـلـيلاً سأل ملك الـموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيـم بذلك، فأذن له، فأتـى إبراهيـم ولـيس فـي البـيت فدخـل داره، وكان إبراهيـم أغير الناس، إن خرج أغلق البـاب؛ فلـما جاء وجد فـي داره رجلاً، فثار إلـيه لـيأخذه، قال: من أذن لك أن تدخـل داري؟ قال ملك الـموت: أذن لـي ربّ هذه الدار، قال إبراهيـم: صدقتٰ وعرف أنه ملك الـموت، قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الـموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتـخذك خـلـيلاً. فحمد الله وقال: يا ملك الـموت أرنـي الصورة التـي تقبض فـيها أنفـاس الكفـار. قال: يا إبراهيـم لا تطيق ذلك. قال: بلـى. قال: فأعرِض فأعرض إبراهيـم ثم نظر إلـيه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فـيه لهب النار، لـيس من شعرة فـي جسده إلا فـي صورة رجل أسود يخرج من فـيه ومسامعه لهب النار. فغشي علـى إبراهيـم، ثم أفـاق وقد تـحوّل ملك الـموت فـي الصورة الأولـى، فقال: يا ملك الـموت لو لـم يـلق الكافر عند الـموت من البلاء والـحزن إلا صورتك لكفـاه، فأرنـي كيف تقبض أنفـاس الـمؤمنـينٰ قال: فأعرِض فأعرض إبراهيـم ثم التفت، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهاً وأطيبه ريحاً، فـي ثـياب بـيض، فقال: يا ملك الـموت لو لـم يكن للـمؤمن عند ربه من قرّة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفـيه. فـانطلق ملك الـموت، وقام إبراهيـم يدعو ربه يقول: { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } حتـى أعلـم أنـي خـلـيـلك { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } بأنـي خـلـيـلك، يقول تصدق، { قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } بخـلولتك.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: ثنا عمرو بن ثابت، عن أبـيه، عن سعيد بن جبـير: { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: بـالـخُـلة.

وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شكّ فـي قدرة الله علـى إحياء الـموتـى. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب فـي قوله: { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: قال ابن عبـاس: ما فـي القرآن آية أرجى عندي منها.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت زيد بن علـي يحدث عن رجل، عن سعيد بن الـمسيب، قال: اتَّعد عبد الله بن عبـاس وعبد الله بن عمرو أن يجتـمعا، قال: ونـحن يومئذٍ شببة، فقال أحدهما لصاحبه: أيّ آية فـي كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو { { قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر: 53] حتـى ختـم الآية، فقال ابن عبـاس: أما إن كنت تقول إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبرهيـم صلى الله عليه وسلم { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى }.

حدثنا القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح، عن قوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: دخـل قلب إبراهيـم بعض ما يدخـل قلوب الناس، فقال: { رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } لـيريه.

حدثنـي زكريا بن يحيـى بن أبـان الـمصري، قال: ثنا سعيد بن تلـيد، قال: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: ثنـي بكر بن مضر، عن عمرو بن الـحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي أبو سلـمة بن عبد الرحمن وسعيد بن الـمسيب، عن أبـي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نَـحْنُ أحَقُّ بـالشَّكّ مِنْ إبْرَاهِيـمَ، قَالَ: رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى، قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ؟ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر نحوه.

وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية، ما صحّ به الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال، وهو قوله: "نَـحْنُ أحَقُّ بـالشَّكّ مِنْ إِبْرَاهِيـمَ، قَالَ رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى، قَالَ أَوَلَـمْ تُؤمِنْ" وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الـموتـى لعارض من الشيطان عرض فـي قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفـاً من أن إبراهيـم لـما رأى الـحوت الذي بعضه فـي البرّ وبعضه فـي البحر قد تعاوره دوابّ البرّ ودوابّ البحر وطير الهواء، ألقـى الشيطان فـي نفسه فقال: متـى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيـم حينئذٍ ربه أن يريه كيف يحيـي الـموتـى لـيعاين ذلك عياناً، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يـلقـي فـي قلبه مثل الذي ألقـى فـيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } يقول: أولـم تصدق يا إبراهيـم بأنـي علـى ذلك قادر؟ قال: بلـى يا ربّ، لكن سألتك أن ترينـي ذلك لـيطمئنّ قلبـي، فلا يقدر الشيطان أن يـلقـي فـي قلبـي مثل الذي فعل عند رؤيتـي هذا الـحوت.

حدثنـي بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد.

ومعنى قوله: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } لـيسكن ويهدأ بـالـيقـين الذي يستـيقنه. وهذا التأويـل الذي قلناه فـي ذلك هو تأويـل الذين وجهوا معنى قوله: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } إلـى أنه لـيزداد إيـماناً، أو إلـى أنه لـيوفق. ذكر من قال ذلك: لـيوفق، أو لـيزداد يقـينا أو إيـمانا:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو نعيـم، عن سفـيان، عن قـيس بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: لـيوفق.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن أبـي الهيثم، عن سعيد بن جبـير: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: لـيزداد يقـينـي.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } يقول: لـيزداد يقـينا.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: وأراد نبـيّ الله إبراهيـم لـيزداد يقـيناً إلـى يقـينه.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر وقال قتادة: لـيزداد يقـيناً.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: أراد إبراهيـم أن يزداد يقـيناً.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن كثـير البصري، قال: ثنا إسرائيـل، قال: ثنا أبو الهيثم، عن سعيد بن جبـير: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: لـيزداد يقـينـي.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا الفضل بن دكين، قال: ثنا سفـيان، عن أبـي الهيثم، عن سعيد بن جبـير: { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: لـيزداد يقـيناً.

حدثنا صالـح بن مسمار، قال: ثنا زيد بن الـحبـاب، قال: ثنا خـلف بن خـلـيفة، قال: ثنا لـيث بن أبـي سلـيـم، عن مـجاهد وإبراهيـم فـي قوله: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: لأزداد إيـمانا مع إيـمانـي.

حدثنا صالـح، قال: ثنا زيد، قال: أخبرنا زياد، عن عبد الله العامري، قال: ثنا لـيث، عن أبـي الهيثم، عن سعيد بن جبـير فـي قول الله: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: لأزداد إيـمانا مع إيـمانـي.

وقد ذكرنا فـيـما مضى قول من قال: معنى قوله: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } بأنـي خـلـيـلك.

وقال آخرون: معنى قوله: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } لأعلـم أنك تـجيبنـي إذا دعوتك وتعطينـي إذا سألتك. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس قوله: { لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: أعلـم أنك تـجيبنـي إذا دعوتك، وتعطينـي إذا سألتك.

وأما تأويـل قوله: { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } فإنه: أولـم تصدّق؟ كما:

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن قـيس بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير قوله: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } قال: أولـم توقن بأنـي خـلـيـلك؟

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } قال: أولـم توقن.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ }.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: قال الله له: فخذ أربعة من الطير. فذكر أن الأربعة من الطير: الديك، والطاوس، والغراب، والـحمام. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلـم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاوساً، وديكاً، وغرابـاً، وحماماً.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والـحمام.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج: { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } قال: فأخذ طاوساً، وحماماً، وغرابـاً، وديكاً؛ مخالفة أجناسها وألوانها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ }.

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة والـحجاز والبصرة: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } بضم الصاد من قول القائل: صُرْت إلـى هذا الأمر: إذا ملت إلـيه أَصُور صَوَراً، ويقال: إنـي إلـيكم لأَصْوَرُ أي مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر:

الله يَعْلَـمُ أنَّا فـي تَلَفُّتِنا يَوْمَ الفِرَاقِ إلـى أحْبـابِنا صُورُ

وهو جمع أَصْوَر وصَوْرَاء وصُور، مثل أسود وسوداء وسود. ومنه قول الطرماح:

عَفَائِفُ الأذيال أوْ أنْ يَصُورَها هَوًى والهَوَى للعاشِقِـينَ صَرُوعُ

يعنـي بقوله: «أو أن يصورها هوى»: يـميـلها.

فمعنى قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } اضمـمهنّ إلـيك ووجههن نـحوك، كما يقال: صُرْ وجهك إلـيّ، أي أقبل به إلـيّ. ومن وجه قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } إلـى هذا التأويـل كان فـي الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر علـيه، ويكون معناه حينئذٍ عنده، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إلـيك، ثم قطعهن، ثم اجعل علـى كل جبل منهنّ جزءاً. وقد يحتـمل أن يكون معنى ذلك إذا قرىء كذلك بضم الصاد: قَطّعهن، كما قال تَوْبَة بن الـحُمَيِّر:

فلـمَّا جَذَبْتُ الـحبْلَ أطَّتْ نُسُوعُهُ بأطرافِ عِيدان شَديدٍ أُسُورُهَا
فَأدْنَتْ لِـيَ الأسْبـابَ حتـى بلغتُها بنَهْضِي وقَد كانَ ارتقائي يَصُورُها

يعنـي يقطعها. وإذا كان ذلك تأويـل قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } كان فـي الكلام تقديـم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إلـيك فصرهن، ويكون إلـيك من صلة «خذ».

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: «فَصِرْهُنَّ إِلَـيْكَ» بـالكسر، بـمعنى قطعهن.

وقد زعم جماعة من نـحويـي الكوفة أنهم لا يعرفون فصُرهنّ ولا فصِرْهُن، بـمعنى قطعهن فـي كلام العرب، وأنهم لا يعرفون كسر الصاد وضمها فـي ذلك إلا بـمعنى واحد، وأنهما جميعا لغتان بـمعنى الإمالة، وأن كسر الصاد منها لغة فـي هذيـل وسلـيـم؛ وأنشدوا لبعض بنـي سلـيـم:

وَفَرْعٍ يَصِيرُ الـجِيدَ وَحْفٍ كأنَّهُ علـى اللِّـيتِ قِنْوَانُ الكُرُومِ الدَّوَالِـحُ

يعنـي بقوله يصير: يـميـل، وأن أهل هذه اللغة يقولون: صاره وهو يصيره صَيْراً، وصِرْ وجهك إلـيّ: أي أمله، كما تقول: صُرْه.

وزعم بعض نـحويـي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: { فَصُرْهُنَّ } ولا لقراءة من قرأ: «فَصِرْهُنَّ» بضم الصاد وكسرها وجها فـي التقطيع، إلا أن يكون «فَصِرْهُنَّ إِلَـيْكَ» فـي قراءة من قرأه بكسر الصاد من الـمقلوب، وذلك أن تكون لام فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان لامه، فـيكون من صَرَى يَصْرِي صَرْياً، فإن العرب تقول: بـات يَصْري فـي حوضه: إذا استقـى، ثم قطع واستقـى، ومن ذلك قول الشاعر:

صَرَتْ نَظْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوزَ دارِعٍ غَدَا والعَواصِي منْ دَمِ الـجوفِ تَنْعَرُ

صرت: قطعت نظرة. ومنه قول الآخر:

يقولونَ إنَّ الشَّام يقْتُلُ أهْلَهُ فَمَنْ لـي إذا لـم آتِهِ بخُـلُودِ
تَعَرَّبَ آبـائي فهلاَّ صَرَاهُمُ مِنَ الـمَوْتِ أنْ لـم يذهَبوا وجُدودي

يعنـي قطعهم، ثم نقلت ياؤها التـي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل، وحولت عينها فجعلت لامها، فقـيـل صار يصير، كما قـيـل: عَثِـي يَعْثَى عَثا، ثم حوّلت لامها، فجعلت عينها، فقـيـل عاث يعيث.

فأما نـحويو البصرة فإنهم قالوا: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } سواء معناه إذا قرىء بـالضم من الصاد وبـالكسر فـي أنه معنـيّ به فـي هذا الـموضع التقطيع، قالوا: وهما لغتان: إحداهما صَار يَصُور، والأخرى صَار يَصِير، واستشهدوا علـى ذلك ببـيت توبة بن الـحمير الذي ذكرنا قبل، وببـيت الـمعلـى بن جمّال العبدي:

وجاءَتْ خِـلْعَةٌ دُهْسٌ صَفـايَا يَصُورُ عُنُوقَها أحْوَى زَنِـيـم
ُ

بـمعنى يفرق عنوقها ويقطعها، وببـيت خنساء:

لـظـلـت الـشُّـمُ مـنـهـا وَهْـيَ تـنــصـارُ

يعنـي بـالشمّ: الـجبـال أنها تتصدّع وتتفرّق. وببـيت أبـي ذؤيب:

فـانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وسَدَّ فُرُوجَهُ غُبْرٌ ضَوَارٍ وافـيانِ وأجْدَعُ

قالوا: فلقول القائل: صُرْت الشيء معنـيان: أملته، وقطعته، وحكوا سماعاً: صُرْنا به الـحكم: فصلنا به الـحكم.

وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريـين من أن معنى الضم فـي الصاد من قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } والكسر سواء بـمعنى واحد، وأنهما لغتان معناهما فـي هذا الـموضع فقطعهن، وأن معنى إلـيك تقديـمها قبل فصرهن من أجل أنها صلة قوله: «فخذ»، أولـى بـالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نـحويـي الكوفـيـين الذي أنكروا أن يكون للتقطيع فـي ذلك وجه مفهوم إلا علـى معنى القلب الذي ذكرت، لإجماع جميع أهل التأويـل علـى أن معنى قوله: { فَصُرْهُنَّ } غير خارج من أحد معنـيـين: إما قطّعهنّ، وإما اضمـمهنّ إلـيك، بـالكسر قرىء ذلك أو بـالضم. ففـي إجماع جميعهم علـى ذلك علـى غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بـين معنـيـي القراءتـين أعنـي الكسر والضم، أوضح الدلـيـل علـى صحة قول القائلـين من نـحويـي أهل البصرة فـي ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نـحويـي الكوفـيـين؛ لأنهم لو كانوا إنـما تأولوا قوله: { فَصُرْهُنَّ } بـمعنى فقطعهن، علـى أن أصل الكلام فأصرهنّ، ثم قلبت فقـيـل فصِرهن بكسر الصاد لتـحوّل ياء فأصرهن مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شك مع معرفتهم بلغتهم وعلـمهم بـمنطقهم، قد فصلوا بـين معنى ذلك إذا قرىء بكسر صاده، وبـينه إذا قرىء بضمها، إذ كان غير جائز لـمن قلب فأصرهن إلـى فصِرْهُن أن يقرأه فصرهن بضم الصاد، وهم مع اختلاف قراءتهم ذلك قد تأوّلوه تأويلاً واحداً علـى أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففـي ذلك أوضح الدلـيـل علـى خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرىء بكسر الصاد بتأويـل التقطيع مقلوب من صَرِيَ يَصْرَي إلـى صار يصير، وجهل من زعم أن قول القائل صار يصور وصار يصير غير معروف فـي كلام العرب بـمعنى قطع.

ذكر من حضرنا قوله فـي تأويـل قول الله تعالـى ذكره: { فَصُرْهُنَّ } أنه بـمعنى فقطعهنّ.

حدثنا سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: ثنا مـحمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { فَصُرْهُنَّ } قال: هي نبطية فشققهن.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبـي حمزة، عن ابن عبـاس أنه قال فـي هذه الآية: { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قال: إنـما هو مثل. قال: قطعهنّ ثم اجعلهن فـي أربـاع الدنـيا، ربعاً ههنا، وربعاً ههنا، ثم ادعهنّ يأتـينك سعياً.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس: { فَصُرْهُنَّ } قال: قطعهن.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك فـي قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } يقول: قطعهن.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن حصين، عن أبـي مالك، مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيـى بن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد: { فَصُرْهُنَّ } قال: قال جناح ذه عند رأس ذه، ورأس ذه عند جناح ذه.

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: زعم أبو عمرو، عن عكرمة فـي قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قال: قال عكرمة بـالنبطية: قطعهن.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيـل، عن يحيـى، عن مـجاهد: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قال: قطعهن.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } انتفهن بريشهن ولـحومهن تـمزيقاً، ثم اخـلط لـحومهن بريشهن.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قال: انتفهن بريشهن ولـحومهن تـمزيقا.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أمر نبـيّ الله علـيه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فـيذبحهن، ثم يخـلط بـين لـحومهن وريشهن ودمائهن.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قال: فمزّقهن، قال: أمر أن يخـلط الدماء بـالدماء، والريش بـالريش، ثم اجعل علـى كل جبل منهنّ جزءاً.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } يقول: فشققهن وهو بـالنبطية صرّى، وهو التشقـيق.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } يقول قطعهن.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } يقول قطعهن إلـيك ومزّقهن تـمزيقاً.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أي قطعهن، وهو الصَّوْر فـي كلام العرب.

ففـيـما ذكرنا من أقوال من روينا قوله فـي تأويـل قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أنه بـمعنى فقطعهن إلـيك، دلالة واضحة علـى صحة ما قلنا فـي ذلك، وفساد قول من خالفنا فـيه. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارىء ذلك بضم الصاد فصُرْهن إلـيك أو كسرها فصِرْهن أن كانت اللغتان معروفتـين بـمعنى واحد، غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبهما إلـيّ أن أقرأ به «فصُرْهن إلـيك» بضم الصاد، لأنها أعلـى اللغتـين وأشهرهما وأكثرهما فـي أحياء العرب. وعند نفر قلـيـل من أهل التأويـل أنها بـمعنى أوثق. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } صرهن: أوثقهن.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قال: اضمـمهنّ إلـيك.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } قال: اجمعهن.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } فقال بعضهم: يعنـي بذلك علـى كل ربع من أربـاع الدنـيا جزءاً منهن. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبـي حمزة، عن ابن عبـاس: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } قال: اجعلهن فـي أربـاع الدنـيا: ربعاً ههنا، وربعاً ههنا، وربعاً ههنا، وربعاً ههنا، ثم ادعهن يأتـينك سعيا.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } قال: لـما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل علـى كل جبل منهن جزءاً.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قال: أمر نبـيّ الله أن يأخذ أربعة من الطير فـيذبحهن، ثم يخـلط بـين لـحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن علـى أربعة أجبل، فذكر لنا أنه شكل علـى أجنـحتهن، وأمسك برؤوسهن بـيده، فجعل العظم يذهب إلـى العظم، والريشة إلـى الريشة، والبَضعة إلـى البضعة، وذلك بعين خـلـيـل الله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتـينه سعياً علـى أرجلهن، ويـلقـي كل طير برأسه. وهذا مثل آتاه الله إبراهيـم. يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القـيامة من أربـاع الأرض ونواحيها.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خـلط بـين لـحومهن وريشهن، ثم قسمهن علـى أربعة أجزاء، فجعل علـى كل جبل منهن جزءاً، فجعل العظم يذهب إلـى العظم، والريشة إلـى الريشة، والبضعة إلـى البضعة، وذلك بعين خـلـيـل الله إبراهيـم، ثم دعاهن فأتـينه سعياً، يقول: شدّاً علـى أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيـم، يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القـيامة من أربـاع الأرض ونواحيها.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة، ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلـى أربعة أجبـال، فجعل علـى كل جبل ربعا من كل طائر، فكان علـى كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الـحمام. ثم دعاهن فقال: تعالـين بإذن الله كما كنتـم! فوثب كل ربع منها إلـى صاحبه حتـى اجتـمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه، ثم أقبلن إلـيه سعياً، كما قال الله. وقـيـل: يا إبراهيـم هكذا يجمع الله العبـاد، ويحيـي الـموتـى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامها ويـمنها. فأراه الله إحياء الـموتـى بقدرته، حتـى عرف ذلك بغير ما قال نـمروذ من الكذب والبـاطل.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } قال: فأخذ طاووساً، وحمامة، وغرابـاً، وديكاً، ثم قال: فرّقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلـي الآخر معهٰ فقطعهن وفرّقهن أربـاعاً علـى الـجبـال، ثم دعاهن فجئنه جميعاً، فقال الله: كما ناديتهن فجئنك، فكما أحيـيت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضاً؛ يعنـي الـموتـى.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل علـى كل جبل من الأجبـال التـي كانت الأطيار والسبـاع التـي كانت تأكل من لـحم الدابة التـي رآها إبراهيـم ميتة، فسأل إبراهيـم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحيـيها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبـال. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: لـما قال إبراهيـم ما قال عند رؤيته الدابة التـي تفرّقت الطير والسبـاع عنها حين دنا منها، وسأل ربه ما سأل، قال: فخذ أربعة من الطير ـ قال ابن جريج: فذبحها ـ ثم اخـلط بـين دمائهن وريشهن ولـحومهن، ثم اجعل علـى كل جبل منهن جزءاً حيث رأيت الطير ذهبت والسبـاع! قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رءوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلـى كل قطرة من دم تطير إلـى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلـى الريشة الأخرى، وكل بَضعة وكل عظم يطير بعضه إلـى بعض من رءوس الـجبـال، حتـى لقـيت كل جثة بعضها بعضا فـي السماء، ثم أقبلن يسعين حتـى وصلت رأسها.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إلـيك، ثم اجعل علـى سبعة أجبـال، فـاجعل علـى كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن يأتـينك سعياً! فأخذ إبراهيـم أربعة من الطير، فقطعهن أعضاء، لـم يجعل عضوا من طير مع صاحبه، ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسمهن علـى سبعة أجبـال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلـى صاحبه، ثم أقبلن إلـيه جميعا.

وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك علـى كل جبل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } قال: ثم بدِّدهن علـى كل جبل يأتـينك سعياً، وكذلك يحيـي الله الـموتـى.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: ثم اجعلهن أجزاء علـى كل جبل، ثم ادعهن يأتـينك سعياً، كذلك يحيـي الله الـموتـى؛ هو مثل ضربه الله لإبراهيـم.

حدثنا القاسم، ثال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } ثم بدّدهن أجزاء علـى كل جبل، ثم ادعهن: تعالـين بإذن الله فكذلك يحيـي الله الـموتـى؛ مثل ضربه الله لإبراهيـم صلى الله عليه وسلم.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أمره أن يخالف بـين قوائمهن ورءوسهن وأجنـحتهن، ثم يجعل علـى كل جبل منهن جزءاً.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } فخالف إبراهيـم بـين قوائمهن وأجنـحتهن.

وأولـى التأويلات بـالآية ما قاله مـجاهد، وهو أن الله تعالـى ذكره أمر إبراهيـم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن علـى جميع الأجبـال التـي كان يصل إبراهيـم فـي وقت تكلـيف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها علـيها أجزاء، لأن الله تعالـى ذكره قال له: { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } والكل حرف يدل علـى الإحاطة بـما أضيف إلـيه لفظه واحد ومعناه الـجمع. فإذا كان ذلك كذلك فلن يجوز أن تكون الـجبـال التـي أمر الله إبراهيـم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة علـيها خارجة من أحد معنيين: إما أن تكون بعضاً أو جمعاً؛ فإن كانت بعضاً فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيل إلـى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه. أو يكون جمعا، فيكون أيضاً كذلك. وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على كل جبل، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، وإما ما فـي الأرض من الجبال.

فأما قول من قال: إن ذلك أربعة أجبل، وقول من قال: هنّ سبعة؛ فلا دلالة عندنا علـى صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به. وإنـما أمر الله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرّقة علـى كل جبل لـيري إبراهيـم قدرته علـى جمع أجزائهن وهن متفرّقات متبددات فـي أماكن مختلفة شتّـى، حتـى يؤلف بعضهن إلـى بعض، فـيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتـمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن علـى الـجبـال أطياراً أحياء يطرن، فـيطمئنّ قلب إبراهيـم ويعلـم أن كذلك يجمع الله أوصال الـموتـى لبعث القـيامة وتألـيفه أجزاءهم بعد البلـى وردّ كل عضو من أعضائهم إلـى موضعه كالذي كان قبل الرد. والـجزء من كل شيء هو البعض منه كان منقسماً جميعه علـيه علـى صحة أو غير منقسم، فهو بذلك من معناه مخالف معنى السهم؛ لأن السهم من الشيء: هو البعض الـمنقسم علـيه جميعه علـى صحة، ولذلك كثر استعمال الناس فـي كلامهم عند ذكرهم أنصبـاءهم من الـمواريث السهام دون الأجزاء.

وأما قوله: { ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ } فإن معناه ما ذكرت آنفـاً عن مـجاهد أنه قال: هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن علـى كل جبل تعالـين بإذن الله.

فإن قال قائل: أمر إبراهيـم أن يدعوهنّ وهن مـمزّقات أجزاء علـى رؤوس الـجبـال أمواتاً، أم بعد ما أحيـين؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن مـمزّقات لا أرواح فـيهنّ، فما وجه أمر من لا حياة فـيه بـالإقبـال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيـين، فما كانت حاجة إبراهيـم إلـى دعائهن وقد أبصرهن ينشرن علـى رؤوس الـجبـال؟ قـيـل: إن أمر الله تعالـى ذكره إبراهيـم صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرّقات إنـما هو أمر تكوين، كقول الله للذين مسخهم قردة بعد ما كانوا إنسا: { كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ } لا أمر عبـادة، فـيكون مـحالاً إلا بعد وجود الـمأمور الـمتعبد.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واعلـم يا إبراهيـم أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهنّ، وتفريقك أجزاءهنّ علـى الـجبـال، فجمعهن وردّ إلـيهن الروح، حتـى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقكهن، { عَزِيزٌ } فـي بطشه إذا بطش بـمن بطش من الـجبـابرة والـمتكبرة الذين خالفوا أمره، وعصوا رسله، وعبدوا غيره، وفـي نقمته حتـى ينتقم منهم، { حَكِيمٌ } فـي أمره.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنا ابن إسحاق: { وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قال: عزيز فـي بطشه، حكيـم فـي أمره.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } فـي نقمته { حَكِيمٌ } فِـي أمره.