التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٨٢
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله { إِذَا تَدَايَنتُم } يعنـي إذا تبـايعتـم بدين أو اشتريتـم به، أو تعاطيتـم، أو أخذتـم به { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } يقول: إلـى وقت معلوم وقتـموه بـينكم. وقد يدخـل فـي ذلك القرض والسلـم فـي كل ما جاز. السلـم شرى أحل بـيعه يصير ديناً علـى بـائع ما أسلـم إلـيه فـيه، ويحتـمل بـيع الـحاضر الـجائز بـيعه من الأملاك بـالأثمان الـمؤجلة كل ذلك من الديون الـمؤجلة إلـى أجل مسمًّى إذا كانت آجالها معلومة بحدّ موقوف علـيه. وكان ابن عبـاس يقول: نزلت هذه الآية فـي السلـم خاصة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيـى بن عيسى الرملـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، قال: قال ابن عبـاس فـي: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قال: السلـم فـي الـحنطة فـي كيـل معلوم إلـى أجل معلوم.

حدثنـي مـحمد بن عبد الله الـمخرمي، قال: ثنا يحيـى بن الصامت، قال: ثنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن أبـي حيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن ابن عبـاس: { يُظْلَمُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } قال: نزلت فـي السلـم فـي كيـل معلوم إلـى أجل معلوم.

حدثنا علـيّ بن سهل، قال: ثنا يزيد بن أبـي الزرقاء، عن سفـيان، عن أبـي حيان، عن رجل، عن ابن عبـاس، قال: نزلت هذه الآية: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } فـي السلـم فـي الـحنطة فـي كيـل معلوم إلـى أجل معلوم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مـحمد بن مـحبب، قال: ثنا سفـيان، عن أبـي حيان التـيـمي، عن رجل، عن ابن عبـاس قال: نزلت هذه الآية: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } فـي السلف فـي الـحنطة فـي كيـل معلوم إلـى أجل معلوم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، عن قتادة، عن أبـي حيان، عن ابن عبـاس، قال: أشهد أن السلف الـمضمون إلـى أجل مسمى أن الله عزّ وجلّ قد أحله، وأذن فـيه. ويتلو هذه الآية: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى }.

فإن قال قائل: وما وجه قوله: { بِدَيْنٍ } وقد دلّ بقوله: { إِذَا تَدَايَنتُم } علـيه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فـاحتـيج إلـى أن يقال بدين؟ قـيـل: إن العرب لـما كان مقولاً عندها تداينا بـمعنى تـجازينا وبـمعنى تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين، أبـان الله بقوله «بدين» الـمعنى الذي قصد تعريفه من قوله «تداينتـم» حكمه، وأعلـمهم أنه حكم الدين دون حكم الـمـجازاة.

وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: { { فَسَجَدَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر: 30]. ولا معنى لـما قال من ذلك فـي هذا الـموضع.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَٱكْتُبُوهُ }.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: { فَٱكْتُبُوهُ } فـاكتبوا الدَّين الذي تداينتـموه إلـى أجل مسمى من بـيع كان ذلك أو قرض.

واختلف أهل العلـم فـي اكتتاب الكتاب بذلك علـى من هو علـيه، هل هو واجب أو هو ندب؟ فقال بعضهم: هو حقّ واجب، وفرض لازم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } قال: من بـاع إلـى أجل مسمى أمر أن يكتب صغيراً كان أو كبـيراً إلـى أجل مسمى.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } قال: فمن ادّان ديناً فلـيكتب، ومن بـاع فلـيشهد.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } فكان هذا واجبـاً.

وحدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله، وزاد فـيه: قال: ثم قامت الرخصة والسعة. قال: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ }.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن أبـا سلـيـمان الـمرعشي كان رجلاً صحب كعبـاً فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلـمون مظلوما دعا ربه فلـم يستـجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل بـاع شيئا فلـم يكتب ولـم يُشهد، فلـما حلّ ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلـم يستـجب له، لأنه قد عصى ربه.

وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بـالدين فرضا، فنسخه قوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ }. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبـي، قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب، ولا تُشهد؛ لقوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا }. قال ابن عيـينة: قال ابن شبرمة عن الشعبـي: إلـى هذا انتهى.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر فـي هذه الآية: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } حتـى بلغ هذا الـمكان: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } قال: رخص فـي ذلك، فمن شاء أن يأتـمن صاحبه فلـيأتـمنه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن الشعبـي، قال: إن ائتـمنه فلا يشهد علـيه ولا يكتب.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الشعبـي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود رخصة ورحمة من الله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال غير عطاء: نسخت الكتاب والشهادة: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا }.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } قال: فلولا هذا الـحرف لـم يبح لأحد أن يدّان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن، فلـما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلـى الأمانة.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سلـيـمان التـيـمي، قال: سألت الـحسن قلت: كل من بـاع بـيعا ينبغي له أن يُشهد؟ قال: ألـم تر أن الله عزّ وجلّ يقول: { فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ }.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر فـي هذه الآية: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } حتـى بلغ هذا الـمكان: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } قال: رخص فـي ذلك، فمن شاء أن يأتـمن صاحبه فلـيأتـمنه.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، عن داود، عن الشعبـي فـي قوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } قال: إن أشهدت فحزم، وإن لـم تشهد ففـي حلّ وسعة.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، قال: قلت للشعبـي: أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشيء، أحتـم علـيه أن يشهد؟ قال: فقرأ إلـى قوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } قد نسخ ما كان قبله.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: ثنا مـحمد بن مروان العقـيـلـي، قال: ثنا عبد الـملك بن أبـي نضرة، عن أبـي سعيد الـخدري، أنه قرأ: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قال: فقرأ إلـى: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } قال: هذه نسخت ما قبلها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: { وَلْيَكْتُب } كتاب الدين إلـى أجل مسمى بـين الدائن والـمدين { كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } يعنـي بـالـحقّ والإنصاف فـي الكتاب الذي يكتبه بـينهما، بـما لا يحيف ذا الـحقّ حقه، ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة علـى من علـيه دينه فـيه ببـاطل، ولا يـلزمه ما لـيس علـيه. كما:

حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } قال: اتقـى الله كاتب فـي كتابه، فلا يدعنّ منه حقاً، ولا يزيدنّ فـيه بـاطلاً.

وأما قوله: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } فإنه يعنـي: ولا يأبـينّ كاتب استكتب ذلك أن يكتب بـينهم كتاب الدين، كما علـمه الله كتابته فخصه بعلـم ذلك، وحرمه كثـيراً من خـلقه.

وقد اختلف أهل العلـم فـي وجوب الكتاب علـى الكاتب إذا استكتب ذلك نظير اختلافهم فـي وجوب الكتاب علـى الذي له الـحقّ. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } قال: واجب علـى الكاتب أن يكتب.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ } أواجب أن لا يأبى أن يكتب؟ قال: نعم. قال ابن جريج وقال مـجاهد: واجب علـى الكاتب أن يكتب.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } بـمثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عامر وعطاء قوله: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } قالا: إذا لـم يجدوا كاتبـاً فدعيت فلا تأب أن تكتب لهم.

ذكر من قال هي منسوخة. قد ذكرنا جماعة مـمن قال: كل ما فـي هذه الآية من الأمر بـالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بـالآية التـي فـي آخرها، وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض الـمعانـي:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } قال: كانت عزيـمة فنسختها: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } فكان هذا واجبـاً علـى الكتَّاب.

وقال آخرون: هو علـى الوجوب، ولكنه واجب علـى الكاتب فـي حال فراغه. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي قوله: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فـارغا.

(والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أن الله عزّ وجلّ أمر الـمتداينـين إلـى أجل مسمى بـاكتتاب كتب الدين بـينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بـينهم بـالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدلّ علـى أن أمره جل ثناؤه بـاكتتاب الكتب فـي ذلك، وأن تقدمه إلـى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد، فذلك فرض علـيهم لا يسعهم تضيـيعه، ومن ضيعه منهم كانَ حَرِجاً بتضيـيعه.

ولا وجه لاعتلال من اعتلّ بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } لأن ذلك إنـما أذن الله تعالـى ذكره به، حيث لا سبـيـل إلـى الكتاب، أو إلـى الكاتب فأما والكتاب والكاتب موجودان، فـالفرض إذا كان الدَّين إلـى أجل مسمى ما أمر الله تعالـى ذكره به فـي قوله: { فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ }. وإنـما يكون الناسخ ما لـم يجز اجتـماع حكمه وحكم الـمنسوخ فـي حال واحدة علـى السبـيـل التـي قد بـيناها، فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فلـيس من الناسخ والـمنسوخ فـي شيء.

ولو وجب أن يكون قوله: { { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } [البقرة: 283] ناسخاً قوله: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ }، لوجب أن يكون قوله: { { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً } [المائدة: 6] ناسخاً الوضوء بـالـماء فـي الـحضر عند وجود الـماء فـيه، وفـي السفر الذي فرضه الله عزّ وجلّ بقوله: { { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } [المائدة: 6] وأن يكون قوله فـي كفـارة الظهار: { { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } [النساء: 92] ناسخاً قوله: { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [المجادلة: 3]. فـيسأل القائل إن قول الله عزّ وجلّ: { { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } [البقرة: 283] ناسخ قوله: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } ما الفرق بـينه وبـين القائل فـي التـيـمـم وما ذكرنا قوله، فزعم أن كل ما أبـيح فـي حال الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه فـي حال الضرورة حكمه فـي كل أحواله، نظير قوله فـي أن الأمر بـاكتتاب كتْب الديون والـحقوق منسوخ بقوله: { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } [البقرة: 283]؟

فإن قال: الفرق بـينـي وبـينه أن قوله: { { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } [البقرة: 283] كلام منقطع عن قوله: { { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ } [البقرة: 283] وقد انتهى الـحكم فـي السفر إذا عدم فـيه الكاتب بقوله: { { فَرِهَـٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ } [البقرة: 283]. وإنـما عنى بقوله: { { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } [البقرة: 283] إذا تداينتـم بدين إلـى أجل مسمى، فأمن بعضكم بعضاً، فلـيؤد الذي اؤتـمن أمانته. قـيـل له: وما البرهان علـى ذلك من أصل أو قـياس وقد انقضى الـحكم فـي الدين الذي فـيه إلـى الكاتب والكتاب سبـيـل بقوله: { وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ }؟ وأما الذين زعموا أن قوله: { فَٱكْتُبُوهُ } وقوله: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } علـى وجه الندب والإرشاد، فإنهم يسألون البرهان علـى دعواهم فـي ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجلّ الذي أمر فـي كتابه، ويسألون الفرق بـين ما ادّعوا فـي ذلك وأنكروه فـي غيره، فلم يقولوا فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا في الآخر مثله.

ذكر من قال العدل فـي قوله: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } الـحقّ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً }.

يعنـي بذلك: فلـيكتب الكاتب، ولـيـملل الذي علـيه الـحقُّ، وهو الغريـم الـمدين. يقول: لـيتولّ الـمدين إملال كتاب ما علـيه من دين ربّ الـمال علـى الكاتب، ولـيتّق الله ربه الـمـملـي الذي علـيه الـحقّ، فلـيحذر عقابه فـي بخس الذي له الـحقّ من حقه شيئاً، أن ينقصه منه ظلـماً، أو يذهب به منه تعديّاً، فـيؤخذ به حيث لا يقدر علـى قضائه إلا من حسناته، أو أن يتـحمل من سيئاته. كما:

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } فكان هذا واجبـاً، { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } يقول: لا يظلـم منه شيئاً.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } قال: لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئاً إذا أملـى.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ }. يعنـي بقوله جل ثناؤه: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } فإن كان الـمدين الذي علـيه الـمال سفـيهاً، يعنـي جاهلاً بـالصواب فـي الذي علـيه أن يـمله علـى الكاتب. كما:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا } أما السفـيه: فـالـجاهل بـالإملاء والأمور.

وقال آخرون: بل السفـيه فـي هذا الـموضع الذي عناه الله: الطفل الصغير. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا } أما السفـيه: فهو الصغير.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا } قال: هو الصبـيّ الصغير، { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ }.

وأولـى التأويـلـين بـالآية، تأويـل من قال: السفـيه فـي هذا الـموضع: الـجاهل بـالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه، لـما قد بـينا قبل من أن معنى السفه فـي كلام العرب: الـجهل.

وقد يدخـل فـي قوله: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا } كل جاهل بصواب ما يـملّ من خطئه من صغير وكبـير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولـى بظاهر الآية أن يكون مراداً بها كل جاهل بـموضع خطأ ما يـمل وصوابه من بـالغي الرجال الذين لا يولـى علـيهم، والنساء؛ لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } والصبـيّ ومن يولـى علـيه لا يجوز مداينته، وأن الله عزّ وجلّ قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفـيه الضعيف ومن لا يستطيع إملاله، ففـي فصله جل ثناؤه الضعيف من السفـيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب فـي الصفة التـي وصف بها كل واحد منهم ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين بـين الله صفـاتهم غير الصنفـين الآخرين. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوماً أن الـموصوف بـالسفه منهم دون الضعف هو ذو القوّة علـى الإملال، غير أنه وضع عنه فرض الإملال بجهله بـموضع صواب ذلك من خطئه، وأن الـموصوف بـالضعف منهم هو العاجز عن إملاله وإن كان شديداً رشيداً إما لعيّ لسانه أو خرس به، وأن الـموصوف بأنه لا يستطيع أن يـمل هو الـمـمنوع من إملاله، إما بـالـحبس الذي لا يقدر معه علـى حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فـيـمل علـيه، وإما لغيبته عن موضع الإملال فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب. فوضع الله عنهم فرض إملال ذلك للعلل التـي وصفنا إذا كانت بهم، وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمر عند سقوط فرض ذلك علـيهم ولـي الـحقّ بإملاله فقال: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } يعنـي ولـيّ الـحقّ.

ولا وجه لقول من زعم أن السفـيه فـي هذا الـموضع هو الصغير، وأن الضعيف هو الكبـير الأحمق؛ لأن ذلك إن كان كما قال يوجب أن يكون قوله: { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } هو العاجز من الرجال العقلاء الـجائزي الأمر فـي أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، بطل معنى قوله: { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } لأن العاقل الرشيد لا يولّـى علـيه فـي ماله وإن كان أخرس أو غائبـا، ولا يجوز حكم أحد فـي ماله إلا بأمره. وفـي صحة معنى ذلك ما يقضي علـى فساد قول من زعم أن السفـيه فـي هذا الـموضع هو الطفل الصغير أو الكبـير الأحمق. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } يقول: ولـيّ الـحق.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } قال: يقول: إن كان عجز عن ذلك أملّ صاحب الدين بـالعدل.

ذكر الرواية عمن قال: عنى بـالضعيف فـي هذا الـموضع: الأحمق. وبقوله: { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } ولـيّ السفـيه والضعيف.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } قال: أمر ولـيّ السفـيه أو الضعيف أن يـملّ بـالعدل.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الأحمق.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: أما الضعيف فـالأحمق.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا } لا يعرف فـيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فولـيه بـمنزلته حتـى يضع لهذا حقه.

وقد دللنا علـى أولـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك. وأما قوله: { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } فإنه يعنـي بـالـحقّ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: (واستشهدوا علـى حقوقكم شاهدين، يقال: فلان شهيدي علـى هذا الـمال وشاهدي علـيه. وأما قوله: { مّن رّجَالِكُمْ } فإنه يعنـي من أحراركم الـمسلـمين دون عبـيدكم، ودون أحراركم الكفـار. كما:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } قال: الأحرار.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا علـي بن سعيد، عن هشيـم، عن داود بن أبـي هند، عن مـجاهد، مثله.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء }.

(يعنـي بذلك جل ثناؤه: فإن لـم يكونا رجلـين، فلـيكن رجل وامرأتان علـى الشهادة. ورفع الرجل والـمرأتان بـالرد علـى الكون، وإن شئت قلت: فإن لـم يكونا رجلـين فلـيشهد رجل وامرأتان علـى ذلك، وإن شئت فإن لـم يكونا رجلـين فرجل وامرأتان يشهدون علـيه؛ وإن قلت: فإن لـم يكونا رجلـين فرجل وامرأتان كان صوابـاً كل ذلك جائز، ولو كان فرجل وامرأتان نصبـاً كان جائزاً علـى تأويـل: فإن لـم يكونا رجلـين، فـاستشهدوا رجلاً وامرأتـين. وقوله: { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء } يعنـي من العدول الـمرتضى دينهم وصلاحهم. كما:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } يقول فـي الدين، { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } وذلك فـي الدين مـمن ترضون من الشهداء. يقول: عدول.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } أمر الله عز وجل أن يشهدوا ذوي عدل من رجالهم، { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء }.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلاْخْرَىٰ }.

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل الـحجاز والـمدينة وبعض أهل العراق: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلاْخْرَىٰ } بفتـح الألف من «أن» ونصب «تضل» و«تذكّر»، بـمعنى: فإن لـم يكونا رجلـين فرجل وامرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. وهو عندهم من الـمقدّم الذي معناه التأخير؛ لأن التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان تضل، لأن الـمعنى ما وصفنا فـي قولهم. وقالوا: إنـما نصبنا «تذكر»، لأن الـجزاء لـما تقدم اتصل بـما قبله فصار جوابه مردوداً علـيه، كما تقول فـي الكلام: إنه لـيعجبنـي أن يسأل السائل فـيعطَى، بـمعنى أنه لـيعجبنـي أن يعطى السائل إن سأل أو إذا سأل، فـالذي يعجبك هو الإعطاء دون الـمسألة. ولكن قوله «أن يسأل» لـما تقدم اتصل بـما قبله، وهو قوله: «لـيعجبنـي» فتـح «أن» ونصب بها، ثم أتبع ذلك قوله: «يُعْطَى»، فنصبه بنصب قوله: «لـيعجبنـي أن يسأل»، نسقا علـيه، وإن كان فـي معنى الـجزاء.

وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرءونه بتسكين الذال من «تُذْكِرَ» وتـخفـيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فـيـما بـينهم فـي تأويـل قراءتهم إياه كذلك. وكان بعضهم يوجهه إلـى أن معناه: فتصير إحداهما الأخرى ذكراً بـاجتـماعهما، بـمعنى أن شهادتها إذا اجتـمعت وشهادة صاحبتها جازت، كما تـجوز شهادة الواحد من الذكور فـي الدين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فـيـما جازت فـيه من الديون إلا بـاجتـماع اثنتـين علـى شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ منزلة شهادة واحد من الذكور. فكأن كل واحدة منهما فـي قول متأولـي ذلك بهذا الـمعنى صيرت صاحبتها معها ذكرا؛ وذهب إلـى قول العرب: لقد أذكرت بفلان أمُّه، أي ولدته ذكرا، فهي تُذْكِرُ به، وهي امرأة مذكرة إذا كانت تلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفـيان بن عيـينة أنه كان يقوله.

حدثت بذلك عن أبـي عبـيد القاسم بن سلام أنه قال: حُدثت عن سفـيان بن عيـينة أنه قال: لـيس تأويـل قوله: { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلاْخْرَىٰ } من الذِّكْرِ بعد النسيان إنـما هو من الذَّكَر، بـمعنى أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر.

وكان آخرون منهم يوجهونه إلـى أنه بـمعنى الذكر بعد النسيان.

وقرأ ذلك آخرون: «إنْ تَضِلُّ إحْدَاهُمَا فَتذَكِّرُ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى» بكسر «إن» من قوله: «إنْ تَضِلَّ» ورفع «تُذَكِّرُ» وتشديده. كأنه بـمعنى ابتداء الـخبر عما تفعل الـمرأتان، إن نسيت إحداهما شهادتها تذكرها الأخرى من تثبـيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك، وانقطاع ذلك عما قبله.

ومعنى الكلام عند قارىء ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لـم يكونا رجلـين فرجل وامرأتان مـمن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى؛ علـى استئناف الـخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية. وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذها عنه. وإنـما نصب الأعمش «تضلّ» لأنها فـي مـحل جزم بحرف الـجزاء، وهو «إنْ». وتأويـل الكلام علـى قراءته: إن تَضْلِلْ، فلـما اندغمت إحدى اللامين فـي الأخرى حركها إلـى أخفّ الـحركات وقع تذكر بـالفـاء، لأنه جواب الـجزاء.

والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك قراءة من قرأه بفتـح «أن» من قوله: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } وبتشديد الكاف من قوله: { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلاْخْرَىٰ } ونصب الراء منه، بـمعنى: فإن لـم يكونا رجلـين فلـيشهد رجل وامرأتان كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى. وأما نصب «فتذكر» فبـالعطف علـى «تضلّ»، وفتـحت «أن» بحلولها مـحل «كي»، وهي فـي موضع جزاء، والـجواب بعده اكتفـاءً بفتـحها، أعنـي بفتـح «أن» من «كي» ونسق الثانـي، أعنـي «فتذكر» علـى «تضلّ»، لـيعلـم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فـيه وهو ظاهر قد دلّ علـيه وأدّى عن معناه وعمله، أي عن «كي». وإنـما اخترنا ذلك فـي القراءة لإجماع الـحجة من قدماء القراء والـمتأخرين علـى ذلك، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءته فـي ذلك بـما انفرد به عنهم، ولا يجوز ترك قراءة جاء بها الـمسلـمون مستفـيضة بـينهم إلـى غيرها. وأما اختـيارنا «فتذكِّر» بتشديد الكاف، فإنه بـمعنى تأدية الذكر من إحداهما علـى الأخرى وتعريفها بإنهاء ذلك لتذكر، فـالتشديد به أولـى من التـخفـيف.

وأما ما حكي عن ابن عيـينة من التأويـل الذي ذكرناه، فتأويـل خطأ لا معنى له لوجوه شتـى: أحدها: أنه خلاف لقول جميع أهل التأويـل. والثانـي: أنه معلوم بأن ضلال إحدى الـمرأتـين فـي الشهادة التـي شهدت علـيها إنـما هو خطؤها عنها بنسيانها إياها كضلال الرجل فـي دينه إذا تـحير فـيه، فعدل عن الـحقّ، وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكراً معها مع نسيانها شهادتها وضلالها فـيها؟ فـالضالة منهما فـي شهادتها حينئذ لا شك أنها إلـى التذكير أحوج منها إلـى الإذكار، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضعفت صاحبتها عن ذكر شهادتها ستـجرئها علـى ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، فقوّتها بـالذكر حتـى صيرتها كالرجل فـي قوّتها فـي ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك، كما يقال للشيء القويّ فـي عمله: ذكر، وكما يقال للسيف الـماضي فـي ضربه: سيف ذكر، ورجل ذكر، يراد به ماض فـي عمله، قويّ البطش، صحيح العزم. فإن كان ابن عيـينة هذا أراد، فهو مذهب من مذاهب تأويـل ذلك؟ إلا أنه إذا تأوّل ذلك كذلك، صار تأويـله إلـى نـحو تأويـلنا الذي تأوّلناه فـيه، وإن خالفت القراءة بذلك الـمعنى القراءة التـي اخترناها بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بـالذي اختار قراءته من تـخفـيف الكاف من قوله: فتذكر، ولا نعلـم أحدا تأوّل ذلك كذلك، ويستـحبّ قراءته كذلك بذلك الـمعنى. فـالصواب فـي قوله إذ كان الأمر عاما علـى ما وصفنا ما اخترنا.)

ذكر من تأوّل قوله: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلاْخْرَىٰ } نـحو تأويـلنا الذي قلنا فـيه:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا } علـم الله أن ستكون حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربكم، وأدرك لأموالكم. ولعمري لئن كان تقـياً لا يزيده الكتاب إلا خيراً، وإن كان فـاجراً فبـالـحَري أن يؤدي إذا علـم أن علـيه شهوداً.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلاْخْرَىٰ } يقول: أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى.

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } يقول: تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } يقول: إن تنس إحداهما، تذكرها الأخرى.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلاْخْرَىٰ } قال: كلاهما لغة وهما سواء، ونـحن نقرأ: { فَتُذَكّرَ }.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ }.

اختلف أهل التأويـل فـي الـحال التـي نهى الله الشهداء عن إبـاء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية، فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا إذا دعوا لـيشهدوا علـى الكتاب والـحقوق. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالـى: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } كان الرجل يطوف فـي الـحِوَاء العظيـم فـيه القوم، فـيدعوهم إلـى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم. قال: وكان قتادة يتأوّل هذه الآية: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } لـيشهدوا لرجل علـى رجل.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: كان الرجل يطوف فـي القوم الكثـير يدعوهم لـيشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ }.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلـى شهادة.

وقال آخرون بـمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرض ذلك علـى من دعي للإشهاد علـى الـحقوق إذا لـم يوجد غيره، فأما إذا وجد غيره فهو فـي الإجابة إلـى ذلك مخير إن شاء أجاب وإن شاء لـم يجب. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفـيان، عن جابر، عن الشعبـي، قال: { لا يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: إن شاء شهد، وإن شاء لـم يشهد، فإذا لـم يوجد غيره شهد.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للشهادة علـى من أراد الداعي إشهاده علـيه، والقـيام بـما عنده من الشهادة من الإجابة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عامر، عن الـحسن: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: قال الـحسن: الإقامة والشهادة.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: كان الـحسن يقول: جمعت أمرين لا تأب إذا كانت عندك: شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيت إلـى شهادة.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } يعنـي من احتـيج إلـيه من الـمسلـمين شهد علـى شهادة إن كانت عنده، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دعي.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: لإقامتها، ولا يبذأ بها إذا دعاه لـيشهده، وإذا دعاه لـيقـيـمها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للقـيام بـالشهادة التـي عندهم للداعي من إجابته إلـى القـيام بها. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: إذا شهد.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } يقول: إذا كانوا قد أشهدوا.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا ابن علـية، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: إذا كانت عندك شهادة فدعيت.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، قال: ثنا لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: إذا كانت شهادة فأقمها، فإذا دعيت لتشهد، فإن شئت فـاذهب، وإن شئت فلا تذهب.

حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا عبد الـملك بن الصبـاح، عن عمران بن حدير، قال: قلت لأبـي مـجلز: ناس يدعوننـي لأشهد بـينهم، وأنا أكره أن أشهد بـينهم؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدت فأجب إذا دعيت.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن عامر، قال: الشاهد بـالـخيار ما لـم يشهد.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا هشيـم، عن يونس، عن عكرمة فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: لإقامة الشهادة.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن أبـي عامر، عن عطاء قال: فـي إقامة الشهادة.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، قال: ثنا أبو عامر الـمزنـي، قال: سمعت عطاء يقول: ذلك فـي إقامة الشهادة، يعنـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ }.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو مرّة، أخبرنا عن الـحسن أنه سأله سائل قال: أدعى إلـى الشهادة وأنا أكره أن أشهد علـيها؟ قال: فلا تـجب إن شئت.

حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيـم، عن مغيرة، قال: سألت إبراهيـم قلت: أدعى إلـى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال: فلا تشهد إن شئت.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عامر، عن عطاء، قال: للإقامة.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن شريك، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: إذا كانوا قد شهدوا.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شريك، عن سالـم، عن سعيد: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: هو الذي عنده الشهادة.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدم فـيشهد إذا كان فـارغاً.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ }؟ قال: هم الذين قد شهدوا. قال: ولا يضرّ إنسانا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء: ما شأنه؟ إذا دعي أن يكتب وجب علـيه أن لا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لـم يجب علـيه أن يشهد إن شاء؟ قال: كذلك يجب علـى الكاتب أن يكتب، ولا يجب علـى الشاهد أن يشهد إن شاء؛ الشهداء كثـير.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتـي يؤدي شهادة ويقـيـمها.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء } قال: كان الـحسن يتأوّلها إذا كانت عنده شهادة فدعى لـيقـيـمها.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهد لرجل فشهد، والكاتب الذي يكتب الكتاب؛ دُعوا إلـى مقطع الـحقّ، فعلـيهم أن يجيبوا، وأن يشهدوا بـما أشهدوا علـيه.

وقال آخرون: هو أمر من الله عزّ وجلّ والـمرأة بـالإجابة إذا دعي لـيشهد علـى ما لـم يشهد علـيه من الـحقوق ابتداء لا إقامة الشهادة، ولكنه أمر ندب لا فرض. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي أبو العالـية العبدي إسماعيـل بن الهيثم، قال: ثنا أبو قتـيبة، عن فضيـل بن مرزوق، عن عطية العوفـي فـي قوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فـاشهد، وإن شئت فلا تشهد.

حدثنـي أبو العالـية، قال: ثنا أبو قتـيبة، عن مـحمد بن ثابت العصري، عن عطاء، بـمثله.

وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء من الإجابة إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي علـيه ما علـيه للذي هو له.

وإنـما قلنا هذا القول بـالصواب أولـى فـي ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن الله عزّ وجلّ قال: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } فإنـما أمرهم بـالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم الشهداء، وغير جائز أن يـلزمهم اسم الشهداء إلا وقد استشهدوا قبل ذلك، فشهدوا علـى ما ألزمهم شهادتهم علـيه اسم الشهداء، فأما قبل أن يستشهدوا علـى شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء، لأن ذلك الاسم لو كان يـلزمهم ولـما يستشهدوا علـى شيء يستوجبون بشهادتهم علـيه هذا الاسم لـم يكن علـى الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستـحقّ أن يقال له شاهد، بـمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلـح لأن يشهد وإن كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، أو من قد قام بشهادته، فلزمه لذلك هذا الاسم؛ كان معلوماً أن الـمعنـيّ بقوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } من وصفنا صفته مـمن قد استرعى شهادة أو شهد، فدعي إلـى القـيام بها، لأن الذي لـم يستشهد ولـم يسترع شهادة قبل الإشهاد غير مستـحقّ اسم شهيد ولا شاهد، لـما قد وصفنا قبل. مع أن فـي دخول الألف واللام فـي «الشهداء» دلالة واضحة علـى أن الـمسمى بـالنهي عن ترك الإجابة للشهادة أشخاص معلومون قد عرفوا بـالشهادة، وأنهم الذين أمر الله عزّ وجل أهل الـحقوق بـاستشهادهم بقوله: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء }. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوماً أنهم إنـما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استشهدوا فشهدوا؛ ولو كان ذلك أمراً لـمن أعرض من الناس فدعي إلـى الشهادة يشهد علـيها لقـيـل: ولا يأب شاهد إذا ما دعي. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الذي نقول به فـي الذي يدعى لشهادة لـيشهد علـيها إذا كان بـموضع لـيس به سواه مـمن يصلـح للشهادة، فإن الفرض علـيه إجابة داعيه إلـيها كما فرض علـى الكاتب إذا استكتب بـموضع لا كاتب به سواه، ففرض علـيه أن يكتب، كما فرض علـى من كان بـموضع لا أحد به سواه يعرف الإيـمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهل بـالإيـمان وبفرائض الله فسأله تعلـيـمه، وبـيان ذلك له أن يعلـمه ويبـينه له. ولـم نوجب ما أوجبنا علـى الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداء لـيشهد علـى ما أشهد علـيه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وقد فرضنا علـى الرجل إحياء ما قدر علـى إحيائه من حقّ أخيه الـمسلـم. والشهداء: جمع شهيد.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا أيها الذين تداينون الناس إلـى أجل أن تكتبوا صغير الـحقّ، يعنـي قلـيـله أو كبـيره ـ يعنـي أو كثـيره ـ { إِلَى أَجَلِهِ }، إلـى أجل الـحقّ، فإن الكتاب أحصى للأجل والـمال.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شريك عن لـيث، عن مـجاهد: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } قال: هو الدين.

ومعنى قوله: { وَلاَ يَأْبَ } لا تـملوا، يقال منه: سئمت فأنا أسأم سآمة وسأمةً، ومنه قول لبـيد:

ولقد سَئِمْتُ من الـحياة وطُولِهَا وسؤالِ هذا الناس: كيف لَبـيدُ

ومنه قول زهير:

سَئِمْتُ تَكالـيفَ الـحياةِ ومن يَعِشْ ثمانـينَ حَوْلاً لا أبـا لَكَ يَسْأمِ

يعنـي مللت.

وقال بعض نـحويـي البصريـين: تأويـل قوله: { إِلَى أَجَلِهِ } إلـى أجل الشاهد، ومعناه: إلـى الأجل الذي تـجوز شهادته فـيه. وقد بـينا القول فـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ }.

يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: ذلكم اكتتاب كتاب الدَّين إلـى أجله، ويعنـي بقوله أقسط: أعدل عند الله، يقال منه: أقسط الـحاكم فهو يقسط إقساطاً وهو مقسط، إذا عدل فـي حكمه، وأصاب الـحقّ فـيه، فإذا جار قـيـل: قسط فهو يَقْسِط قُسُوطاً، ومنه قول الله عزّ وجلّ: { وَأَمَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } يعنـي الـجائرون.

وبـمثل ما قلنا فـي ذلك قال جماعة أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي قوله: { ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } يقول: أعدل عند الله.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وأصوب للشهادة. وأصله من قول القائل: أقمته من عَوَجه، إذا سويته فـاستوى. وإنـما كان الكتاب أعدل عند الله وأصوب لشهادة الشهود علـى ما فـيه، لأنه يحوي الألفـاظ التـي أقرّ بها البـائع والـمشتري وربّ الدين والـمستدين علـى نفسه، فلا يقع بـين الشهود اختلاف فـي ألفـاظهم بشهادتهم لاجتـماع شهادتهم علـى ما حواه الكتاب، وإذا اجتـمعت شهادتهم علـى ذلك، كان فصل الـحكم بـينهم أبـين لـمن احتكم إلـيه من الـحكام، مع غير ذلك من الأسبـاب، وهو أعدل عند الله، لأنه قد أمر به، واتبـاع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانـحراف عنه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ }.

يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: { وَأَدْنَى } وأقرب، من الدنوّ: وهو القرب. ويعنـي بقوله: { أَن لا تَرْتَابُواْ } من أن لا تشكوا فـي الشهادة. كما:

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن لا تَرْتَابُواْ } يقول: أن لا تشكوا فـي الشهادة.

وهو تفتعل من الرِّيبة. ومعنى الكلام: ولا تـملوا أيها القوم أن تكتبوا الـحقّ الذي لكم قِبَل من داينتـموه من الناس إلـى أجل صغيرا كان ذلك الـحقّ، قلـيلاً أو كثـيرا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله وأصوب لشهادة شهودكم علـيه، وأقرب لكم أن لا تشكوا فـيـما شهد به شهودكم علـيكم من الـحقّ والأجل إذا كان مكتوبـاً.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا }.

ثم استثنى جل ذكره مـما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم علـى غرمائهم بـالـحقوب التـي لهم علـيهم، ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مبـايعة بـالنقود الـحاضرة يدا بـيد، فرخص لهم فـي ترك اكتتاب الكتب بذلك؛ لأن كل واحد منهم، أعنـي من البـاعة والـمشترين، يقبض ـ إذا كان التواجب بـينهم فـيـما يتبـايعونه بعد ـ ما وجب له قِبَل مبـايعيه قبل الـمفـارقة، فلا حاجة لهم فـي ذلك إلـى اكتتاب أحد الفريقـين علـى الفريق الآخر كتابـا بـما وجب لهم قِبَلهم وقد تقابضوا الواجب لهم علـيهم، فلذلك قال تعالـى ذكره: { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } لا أجل فـيها ولا تأخير ولا نساء، { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا } يقول: فلا حرج علـيكم أن لا تكتبوها، يعنـي التـجارة الـحاضرة.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي قوله: { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } يقول: معكم بـالبلد ترونها فتؤخذ وتعطى، فلـيس علـى هؤلاء جناح أن لا يكتبوها.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } إلـى قوله: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا } قال: أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبـيرا إلـى أجله، وأمر ما كان يدا بـيد أن يشهد علـيه صغيراً كان أو كبـيراً ورخص لهم أن لا يكتبوه.

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق وعامة القرّاء: «إِلاَّ أنْ تَكُونَ تِـجَارَةٌ حاضِرَةٌ» بـالرفع، وانفرد بعض قرّاء الكوفـيـين فقرأه بـالنصب. وذلك وإن كان جائزا فـي العربـية، إذ كانت العرب تنصب النكرات والـمنعوتات مع «كان»، وتضمر معها فـي «كان» مـجهولاً، فتقول: إن كان طعاماً طيبـاً فأتنا به، وترفعها فتقول: إن كان طعام طيب فأتنا به، فتتبع النكرة خبرها بـمثل إعرابها. فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستـجيز القراءة بغيره، الرفع فـي «التـجارة الـحاضرة»، لإجماع القرّاء علـى ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصبـا عنهم، ولا يعترض بـالشاذ ّعلـى الـحجة. ومـما جاء نصبـاً قول الشاعر:

أعَيْنَـيَّ هَلْ تَبْكِيانِ عِفـاقَا إذَا كَانَ طَعْناً بـينَهُمْ وَعِناقَاً

وقول الآخر:

ولِلَّهِ قَوْمِي أيُّ قَوْمٍ لحرةٍإذَا كَانَ يوماً ذا كَواكبَ أشْنَعا

وإنـما تفعل العرب ذلك فـي النكرات لـما وصفنا من إتبـاع أخبـار النكرات أسماءها، وكان من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما تذكروا إتبـاع النكرة خبرها، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة «كان» منصوب ومرفوع، ووجدوا النكرة يتبعها خبرها، وأضمروا فـي كان مـجهولاً لاحتـمالها الضمير. وقد ظنّ بعض الناس أن من قرأ ذلك: { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً } إنـما قرأه علـى معنى: إلا أن يكون تـجارة حاضرة، فزعم أنه كان يـلزم قارىء ذلك أن يقرأ «يكون» بـالـياء، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب، وألزمه غير ما يـلزمه. وذلك أن العرب إذا جعلوا مع كان نكرة مؤنثاً بنعتها أو خبرها، أنثوا «كان» مرّة وذكَّروها أخرى، فقالوا: إن كانت جارية صغيرة فـاشتروها، وإن كان جارية صغيرة فـاشتروها، تذكر «كان» وإن نصبت النكرة الـمنعوتة أو رفعت أحياناً وتؤنث أحياناً.

وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن قوله: «إلاَّ أن تَكُونَ تِـجَارَةٌ حاضِرَةٌ» مرفوعة فـيه التـجارة الـحاضرة لأن يكون بـمعنى التـمام، ولا حاجة بها إلـى الـخبر، بـمعنى: إلا أن توجد أو تقع أو تـحدث، فألزم نفسه ما لـم يكن لها لازماً، لأنه إنـما ألزم نفسه ذلك إذا لـم يكن يجد لكان منصوبـاً، ووجد التـجارة الـحاضرة مرفوعة، وأغفل جواز قوله: { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } أن يكون خبراً لكان، فـيستغنـي بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم. والذي قال من حكينا قوله من البصريـين غير خطأ فـي العربـية، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفـي الـمعنى أصحّ، وهو أن يكون فـي قوله: { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } وجهان: أحدهما أنه فـي موضع نصب علـى أنه حلّ مـحل خبر «كان»، والتـجارة الـحاضرة اسمها. والآخر: أنه فـي موضع رفع علـى إتبـاع التـجارة الـحاضرة، لأن خبر النكرة يتبعها، فـيكون تأويـله: إلا أن تكون تـجارة حاضرة دائرة بـينكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: (وأشهدوا علـى صغير ما تبـايعتـم وكبـيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسائه، فإن إرخاصي لكم فـي ترك اكتتاب الكتب بـينكم فـيـما كان من حقوق تـجري بـينكم لبعضكم من قبل بعض عن تـجارة حاضرة دائرة بـينكم يداً بـيدٍ ونقداً لـيس بإرخاص منـي لكم فـي ترك الإشهاد منكم علـى من بعتـموه شيئاً أو ابتعتـم منه، لأن فـي ترككم الإشهاد علـى ذلك خوف الـمضرّة علـى كل من الفريقـين. أما علـى الـمشتري فأن يجحد البـائع الـمبـيع، وله بـينة علـى ملكه ما قد بـاع، ولا بـينة للـمشتري منه علـى الشراء منه فـيكون القول حينئذٍ قول البـائع مع يـمينه ويقضي له به، فـيذهب مال الـمشتري بـاطلاً. وأما علـى البـائع فأن يجحد الـمشتري الشراء، وقد زال ملك البـائع عما بـاع، ووجب له قبل الـمبتاع ثمن ما بـاع، فـيحلف علـى ذلك فـيبطل حقّ البـائع قِبَل الـمشتري من ثمن ما بـاعه. فأمر الله عزّ وجلّ الفريقـين بـالإشهاد، لئلا يضيع حقّ أحد الفريقـين قِبَل الفريق الآخر.

ثم اختلفوا فـي معنى قوله: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أهو أمر من الله واجب بـالإشهاد عند الـمبـايعة، أم هو ندب؟ فقال بعضهم: هو ندب إن شاء أشهد، وإن شاء لـم يشهد. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن الربـيع، عن الـحسن وشقـيق، عن رجل، عن الشعبـي فـي قوله: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لـم يشهد، ألـم تسمع إلـى قوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ }؟

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: ثنا الربـيع بن صبـيح، قال: قلت للـحسن: أرأيت قول الله عز وجل: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ }؟ قال: إن أشهدت علـيه فهو ثقة للذي لك، وإن لـم تشهد علـيه فلا بأس.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن الربـيع بن صبـيح، قال: قلت للـحسن: يا أبـا سعيد قول الله عز وجل: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أبـيع الرجلَ وأنا أعلـم أنه لا ينقد فـي شهرين ولا ثلاثة، أترى بأساً ألاّ أشهد علـيه؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لـم تشهد فلا بأس.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا الـحجاج، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبـي: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } قال: إن شاؤوا أشهدوا، وإن شاؤا لـم يشهدوا.

وقال آخرون: الإشهاد علـى ذلك واجب. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا } ولكن أشهدوا علـيها إذا تبـايعتـم أمَرَ الله ما كان يداً بـيد، أن يشهدوا علـيه صغيراً كان أو كبـيراً.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: ما كان من بـيع حاضر، فإن شاء أشهد، وإن شاء لـم يشهد. وما كان من بـيع إلـى أجل، فأمر الله أن يكتب ويشهد علـيه، وذلك فـي الـمقام.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، أن الإشهاد علـى كل مبـيع ومشترى حق واجب وفرض لازم، لـما قد بـينا من أن كل أمر لله ففرض، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسلـيـم له بأنه ندب وإرشاد.

وقد دللنا علـى وَهْي قول من قال ذلك منسوخ بقوله: { فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } فـيـما مضى فأغنى عن إعادته.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: ذلك نهي من الله لكاتب الكتاب بـين أهل الـحقوق والشهيد أن يضار أهله، فـيكتب هذا ما لـم يـملله الـمـملـي، ويشهد هذا بـما لـم يستشهده الشهيد. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبـيه فـي قوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } ولا يضار كاتب فـيكتب ما لـم يـمل علـيه، ولا شهيد فـيشهد بـما لـم يُستشهد.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا ابن علـية، عن يونس، قال: كان الـحسن يقول: لا يضار كاتب فـيزيد شيئاً أو يحرِّف، ولا شهيد، قال: لا يكتـم الشهادة. ولا يشهد إلا بحق.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، عن قتادة، قال: اتَقـى الله شاهد فـي شهادته لا ينقص منها حقاً ولا يزيد فـيها بـاطلاً. اتقـى الله كاتب فـي كتابه، فلا يدعنَّ منه حقاً ولا يزيدنَّ فـيه بـاطلاً.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال: لا يضار كاتب فـيكتب ما لـم يـملل، ولا شهيد فـيشهد بـما لـم يستشهد.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن قتادة نـحوه.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }. قال: لا يضار كاتب فـيكتب غير الذي أملـي علـيه، قال: والكتاب يومئذٍ قلـيـل، ولا يدرون أي شيء يكتب، فـيضار، فـيكتب غير الذي أملـي علـيه، فـيبطل حقهم. قال: والشهيد: يضار فـيحول شهادته، فـيبطل حقهم.

فأصل الكلـمة علـى تأويـل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارِر كاتب ولا شهيد، ثم أدغمت الراء فـي الراء لأنهما من جنس وحركت إلـى الفتـح وموضعها جزم، لأن الفتـح أخفّ الـحركات.

وقال آخرون مـمن تأول هذه الكلـمة هذا التأويـل: معنى ذلك: ولا يضارّ كاتب ولا شهيد بـالامتناع عمن دعاهما إلـى أداء ما عندهما من العلـم أو الشهادة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول: أن يؤدّيا ما قِبَلهما.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال: «لا يضارّ» أن يؤدّيا ما عندهما من العلـم.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مقسم، عن ابن عبـاس، قال: { لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال: أن يدعوهما فـيقولان: إنَّ لنا حاجة.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومـجاهد: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قالا: واجب علـى الكاتب أن يكتب، { وَلاَ شَهِيدٌ }، قالا: إذا كان قد شهدا قِبَله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يضارّ الـمستكتب والـمستشهد الكاتب والشهيد. وتأويـل الكلـمة علـى مذهبهم: ولا يضارَر علـى وجه ما لـم يسمّ فـاعله. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيـينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان عمر يقرأ: «ولا يضارَرْ كاتب ولا شهيد».

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك، قال: كان ابن مسعود يقرأ: «ولا يُضارَرْ».

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد الله بن كثـير عن مـجاهد، أنه كان يقرأ: «ولا يضارر كاتب ولا شهيد»، وأنه كان يقول فـي تأويـلها: ينطلق الذي له الـحقّ فـيدعو كاتبه وشاهده إلـى أن يشهد، ولعله أن يكون فـي شغل أو حاجة لـيؤثمه إن ترك ذلك حينئذٍ لشغله وحاجته. وقال مـجاهد: لا يقم عن شغله وحاجته، فـيجد فـي نفسه أو يحرج.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قال: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } والضرار: أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنـيّ: إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت، فـيضاره بذلك وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك، وقال: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ }.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة لـيس منها بدّ، فـيقول: خـلوا سبـيـله.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، عن يونس، عن عكرمة فـي قوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال: يكون به العلة، أو يكون مشغولاً. يقول: فلا يضارّه.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أنه كان يقول: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول: لا يأت الرجل فـيقول: انطلق فـاكتب لـي واشهد لـي، فـيقول: إن لـي حاجة فـالتـمس غيري، فـيقول: اتق الله فإنك قد أمرت أن تكتب لـي. فهذه الـمضارة؛ ويقول: دعه والتـمس غيره، والشاهد بتلك الـمنزلة.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول: يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد، فـيقول الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة! فـيقول الذي يدعوهما: إن الله عزّ وجلّ أمركما أن تـجيبـا فـي الكتابة والشهادة! يقول الله عزّ وجلّ لا يضارّهما.

حدثت عن الـحسن، قال: سمعت أبـا معاذ قال: ثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما علـى حاجة مهمة، فـيقولان: إنا علـى حاجة مهمة، فـاطلب غيرنا! فـيقول: الله أمركما أن تـجيبـا، فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارّهما، يعنـي لا يشغلهما عن حاجتهما الـمهمة وهو يجد غيرهما.

حدثنـي موسى قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي قوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول: لـيس ينبغي أن تعترض رجلاً له حاجة فتضارّه فتقول له: اكتب لـي! فلا تتركه حتـى يكتب لك وتفوته حاجته. ولا شاهداً من شهودك وهو مشغول، فتقول: اذهب فـاشهد لـي تـحبسه عن حاجته، وأنت تـجد غيره.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال: لـما نزلت هذه الآية: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } كان أحدهم يجيء إلـى الكاتب فـيقول: اكتب لـي! فـيقول: إنـي مشغول أو لـي حاجة، فـانطلق إلـى غيري! فـيـلزمه ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لـي. فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتـي الرجل فـيقول: انطلق معي! فـيقول: اذهب إلـى غيري فإنـي مشغول أو لـي حاجة، فـيـلزمه ويقول: قد أمرت أن تتبعنـي. فـيضارّه بذلك، وهو يجد غيره، فأنزل الله عزّ وجلّ { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول: إن لـي حاجة فدعنـي! فـيقول: اكتب لـي. «ولا شَهِيدٌ» كذلك.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يضارّ كاتب ولا شهيد، بـمعنى: ولا يضارّهما من استكتب هذا أو استشهد هذا بأن يأبى علـى هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى علـى هذا إلا أن يجيب إلـى الشهادة وهو غير فـارغ، علـى ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل.

وإنـما قلنا هذا القول أولـى بـالصواب من غيره، لأن الـخطاب من الله عزّ وجلّ فـي هذه الآية من مبتدئها إلـى انقضائها علـى وجه افعلوا أو لا تفعلوا، إنـما هو خطاب لأهل الـحقوق والـمكتوب بـينهم الكتاب والـمشهود لهم أو علـيهم بـالذي تداينوه بـينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فـيها لغيرهم، فإنـما هو علـى وجه الأمر والنهي للغائب غير الـمخاطب كقوله: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ } وكقوله: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } وما أشبه ذلك، فـالواجب إذا كان الـمأمورون فـيها مخاطبـين بقوله: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أشبه منه بأن يكون مردوداً علـى الكاتب والشهيد، ومع ذلك إن الكاتب والشهيد لو كانا هما الـمنهيـين عن الضرار لقـيـل: وإن يفعلا فإنه فسوق بهما، لأنهما اثنان، وإنـما غير مخاطبـيـين بقوله: { وَلاَ يُضَارَّ } بل النهي بقوله: { وَلاَ يُضَارَّ } نهي للغائب غير الـمخاطب. فتوجيه الكلام إلـى ما كان نظيراً لـما فِـي سياق الآية، أولـى من توجيهه إلـى ما كان منعدلاً عنه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإن تضارَّوا الكاتب أو الشاهد وما نهيتـم عنه من ذلك، فإنه فسوق بكم، يعنـي إثم بكم ومعصية.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم بنـحو الذي قلنا. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق: الـمعصية.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق: العصيان.

وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضار كاتب فـيكتب غير الذي أملـى الـمـملـي، ويضارّ شهيد فـيحوّل شهادته ويغيرها، فإنه فسوق بكم، يعنـي فإنه كذب. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق: الكذب. قال: هذا فسوق لأنه كذب الكاتب فحوّل كتابه فكذب، وكذب الشاهد فحوّل شهادته، فأخبرهم الله أنه كذب.

وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن الـمعنـيّ بقوله: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } إنـما معناه: لا يضارّهما الـمستكتب والـمستشهد، بـما فـيه الكفـاية. فقوله: { وَإِن تَفْعَلُواْ } إنـما هو إخبـار من يضارّهما بحكمه فـيهما، وأن من يضارّهما فقد عصى ربه وأثم به، وركب ما لا يحلّ له، وخرج عن طاعة ربه فـي ذلك.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ }.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } وخافوا الله أيها الـمتداينون فـي الكتاب والشهود أن تضاروهم، وفـي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه. ويعنـي بقوله: { وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ } ويبـين لكم الواجب لكم وعلـيكم، فـاعملوا به. { وَٱللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } يعنـي من أعمالكم وغيرها، يحصيها علـيكم لـيجازيكم بها.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: { وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ } قال: هذا تعلـيـم علـمكموه فخذوا به.