التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٦١
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

القول في تأويل قوله تعالى ذكره { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } قد دللنا فيما مضى قبل على معنى الصبر وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء فإذا كان ذلك كذلك فمعنى الآية إذا واذكروا إذ قلتم يا معشر بني إسرائيل.

لن نطيق حبس أنفسنا علـى طعام واحد وذلك الطعام الواحد هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه فـي تـيههم وهو السلوى فـي قول بعض أهل التأويـل، وفـي قول وهب بن منبه هو الـخبز النّقـيّ مع اللـحم فـاسأل لنا ربك يخرج لنا مـما تنبت الأرض من البقل والقثاء. وما سمى الله مع ذلك وذكر أنهم سألوه موسى. وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فـيـما بلغنا، ما:

حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } قال: كان القوم فـي البرية قد ظلل علـيهم الغمام، وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشاً كان لهم بـمصر، فسألوه موسى، فقال الله تعالـى: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { لَنْ نَصْبِرَ علـى طَعامٍ وَاحِدٍ } قال: ملوا طعامهم، وذكروا عيشهم الذي كانوا فـيه قبل ذلك، قالُوا { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا }... الآية.

حدثنـي الـمثنى ابن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } قال: كان طعامهم السلوى، وشرابهم الـمنّ، فسألوا ما ذكر، فقـيـل لهم: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }.

قال أبو جعفر، وقال قتادة: إنهم لـما قدموا الشأم فقدوا أطعمتهم التـي كانوا يأكلونها، فقالوا: { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } وكانوا قد ظلل علـيهم الغمام وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشاً كانوا فـيه بـمصر.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، قال: سمعت ابن أبـي نـجيح فـي قوله عزّ وجل: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } الـمنّ والسلوى، فـاستبدلوا به البقل وما ذكر معه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بـمثله سواء.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد بـمثله.

حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أعطوا فـي التـيه ما أعطوا، فملوا ذلك وقالوا{ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أنبأنا ابن زيد، قال: كان طعام بنـي إسرائيـل فـي التـيه واحداً، وشرابهم واحداً، كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له الـمنّ، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لـم يكونوا يعرفون خبزاً ولا غيره. فقالوا: يا موسى إنا لن نصبر علـى طعام واحد، فـادع لنا ربك يخرج لنا مـما تنبت الأرض من بقلها فقرأ حتـى بلغ: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }.

وإنـما قال جل ذكره: { يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ } ولـم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه لـيخرج لهم من الأرض، فـيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مـما تنبته الأرض من بقلها وقثائها، لأن «من» تأتـي بـمعنى التبعيض لـما بعدها، فـاكْتُفـي بها عن ذكر التبعيض، إذ كان معلوماً بدخولها معنى ما أريد بـالكلام الذي هي فـيه كقول القائل: أصبح الـيوم عند فلان من الطعام يريد شيئاً منه.

وقد قال بعضهم: «من» ههنا بـمعنى الإلغاء والإسقاط، كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها. واستشهد علـى ذلك بقول العرب: ما رأيت من أحد، بـمعنى: ما رأيت أحداً، وبقول الله: { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } وبقولهم: قد كان من حديث، فخـلّ عنـي حتـى أذهب، يريدون: قد كان حديث.

وقد أنكر من أهل العربـية جماعة أن تكون «من» بـمعنى الإلغاء فـي شيء من الكلام، وادّعُوا أنّ دخولها فـي كل موضع دخـلت فـيه مؤذن أن الـمتكلـم مريد لبعض ما أدخـلت فـيه لا جميعه، وأنها لا تدخـل فـي موضع إلا لـمعنى مفهوم.

فتأويـل الكلام إذا علـى ما وصفنا من أمر من ذكرنا: فـادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها. والبقل والقثاء والعدس والبصل، هو ما قد عرفه الناس بـينهم من نبـات الأرض وحبها. وأما الفوم، فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيه. فقال بعضهم: هو الـحنطة والـخبز. ذكر من قال ذلك.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد ومؤمل، قالا: ثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، قال: الفوم: الـخبز.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء ومـجاهد قوله: { وَفُومِها } قالا: خبزها.

حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة ومـحمد بن عمرو، قالا: ثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَفُومِها } قال: الـخبز.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والـحسن: الفوم: هو الـحبّ الذي تـختبزه الناس.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والـحسن بـمثله.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك فـي قوله: { وَفُومِها } قال: الـحنطة.

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط بن نصر عن السدي: { وَفُومِهَا } الـحنطة.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن وحصين، عن أبـي مالك فـي قوله: { وَفُومِها }: الـحنطة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة قال: الفوم: الـحبّ الذي يختبز الناس منه.

حدثنـي القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لـي عطاء بن أبـي ربـاح قوله: { وَفُومِها } قال: خبزها. قالها مـجاهد.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال لـي ابن زيد: الفوم: الـخبز.

حدثنـي يحيى بن عثمان السهمي، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَفُومِها } يقول: الـحنطة والـخبز.

حدثت عن الـمنـجاب، قال: ثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَفُومِها } قال: هو البرّ بعينه الـحنطة.

حدثنا علـيّ بن الـحسن، قال: ثنا مسلـم الـجرمي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قول الله عزّ وجل: { وَفُومِها } قال: الفوم: الـحنطة بلسان بنـي هاشم.

حدثنـي عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الـحكم، قال: ثنا عبد العزيز بن منصور، عن نافع بن أبـي نعيـم أن عبد الله بن عبـاس سئل عن قول الله: { وَفُومِها } قال: الـحنطة، أما سمعت قول أحيحة بن الـجلاح وهو يقول:

قَدْ كُنْتُ أغْنَى النّاسِ شَخْصاً وَاحداً وَرَدَ الـمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ

وقال آخرون: هو الثوم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: هو هذا الثوم.

حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: الفوم: الثوم.

وهو فـي بعض القراءات «وثومها». وقد ذكر أن تسمية الـحنطة والـخبز جميعاً فوماً من اللغة القديـمة، حكي سماعاً من أهل هذه اللغة: فوّموا لنا، بـمعنى اختبزوا لنا وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود «وثومها» بـالثاء. فإن كان ذلك صحيحاً فإنه من الـحروف الـمبدلة، كقولهم: وقعوا فـي عاثور شرّ وعافور شرّ، وكقولهم للأثافـي أثاثـي، وللـمغافـير مغاثـير، وما أشبه ذلك مـما تقلب الثاء فـاء والفـاء ثاء لتقارب مخرج الفـاء من مخرج الثاء. والـمغافـير شبـيه بـالشيء الـحلو يشبه بـالعسل ينزل من السماء حلواً يقع علـى الشجر ونـحوها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ }.

يعنـي بقوله: { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } قال لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخسّ خطراً وقـيـمة وقدراً من العيش، بدلاً بـالذي هو خير منه خطراً وقـيـمة وقدراً وذلك كان استبدالهم. وأصل الاستبدال: هو ترك شيء لآخر غيره مكان الـمتروك. ومعنى قوله: أدْنى أخسّ وأوضع وأصغر قدراً وخطراً، وأصله من قولهم: هذا رجل دنـيّ بـيّن الدناءة، وإنه لـيدنـي فـي الأمور بغير همز إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب فـي ذلك سماعاً منهم، يقولون: ما كنت دنـيا ولقد دنأت. وأنشدنـي بعض أصحابنا عن غيره أنه سمع بعض بنـي كلاب ينشد بـيت الأعشى:

بـاسِلَةُ الوَقْعِ سَرَابِـيـلُها بِـيضٌ إلـى دانِئها الظّاهرِ

بهمز الدانىء، وأنه سمعهم يقولون: إنه لدانىء خبـيث، بـالهمز. فإن كان ذلك عنهم صحيحاً، فـالهمز فـيه لغة وتركه أخرى.

ولا شكّ أن من استبدل بـالـمنّ والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش بـالرفـيع منه.

وقد تأول بعضهم قوله: { ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ } بـمعنى الذي هو أقرب، ووجه قوله: { أَدْنَىٰ } إلـى أنه أفعل من الدنوّ الذي هو بـمعنى القرب. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: { ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ } قاله عدد من أهل التأويـل فـي تأويـله. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال: { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } يقول: أتستبدلون الذي هو شرّ بـالذي هو خير منه؟.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: { ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ } قال: أردأ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }.

وتأويـل ذلك: فدعا موسى فـاستـجبنا له، فقلنا لهم: اهبطوا مصر. وهو من الـمـحذوف الذي اجتزىء بدلالة ظاهره علـى ذكر ما حذف وترك منه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى الهبوط إلـى الـمكان إنـما هو النزول إلـيه والـحلول به.

فتأويـل الآية إذا: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بـالذي هو خير منه؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فـاستـجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }.

ثم اختلف القرّاء فـي قراءة قوله: { مِصْراً } فقرأه عامة القرّاء: «مصراً» بتنوين الـمصر وإجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نوّنوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصراً من الأمصار لا مصراً بعينه، فتأويـله علـى قراءتهم: اهبطوا مصراً من الأمصار، لأنكم فـي البدو، والذي طلبتـم لا يكون فـي البوادي والفـيافـي، وإنـما يكون فـي القرى والأمصار، فإن لكم إذا هبطتـموه ما سألتـم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بـالإجراء والتنوين، كان تأويـل الكلام عنده: اهبطوا مصراً البلدة التـي تعرف بهذا الاسم وهي «مصر» التـي خرجوا عنها، غير أنه أجراها ونوّنها اتبـاعاً منه خط الـمصحف، لأن فـي الـمصحف ألفـا ثابتة فـي مصر، فـيكون سبـيـل قراءته ذلك بـالإجراء والتنوين سبـيـل من قرأ: { { قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } [الإنسان: 15-16] منوّنة اتبـاعاً منه خط الـمصحف. وأما الذي لـم ينوّن مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التـي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.

وقد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك نظير اختلاف القرّاء فـي قراءته.

فحدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } أي مصرا من الأمصار { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }.

وحدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } من الأمصار، { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } فلـما خرجوا من التـيه رفع الـمنّ والسلوى وأكلوا البقول.

وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن قتادة فـي قوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } قال: يعنـي مصراً من الأمصار.

وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } قال: مصراً من الأمصار، زعموا أنهم لـم يرجعوا إلـى مصر.

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } قال: مصرا من الأمصار. ومصر لا تـجري فـي الكلام، فقـيـل: أيّ مصر؟ فقال: الأرض الـمقدسة التـي كتب الله لهم. وقرأ قول الله جل ثناؤه: { { ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21].

وقال آخرون: هي مصر التـي كان فـيها فرعون. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } قال: يعنـي به مصر فرعون.

حدثت عن عمار بن الـحسن، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

ومن حجة من قال: إن الله جل ثناؤه إنـما عنى بقوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها، أن الله جعل أرض الشام لبنـي إسرائيـل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر، وإنـما ابتلاهم بـالتـيه بـامتناعهم علـى موسى فـي حرب الـجبـابرة إذ قال لهم: { { يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ } [المائدة: 21] إلـى قوله: { { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24] فحرّم الله جل وعز علـى قائلي ذلك فـيـما ذكر لنا دخولها حتـى هلكوا فـي التـيه وابتلاهم بـالتـيهان فـي الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذرّيتهم الشام، فأسكنهم الأرض الـمقدسة، وجعل هلاك الـجبـابرة علـى أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفـاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض الـمقدسة، ولـم يخبرنا عنهم أنه ردّهم إلـى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فـيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر، ونتأوّله أنه ردّهم إلـيها.

قالوا: فإن احتـجّ مـحتـجّ بقول الله جل ثناؤه: { { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 57-59] قـيـل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنـما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولـم يردّهم إلـيها، وجعل مساكنهم الشأم.

وأما الذين قالوا: إن الله إنـما عنى بقوله جل وعز: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } مِصْرَ، فإن من حجتهم التـي احتـجوا بها الآية التـي قال فـيها: { { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 57-59] وقوله: { { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [الدخان: 25-28] قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم، فلـم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بـمصير بعضهم إلـيها، وإلا فلا وجه للانتفـاع بها إن لـم يصيروا أو يصر بعضهم إلـيها. قالوا: وأخرى أنها فـي قراءة أبـيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود: «اهْبِطُوا مِصْرَ» بغير ألف، قالوا: ففـي ذلك الدلالة البـينة أنها مصر بعينها.

والذي نقول به فـي ذلك أنه لا دلالة فـي كتاب الله علـى الصواب من هذين التأويـلـين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مـجيئه العذر، وأهل التأويـل متنازعون تأويـله.

فأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبـات الأرض علـى ما بـينه الله جل وعز فـي كتابه وهم فـي الأرض تائهون، فـاستـجاب الله لـموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بـمن معه من قومه قراراً من الأرض التـي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إلـيه، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر، وجائز أن يكون الشأم. فأما القراءة فإنها بـالألف والتنوين: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } وهي القرائة التـي لا يجوز عندي غيرها لاجتـماع خطوط مصاحف الـمسلـمين، واتفـاق قراءة القراء علـى ذلك. ولـم يقرأ بترك التنوين فـيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الإعتراض به علـى الـحجة فـيـما جاءت به من القراءة مستفـيضاً بـينها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ }.

قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: { وَضُرِبَتْ } أي فُرضت، ووضعت علـيهم الذلة وأُلزموها من قول القائل: ضرب الإمام الـجزية علـى أهل الذمة، وضرب الرجل علـى عبده الـخراج يعنـي بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الأمير علـى الـجيش البعث، يراد به ألزمهموه.

وأما الذلة، فهي الفعلة من قول القائل: ذلّ فلان يذلّ ذلاً وذلة، كالصغرة من صغر الأمر، والقعدة من قعد، والذلة: هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عبـاده الـمؤمنـين أن لا يعطوهم أمانا علـى القرار علـى ماهم علـيه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الـجزية علـيه لهم، فقال جل وعز: { { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29] كما:

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن وقتادة فـي قوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ } قالا: يعطون الـجزية عن يد وهم صاغرون.

وأما الـمسكنة، فإنها مصدر الـمسكين، يقال: ما فـيهم أسكن من فلان وما كان مسكيناً ولقد تـمسكن مسكنة. ومن العرب من يقول: تـمسكن تـمسكناً. والـمسكنة فـي هذا الـموضع مسكنة الفـاقة والـحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما:

حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم، قال: ثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: { وَٱلْمَسْكَنَةُ } قال: الفـاقة.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } قال: الفقر.

وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } قال هؤلاء يهود بنـي إسرائيـل. قلت له: هم قبط مصر، قال: وما لقبط مصر وهذا؟ لا والله ما هم هم، ولكنهم الـيهود يهود بنـي إسرائيـل. فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بـالعزّ ذلاًّ، وبـالنعمة بؤساً، وبـالرضا عنهم غضبـاً، جزاءً منه لهم علـى كفرهم بآياته وقتلهم أنبـياءه ورسله اعتداءً وظلـماً منهم بغير حقّ، وعصيانهم له، وخلافـاً علـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ }.

قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } انصرفوا ورجعوا، ولا يقال بـاءوا إلا موصولاً إما بخير وإما بشرّ، يقال منه: بـاء فلان بذنبه يبوء به بَوْءا وَبَوْاءً. ومنه قول الله عزّ وجلّ { { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [المائدة: 29] يعنـي: تنصرف متـحملهما وترجع بهما قد صارا علـيك دونـي.

فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفـين متـحملـين غضب الله، قد صار علـيهم من الله غضب، ووجب علـيهم منه سخط. كما:

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } فحدث علـيهم غضب من الله.

حدثنا يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَبـاءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قال: استـحقوا الغضب من الله.

وقدمنا معنى غضب الله علـى عبده فـيـما مضى من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }.

قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: «ذلك» ضرب الذلة والـمسكنة علـيهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله: «ذلك» وهو يعنـي به ما وصفنا علـى أن قول القائل ذلك يشمل الـمعانـي الكثـيرة إذا أشير به إلـيها.

ويعنـي بقوله: { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ }: من أجل أنهم كانوا يكفرون، يقول: فعلنا بهم من إحلال الذلّ والـمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبـيـين بغير الـحقّ، كما قال أعشى بنـي ثعلبة:

مَلِـيكِيّةٌ جَاوَرتْ بـالـحِجَا زِ قَوماً عُداةً وأرْضاً شَطِيراً
بِـمَا قَدْ تَربّعُ روْضَ القَطا وَرَوْضَ التَّناضِبِ حتّـى تَصِيرَاً

يعنـي بذلك: جاورتْ بهذا الـمكان هذه الـمرأةُ قوماً عداة وأرضاً بعيدة من أهله بمكان قربها كان منه ومن قومه وبدلا من تربعها روض القطا وروض التناضب. فكذلك قوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبـياءنا. وقد بـينا فـيـما مضى من كتابنا أن معنى الكفر: تغطية الشيء وستره، وأن آيات الله: حججه وأعلامه وأدلته علـى توحيده وصدق رسله.

فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله علـى توحيده، وتصديق رسله ويدفعون حقـيتها، ويكذبون بها.

ويعنـي بقوله: { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }: ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لإنبـاء ما أرسلهم به عنه لـمن أرسلوا إلـيه. وهم جماع واحدهم نبـيّ غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من أنبأ عن الله، فهو يُنْبِىء عنه إنبـاء، وإنـما الاسم منه منبىء ولكنه صرف وهو «مُفعِل» إلـى «فَعِيـل»، كما صرف سميع إلـى فعيـل من مفعل، وبصير من مبصر، وأشبـاه ذلك، وأبدل مكان الهمزة من النبىء الـياء، فقـيـل نبـي هذا. ويجمع النبـيّ أيضاً علـى أنبـياء، وإنـما جمعوه كذلك لإلـحاقهم النبـيء بإبدال الهمزة منه ياء بـالنعوت التـي تأتـي علـى تقدير فعيـل من ذوات الـياء والواو، وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت علـى تقدير فعيـل من ذوات الـياء والواو جمعوه علـى أفعلاء، كقولهم ولـي وأولـياء، ووصي وأوصياء، ودعيّ وأدعياء، ولو جمعوه علـى أصله الذي هو أصله، وعلـى أن الواحد «نبـيء» مهموز لـجمعوه علـى فعلاء، فقـيـل لهم النبآء، علـى مثال النبغاء، لأن ذلك جمع ما كان علـى فعيـل من غير ذوات الـياء والواو من النعوت كجمعهم الشريك شركاء، والعلـيـم علـماء، والـحكيـم حكماء، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعاً من العرب فـي جمع النبـي النبآء، وذلك من لغة الذين يهمزون النبـيء، ثم يجمعونه علـى النبآء علـى ما قد بـينت، ومن ذلك قول عبـاس بن مرداس فـي مدح النبـيّ صلى الله عليه وسلم:

يا خاتـمَ النّبآءِ إنّك مُرْسَل بـالـخَير كُلُّ هُدى السّبِـيـلِ هُدَاكَا

فقال: يا خاتـم النبآء، علـى أن واحدهم نبـيء مهموز. وقد قال بعضهم: النبـي والنبوّة غير مهموز، لأنهما مأخوذان من النَّبْوَة، وهي مثل النـجوة، وهو الـمكان الـمرتفع. وكان يقول: إن أصل النبـي الطريق، ويستشهد علـى ذلك ببـيت القطامي:

لـمّا وَرَدْنَ نَبِـيّاً واسْتَتَبَّ بنا مُسْحَنْفِرٌ كخُطوط السَّيْحِ مُنْسَحِلُ

يقول: إنـما سمي الطريق نبـياً، لأنه ظاهر مستبـين من النَّبوّة. ويقول: لـم أسمع أحداً يهمز النبـي. قال: وقد ذكرنا ما فـي ذلك وبـينا ما فـيه الكفـاية إن شاء الله.

ويعنـي بقوله: { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }: أنهم كانوا يقتلون رسل الله بغير إذن الله لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }.

وقوله: { ذٰلِكَ } ردّ علـى «ذلك» الأولـى. ومعنى الكلام: وضربت علـيهم الذلة والـمسكنة، وبـاءوا بغضب من الله، من أجل كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبـيـين بغير الـحقّ، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده فقال جل ثناؤه: { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ } والـمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. والاعتداء: تـجاوز الـحدّ الذي حدّه الله لعبـاده إلـى غيره، وكل متـجاوز حدّ شيء إلـى غيره فقد تعدّاه إلـى ما جاوز إلـيه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك بـما عصوا أمري، وتـجاوزوا حدّي إلـى ما نهيتهم عنه.