التفاسير

< >
عرض

إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ
٤٠
-طه

جامع البيان في تفسير القرآن

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله { { وَلِتُصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي } فقال بعضهم: معناه: ولتغذى وتربى علـى مـحبتـي وإرادتـي. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، فـي قوله: { ولِتُصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي } قال: هو غذاؤه، ولتُغذى علـى عينـي.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { وَلِتُصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي } قال: جعله فـي بـيت الـملك ينعم ويترف غذاؤه عندهم غذاء الـملك، فتلك الصنعة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت بعينـي فـي أحوالك كلها. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج { وَلِتُصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي } قال: أنت بعينـي إذ جعلتك أمك فـي التابوت، ثم فـي البحر، و { إذْ تَـمْشِي أُخْتُكَ }. وقرأ ابن نهيك: «وَلِتَصْنَعَ» بفتـح التاء. وتأوّله كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت أبـا نهيك يقرأ «وَلِتَصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي» فسألته عن ذلك، فقال: ولتعمل علـى عينـي.

قال أبو جعفر: والقراءة التـي لا أستـجيز القراءة بغيرها { وَلِتُصْنَعَ } بضم التاء، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها. وإذا كان ذلك كذلك، فأولـى التأويـلـين به، التأويـل الذي تأوّله قَتادَة، وهو: { { وَألْقَـيْتُ عَلَـيْكَ مَـحَبَّةً مِنِّـي } ولتغذى علـى عينـي، ألقـيت علـيك الـمـحبة منـي. وعنى بقوله: عَلـى عَيْنِـي بـمرأى منـي ومـحبة وإرادة.

وقوله: { إذْ تَـمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلُّكُمْ عَلـى مَنْ يَكْفُلُهُ } يقول تعالـى ذكره: حين تـمشي أختك تتبعك حتـى وجدتك، ثم تأتـي من يطلب الـمراضع لك، فتقول: هل أدلكم علـى من يكلفه؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله { إذْ تَـمْشِي أُخْتُكَ } استغناء بدلالة الكلام علـيه. وإنـما قالت أخت موسى ذلك لهم لِـما:

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما ألقته أمه فـي الـيـم { { قالَتْ لاِخْتِهِ قُصّيهِ } فلـما التقطه آل فرعون، وأرادوا له الـمرضعات، فلـم يأخذ من أحد من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لـينزلن عند فرعون فـي الرضاع، فأبى أن يأخذ، فقالت أخته: { { هَلْ أدُلُّكُمْ عَلـى أهْلِ بَـيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ } ؟ فأخذوها وقالوا: بل قد عرفِت هذا الغُلام، فدلّـينا علـى أهله، قالت: ما أعرفه، ولكن إنـما قلت هم للـملك ناصحون.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: قالت، يعنـي أمّ موسى لأخته: قصّيه فـانظري ماذا يفعلون به، فخرجت فـي ذلك { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } وقد احتاج إلـى الرضاع والتـمس الثدي، وجمعوا له الـمراضع حين ألقـى الله مـحبتهم علـيه، فلا يؤتـى بـامرأة، فـيقبل ثديها، فـيرمضهم ذلك، فـيؤتـى بـمرضع بعد مرضع، فلا يقبل شيئاً منهم، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم علـيه { هَلْ أدُلُّكُمْ عَلـى أهْلِ بَـيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لكُم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ } أي لـمنزلته عندكم وحرصكم علـى مسرّة الـملك، وعنى بقوله: { هَلْ أدُلُّكُمْ عَلـى مَنْ يَكْفُلُهُ } هل أدلكم علـى من يضمه إلـيه فـيحفظه ويرضعه ويربـيه. وقـيـل: معنى { وكَفَّلَها زَكَرِيَّا } ضمها.

وقوله: { فَرَجَعْناكَ إلـى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَـحْزَن } يقول تعالـى ذكره: فرددناك إلـى أمك بعد ما صرت فـي أيدي آل فرعون، كيـما تقرّ عينها بسلامتك ونـجاتك من القتل والغرق فـي الـيـم، وكيلا تـحزن علـيك من الـخوف من فرعون علـيك أن يقتلك، كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: لـما قالت أخت موسى لهم ما قالت، قالوا: هات، فأتت أمه فأخبرتها، فـانطلقت معها حتـى أتتهم، فناولوها إياه فلـما وضعته فـي حجرها أخذ ثديها، وسرّوا بذلك منه، وردّه الله إلـى أمه كي تقرّ عينها، ولا تـحزن، فبلغ لطف الله لها وله، أن ردّ علـيها ولدها وعطف علـيها نفع فرعون وأهل بـيته مع الأمنة من القتل الذي يتـخوف علـى غيره، فكأنهم كانوا من أهل بـيت فرعون فـي الأمان والسعة، فكان علـى فرش فرعون وسرره.

وقوله: { وَقَتَلْتَ نَفْساً } يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه علـيه الإسرائيـلـي، فوكزه موسى. وقوله: { فَنَـجَّيْناكَ مِنَ الغَمّ } يقول تعالـى ذكره: فنـجيناك من غمك بقتلك النفس التـي قتلت، إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخـلصناك منهم، حتـى هربت إلـى أهل مدين، فلـم يصلوا إلـى قتلك وقودك به. وكان قتله إياه فـيـما ذُكر خطأ، كما:

حدثنـي واصل بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن فضيـل، عن أبـيه، عن سالـم، عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّـمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطأ، فقال اللّهُ لَهُ: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَـجَيَّنْاكَ مِنَ الغَمّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً" .

حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، ومـحمد بن عمرو، قالا: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { فَنَـجَّيْناك مِنَ الغَمّ } قال: من قتل النفس.

حدثنا بِشْر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { فَنَـجَّيْناكَ مِنَ الغَمّ } النفس التـي قتل.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } فقال بعضهم: ابتلـيناك ابتلاء واختبرناك اختبـاراً. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } يقول: اختبرناك اختبـاراً.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } قال: ابتلـيت بلاء.

حدثنـي العبـاس بن الولـيد الآملـي، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أصبغ بن زيد الـجهنـي، قال: أخبرنا القاسم بن أيوب، قال: ثنـي سعيد بن جبـير، قال: سألت عبد الله بن عبـاس، عن قول الله لـموسى { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } فسألته علـى الفتون ما هي؟ فقال لـي: استأنف النهار يا بن جبـير، فإن لها حديثا طويلاً، قال: فلـما أصبحت غدوت علـى ابن عبـاس لأنتـجز منه ما وعدنـي، قال: فقال ابن عبـاس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيـم أن يجعل فـي ذرّيته أنبـياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بنـي إسرائيـل ينتظرون ذلك وما يشكون، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب فلـما هلك قالوا: لـيس هكذا كان الله وعد إبراهيـم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فأتـمروا بـينهم، وأجمعوا أمرهم علـى أن يبعث رجالاً معهم الشفـار يطوفون فـي بنـي إسرائيـل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه فلـما رأوا أن الكبـار من بنـي إسرائيـل يـموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون قالوا: يوشك أن تفنوا بنـي إسرائيـل، فتصيرون إلـى أن تبـاشروا من الأعمال والـخدمة التـي كانوا يكفونكم، فـاقتلوا عاما كلّ مولود ذكر، فـيقلّ أبناؤهم، ودعوا عاماً لا تقتلوا منهم أحداً، فتشبّ الصغار مكان من يـموت من الكبـار، فإنهم لن يكثروا بـمن تستـحيون منهم، فتـخافون مكاثرتهم إياكم، ولن يقلوا بـمن تقتلون، فأجمعوا أمرهم علـى ذلك.

فحملت أمّ موسى بهارون فـي العام الـمقبل الذي لا يذبح فـيه الغلـمان، فولدته علانـية آمنة، حتـى إذا كان العام الـمقبل حملت بـموسى، فوقع فـي قلبها الهمّ والـحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبـير، مـما دخـل علـيه فـي بطن أمه مـما يراد به، فأوحى الله إلـيها { { ألاَّ تَـخافِـي وَلا تَـحْزَنِـي إنَّا رَادُّوهُ إلَـيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الـمُرْسَلِـينَ } ، وأمرها إذا ولدته أن تـجعله فـي تابوت ثم تلقـيه فـي الـيـم فلـما ولدته فعلت ما أمرت به، حتـى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبلـيس، فقالت فـي نفسها: ما صنعت بـابنـي لو ذبح عندي، فواريته وكفنته كان أحبّ إلـيّ من أن ألقـيه بـيدي إلـى حيتان البحر ودوابه، فـانطلق به الـماء حتـى أوفـى به عند فرضة مستقـى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهمـمن أن يفتـحن البـاب، فقال بعضهنّ لبعض: إن فـي هذا مالاً، وإنا إن فتـحناه لـم تصدّقنا امرأة فرعون بـما وجدنا فـيه، فحملنه كهيئته لـم يحرّكن منه شيئاً، حتـى دفعنه إلـيها فلـما فتـحته رأت فـيه الغلام، فأُلقـي علـيه منها مـحبة لـم يُـلق مثلها منها علـى أحد من الناس { { وأصْبَحَ فُؤَادُ أُمُّ مُوسَى فـارِغاً } من كلّ شيء إلا من ذكر موسى.

فلـما سمع الذبَّـاحون بأمره أقبلوا إلـى امرأة فرعون بشفـارهم يريدون أن يذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جُبـير فقالت للذبـاحين: انصرفوا عنـي، فإن هذا الواحد لا يزيد فـي بنـي إسرائيـل، فآتـي فرعون فأستوهبه إياه، فإن وهبه لـي كنتـم قد أحسنتـم وأجملتـم، وإن أمر بذبحه لـم ألـمكم. فلـما أتت به فرعون قالت: { قرّةُ عَينٍ لِـي وَلَكَ } قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لـي فـيه. فقال: والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عين كما أقرّت به، لهداه الله به كما هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك. فأرسلت إلـى من حولها من كلّ أنثى لها لبن، لتـختار له ظِئراً، فجعل كلـما أخذته امرأة منهم لترضعه لـم يقبل ثديها، حتـى أشفقت امرأة فرعون أن يـمتنع من اللبن فـيـموت، فحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلـى السوق مـجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئراً يأخذ منها، فلـم يقبل من أحد.

وأصبحت أمّ موسى، فقالت لأخته: قُصِّيه واطلبـيه، هل تسمعين له ذكراً، أحيّ ابنـي، أو قد أكلته دوابّ البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات: أنا أدلكم علـى أهل بـيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها وقالوا: وما يدريك ما نصحهم له؟ هل يعرفونه؟ حتـى شكوا فـي ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جُبـير فقالت: نصحهم له وشفقتهم علـيه، رغبتهم فـي ظؤورة الـملك، ورجاء منفعته، فتركوها فـانطلقت إلـى أمها فأخبرتها الـخبر، فجاءت فلـما وضعته فـي حجرها نزا إلـى ثديها حتـى امتلأ جنبـاه، فـانطلق البُشَراء إلـى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إلـيها، فأتـيت بها وبه فلـما رأت ما يصنع بها قالت: امكثـي عندي حتـى ترضعي ابنـي هذا فإنـي لـم أحبّ حبه شيئاً قطّ قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بـيتـي وولدي، فـيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينـيه، فأذهب به إلـى بـيتـي فـيكون معي لا آلوه خيراً فعلت، وإلا فإنـي غير تاركة بـيتـي وولدي وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت علـى امرأة فرعون، وأيقنت أن الله تبـارك وتعالـى منـجز وعده، فرجعت بـابنها إلـى بـيتها من يومها، فأنبته الله نبـاتاً حسناً، وحفظه لـما قضى فـيه، فلـم يزل بنو إسرائيـل وهم مـجتـمعون فـي ناحية الـمدينة يـمتنعون به من الظلـم والسخرة التـي كانت فـيهم.

فلـما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أزيرينـي ابنـي. فوعدتها يوماً تزيرها إياه فـيه، فقالت لـخواصّها وظؤورتها وقهارمتها: لا يبقـينَّ أحد منكم إلا استقبل ابنـي بهدية وكرامة لـيرى ذلك، وأنا بـاعثة أمينة تـحصي كلّ ما يصنع كلّ إنسان منكم فلـم تزل الهدية والكرامة والتـحف تستقبله من حين خرج من بـيت أمه إلـى أن دخـل علـى امرأة فرعون. فلـما دخـل علـيها نـحلته وأكرمته، وفرحت به، وأعجبها ما رأت من حُسن أثرها علـيه، وقالت: انطلقن به إلـى فرعون، فلـينـحله، ولـيكرمه. فلـما دخـلوا به علـيه جعلته فـي حجره، فتناول موسى لـحية فرعون حتـى مدّها، فقال عدوّ من أعداء الله: ألا ترى ما وعد الله إبراهيـم أنه سيصرعك ويعلوك، فأرسِلْ إلـى الذبـاحين لـيذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جُبـير، بعد كلّ بلاء ابتلـي به وأريد به. فجاءت امرأة فرعون تسعى إلـى فرعون، فقالت: ما بدا لك فـي هذا الصبـيّ الذي قد وهبته لـي؟ قال: ألا ترين يزعم أنه سيصرعنـي ويعلونـي، فقالت: اجعل بـينـي وبـينك أمراً تعرف فـيه الـحقّ، ائت بجمرتـين ولؤلؤتـين، فقرّبهنّ إلـيه، فإن بطش بـاللؤلؤتـين واجتنب الـجمرتـين علـمت أنه يعقل وإن تناول الـجمرتـين ولـم يرد اللؤلؤتـين، فـاعلـم أن أحداً لا يؤثر الـجمرتـين علـى اللؤلؤتـين وهو يعقل، فقرّب ذلك إلـيه، فتناول الـجمرتـين، فنزعوهما منه مخافة أن تـحرقا يده، فقالت الـمرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما قد همّ به، وكان الله بـالغاً فـيه أمره.

فلـما بلغ أشدّه، وكان من الرجال، لـم يكن أحد من آل فرعون يخـلص إلـى أحد من بنـي إسرائيـل معه بظلـم ولا سخرة، حتـى امتنعو كلّ امتناع. فبـينـما هو يـمشي ذات يوم فـي ناحية الـمدينة، إذ هو برجلـين يقتتلان، أحدهما من بنـي إسرائيـل، والآخر من آل فرعون، فـاستغاثه الإسرائيـلـي علـى الفرعونـي، فغضب موسى واشتدّ غضبه، لأنه تناوله وهو يعلـم منزلة موسى من بنـي إسرائيـل، وحفظه لهم، ولا يعلـم الناس إلا أنـما ذلك من قِبَل الرضاعة غير أمّ موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك علـى ما لـم يطلع علـيه غيره فوكز موسى الفرعونـي فقتله، ولـيس يراهما أحد إلا الله والإسرائيـلـي، فقال موسى حين قتل الرجل: { هَذَا مِنْ عَمَل الشَّيْطانِ إنَّه عَدوّ مُضلّ مُبِـينٌ } ثم قال: { رَبّ إنّـي ظَلَـمْتُ نَفْسِي فـاغْفِرْ لِـي فَغَفَرَ لَهُ إنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيـم } } { { فأصْبَحَ فِـي الـمَدِينَةِ خائِفـاً يَتَرَقَّبُ } الأخبـار، فأتـى فرعون، فقـيـل له: إن بنـي إسرائيـل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخُذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم فـي ذلك، فقال: ابغونـي قاتله ومن شهد علـيه، لأنه لا يستقـيـم أن يقضي بغير بـيِّنه ولا ثبت، فطلبوا له ذلك فبـينـما هم يطوفون لا يجدون ثَبَتاً، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيـلـي يقاتل فرعونـياً، فـاستغاثه الإسرائيـلـي علـى الفرعونـي، فصادف موسى وقد ندم علـى ما كان منه بـالأمس وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بـالفرعونـي، قال للإسرائيـلـي لـما فعل بـالأمس والـيوم { { إنَّكَ لَغَوِيّ مُبِـينٌ } فنظر الإسرائيـلـي موسى بعد ما قال، فإذا هو غضبـان كغضبه بـالأمس الذي قتل فـيه الفرعونـي، فخاف أن يكون بعد ما قال له { { إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِـينٌ } أن يكون إياه أراد، ولـم يكن أراده، وإنـما أراد الفرعونـي، فخاف الإسرائيـلـي، فحاجز الفرعونـي فقال: { يا مُوسَى أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِـي كمَا قَتَلْتَ نَفْساً بـالأَمْسِ } وإنـما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى لـيقتله، فتتاركا فـانطلق الفرعونـي إلـى قومه، فأخبرهم بـما سمع من الإسرائيـلـي من الـخبر حين يقول: أتريد أن تقتلنـي كما قتلت نفساً بـالأمس؟ فأرسل فرعون الذبـاحين، فسلك موسى الطريق الأعظم، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم. وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى الـمدينة، فـاختصر طريقاً قريبـاً حتـى سبقهم إلـى موسى، فأخبره الـخبر، وذلك من الفتون يا ابن جُبـير.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { فُتُوناً } قال: بلاءً، إلقاؤه فـي التابوت، ثم فـي البحر، ثم التقاط آل فرعون إياه، ثم خروجه خائفـاً.

قال مـحمد بن عمرو، وقال أبو عاصم: خائفـاً، أو جائعاً «شكّ أبو عاصم»، وقال الـحارث: خائفـاً يترقب، ولـم يشكّ.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله وَقال: { { خَائِفـاً يَتَرقَّبُ } ، ولـم يشكّ.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } يقول: ابتلـيناك بلاءً.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } هو البلاء علـى إثر البلاء.

وقال آخرون: معنى ذلك: أخـلصناك. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } أخـلصناك إخلاصاً.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يعلـى بن مسلـم، قال: سمعت سعيد بن جُبـير، يفسِّر هذا الـحرف: { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } قال: أخـلصناك إخلاصا.

قال أبو جعفر: وقد بـيَّنا فـيـما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبـار بـالأدلة الـمُغنـية عن الإعادة فـي هذا الـموضع.

وقوله: { فَلَبِثْتَ سِنِـينَ فِـي أهْلِ مَدْيَنَ } وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تـمامه اكتفـاء بدلالة ما ذكر عم حذف. ومعنى الكلام: وفتناك فتونا، فخرجت خائفـاً إلـى أهل مدين، فلبثت سنـين فـيهم.

وقوله: { ثُمَّ جِئْتَ عَلـى قَدَرٍ يا مُوسَى } يقول جلّ ثناؤه: ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلـى فرعون رسولاً ولـمقداره. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { ثُمَّ جئْتَ عَلـى قَدَرٍ يا مُوسَى } يقول: لقد جئت لـميقات يا موسى.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبي نجيح عن مـجاهد، قال: { عَلـى قَدَرٍ يا مُوسَى } قال: موعد.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، قال: علـى ذي موعد.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: { عَلـى قَدَرٍ يا مُوسَى } قال: قدر الرسالة والنبوّة.

والعرب تقول: جاء فلان علـى قدر: إذا جاء لـميقات الـحاجة إلـيه ومنه قول الشاعر:

نالَ الـخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَراًكمَا أتَـى رَبَّهُ مُوسى عَلـى قَدَرِ